بعد 471 يومًا على بدء حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وإسرائيل، بوساطة قطرية – مصرية - أميركية، حيّز التنفيذ في 19 كانون الثاني/ يناير 2025. وكانت إسرائيل استغلت عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لشنّ هذه الحرب، التي تسببت في استشهاد أكثر من 47 ألف شخص، على أقل تقدير، معظمهم من النساء والأطفال، إضافة إلى أكثر من 10 آلاف مفقود، وإصابة أكثر من 110 آلاف، ونفّذت عملية تدمير ممنهجة للمدن والبلدات والمخيمات في القطاع، أتت على المباني السكنية والبنى التحتية، بما فيها التي تزود المدنيين بالخدمات الضرورية مثل الكهرباء والماء، والمدارس والجامعات والمستشفيات والمساجد والكنائس والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة، والمنشآت الاقتصادية والصناعية والزراعية وطرق المواصلات. ولم تأتِ الحرب هذه لتحقيق أهدافها الرسمية التي أعلنتها الحكومة الإسرائيلية (القضاء على حماس وحكمها وقوتها العسكرية في القطاع، واستعادة الأسرى الإسرائيليين) ولإشباع غريزة الانتقام فحسب، بل لقتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وتهجيرهم من القطاع وتحويله إلى منطقة غير صالحة للعيش أيضًا.
الخطوط العريضة للاتفاق
استند هذا الاتفاق إلى الاتفاق الذي جرى التوصل إليه بين حماس وإسرائيل في 27 أيار/ مايو 2024، وعطّله في حينه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، والذي يتألف من ثلاث مراحل رئيسة، تستمر كل واحدة منها 42 يومًا. وتُستكمل في المرحلة الثانية عملية تبادل الأسرى وانسحاب إسرائيل الكامل من القطاع، ويُتفق في المرحلة الثالثة على إعادة الإعمار وتبادل جثامين الموتى بين الطرفين.
جرى التوصل إلى اتفاق بشأن تفاصيل المرحلة الأولى، وبعد 16 يومًا من بدء تنفيذها تقرر أن تبدأ المفاوضات حول المرحلة الثانية[1]. ويضمن الوسطاء استمرار المفاوضات غير المباشرة بين حماس وإسرائيل، واستمرار وقف إطلاق النار بينهما، إلى أن يجري التوصل إلى اتفاق على استكمال المرحلتين الثانية والثالثة من تبادل الأسرى وإنهاء الحرب. وعلى الرغم من أنه لا توجد ضمانات بأن إسرائيل ستلتزم باستمرار وقف إطلاق النار بعد انتهاء المرحلة الأولى، خاصة إذا ما استمرت المفاوضات فترةً طويلة، فإن ضغوط الوسطاء من المرجّح أن تمنع إسرائيل من استئناف الحرب.
يشمل الاتفاق، في المرحلة الأولى، جدولًا زمنيًا دقيقًا لتبادل الأسرى بين الطرفين، يُطلق فيه سراح 33 محتجزًا إسرائيليًا (من بين الـ 98 محتجزًا إسرائيليًا لدى حماس) من المرضى والجرحى وكبار السن وجميع النساء، بمن فيهم المجندات، أحياءً وأمواتًا. في مقابل ذلك، تطلق إسرائيل سراح 1760 أسيرًا فلسطينيًا، منهم 290 أسيرًا من ذوي الأحكام المؤبدة من أصل 563 أسيرًا من هذه الفئة، وأكثر من 1000 معتقل من القطاع من الذين اعتُقلوا بعد 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ولم يشاركوا في أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، إضافة إلى انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي تدريجيًا من داخل القطاع إلى الشريط الحدودي مع إسرائيل، بعرض 700 متر، باستثناء خمس نقاط محددة تزيد على 700 متر بـ 400 متر في أقصى حد، وفق خرائط مرفقة. وسيخفّض جيش الاحتلال قواته من محور صلاح الدين الذي يفصل قطاع غزة عن الحدود المصرية تدريجيًا، ويبدأ في الانسحاب كليًا منه في اليوم الـ 42 من بدء تنفيذ الاتفاق، ويستكمل انسحابه في فترة لا تتجاوز اليوم الخمسين من بدء تنفيذه.
ويسمح الاتفاق بعودة المهجرين الفلسطينيين في قطاع غزة إلى بيوتهم. ففي اليوم السابع، سيُسمح للمشاة بالعودة شمالًا عن طريق شارع الرشيد من دون حمل السلاح وبلا تفتيش، وكذلك سيسمح للمركبات بالعودة شمالًا بعد فحصها عند محور نتساريم من شركة خاصة يحددها الوسطاء بالتنسيق مع إسرائيل، وبناءً على آلية متفق عليها. وفي اليوم الثاني والعشرين، سيُسمح للمشاة بالعودة شمالًا من شارع صلاح الدين من دون حمل السلاح وبلا تفتيش أيضًا.
وبخصوص المساعدات الإنسانية للقطاع، فيشمل الاتفاق دخول 600 شاحنة كل يوم من أيام وقف إطلاق النار بما فيها 50 شاحنة تحمل الوقود، يُخصص نصفها (300 شاحنة) لشمال القطاع. وسينسحب الجيش الإسرائيلي كذلك من معبر رفح وفق جدول زمني وخرائط مرفقة، وسيتم تشغيله "استنادًا إلى مشاورات آب/ أغسطس 2024 مع مصر"، وفتحه لنقل الفلسطينيين المدنيين الجرحى والمرضى بعد إطلاق سراح جميع المحتجزات الإسرائيليات، المدنيات والمجندات. وسيُسمح بعبور 50 من المقاتلين الفلسطينيين الجرحى يوميًا برفقة ثلاثة أفراد، بعد الحصول على موافقة إسرائيل ومصر[2].
نتنياهو وإطالة أمد الحرب
سعى نتنياهو منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة إلى إطالة أمدها أطول فترة ممكنة لتحقيق أهدافها المعلنة، وكذلك لتحقيق الأهداف غير المعلنة رسميًا وهي تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة وتحويله إلى منطقة غير صالحة للحياة. وقد اختلط سعي نتنياهو وحكومته لإطالة أمد الحرب حتى تحقيق أهدافها بعوامل سياسية داخلية إسرائيلية، وفي مقدمتها إدراكه أن وقفها سيقود إلى تقديم انتخابات الكنيست التي سيخسرها معسكره، بحسب مختلف استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي. واستند في محاولاته إطالة أمد الحرب إلى تماسك ائتلافه الحكومي اليميني المتطرف وتمتّعه بأغلبية مريحة في الكنيست، إضافة إلى ضعف المعارضة الإسرائيلية وانقسامها، وانزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين المتطرف والفاشي وتأييده استمرار الحرب، وتأييد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن له وعدم ممارستها ضغطًا جدّيًا عليه لوقف الحرب. وعلى الرغم من تقديم إدارة بايدن مختلف أشكال الدعم العسكري والمالي والاقتصادي والسياسي والدبلوماسي لإسرائيل من أجل تحقيق أهداف الحرب، بما في ذلك تعطيلها قرارات مجلس الأمن التي دعت إلى وقفها، وحمايتها لها من فرض المؤسسات الدولية عقوبات عليها، فإنها لم تفشل، فحسب، في الضغط على نتنياهو لوقف الحرب، بل تسامحت مع تراجعه، في أيار/ مايو 2024، عن مشروع الحكومة الإسرائيلية لتبادل الأسرى، الذي تبنّاه وأعلنه في حينه بايدن.
عوامل قبول حكومة نتنياهو الاتفاق
أسهمت عوامل عديدة في موافقة نتنياهو وحكومته على اتفاق وقف إطلاق النار، كان أبرزها:
أولًا، موقف الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، الذي أعلن منذ انتخابه رئيسًا عن إصراره على توقف الحرب قبل تسلّمه منصبه في 20 كانون الثاني/ يناير 2025. وقد شارك مبعوثه إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، مشاركة فعالة في الأسابيع الأخيرة، وبالتنسيق مع إدارة بايدن، في مفاوضات وقف إطلاق النار، ووضع ثقله من أجل التوصل إلى الاتفاق. وفي هذا السياق، أوضح ويتكوف لنتنياهو في اجتماعهما في أثناء هذه المفاوضات بأن ترامب يتوقع منه الموافقة على الصفقة[3].
ثانيًا، موقف قادة المؤسسة الأمنية والعسكرية من الاتفاق، وفي مقدمتهم رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ورئيسَا جهازَي الموساد والشاباك، الذين عبّروا في الشهور الأخيرة عن تأييدهم الواضح للتوصل إلى اتفاق مع حماس، يضمن إعادة المحتجزين الإسرائيليين وينهي الحرب على غزة. وأكدوا في مناسبات عديدة أن الجيش الإسرائيلي استنفد أهدافه العسكرية في القطاع، وأن القضاء على حكم حماس بالكامل يستدعي وضع بديل سياسي في اليوم التالي للحرب. إضافة إلى ذلك، أكدت المؤسسة العسكرية أن إطالة أمد الحرب أنهكت الجيش النظامي وقوات الاحتياط، وأن ثمة ضرورة لوقف القتال من أجل تخفيف العبء عنها.
ثالثًا، ازدياد ضغوط أهالي المحتجزين وأنصارهم داخل المجتمع الإسرائيلي، وتنامي تأييد النخب داخله لمطلبهم بعقد صفقة تبادل للأسرى ووقف القتال في القطاع، وخاصة في صفوف قادة الرأي العام ووسائل الإعلام، الأمر الذي انعكس في تصاعد تأييد الرأي العام الإسرائيلي لعقد الصفقة ووقف القتال. وقد أظهر استطلاع للرأي العام الإسرائيلي أن 73 في المئة من المستجيبين يؤيدون اتفاق تبادل الأسرى ووقف القتال في القطاع، في حين يعارضه 19 في المئة، و8 في المئة ليس لديهم رأي في ذلك[4].
رابعًا، صمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزة واستمرار المقاومة العسكرية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي وتكبيده خسائر في الأرواح، واتضاح عجزه عن إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين أحياءً من خلال عملية عسكرية. وقد أدت عملياته منذ تراجع نتنياهو عن اتفاق تبادل الأسرى في أيار/ مايو 2024 إلى قتل ثمانية محتجزين و122 ضابطًا وجنديًا إسرائيليين، فضلًا عن مئات الجرحى في صفوف الضباط والجنود[5]. وفوق ذلك، أظهرت عودة الجيش الإسرائيلي في تشرين الأول/ أكتوبر 2024 إلى القتال في مخيم جباليا وبيت حانون في محافظة شمال القطاع، التي كان قد احتلها في السابق عدة مرات، بعد أن هجّر سكانها، فشلًا في القضاء على المقاومة فيها. وقد قُتل في الشهور الثلاثة التي سبقت التوقيع على الاتفاق 55 ضابطًا وجنديًا إسرائيليًا، سقط منهم 15 ضابطًا وجنديًا في العشرة أيام الأخيرة فقط[6].
التحديات التي تواجه الاتفاق
ثمة تحديات ومعوقات جدّية تواجه الانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية في اتفاق وقف إطلاق النار، تعود أساسًا إلى رغبة نتنياهو في استمرار الحرب أطول فترة ممكنة لتحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة، التي تتقاطع مع مصالحه الشخصية والحزبية في استمرار حكمه والحفاظ على ائتلافه الحكومي أطول فترة ممكنة. وعلى الرغم من انسحاب حزب "القوة اليهودية" بقيادة إيتمار بن غفير من الائتلاف الحكومي، وإعلانه أنه سيعود إليه إذا استأنفت إسرائيل الحرب على غزة بعد تنفيذ المرحلة الأولى[7]، فإن الائتلاف لا يزال يتمتع بأغلبية 62 عضو كنيست من أصل 120 مجموع الأعضاء. وعلى الرغم من تهديدات حزب "الصهيونية الدينية" بقيادة بتسلئيل سموتريتش بالانسحاب من الحكومة في حال لم تستأنف إسرائيل الحرب بعد تنفيذ المرحلة الأولى، فإن من المشكوك فيه أن يقدم على تنفيذ هذا التهديد. لكن من غير المستبعد أن يعود هذا التهديد إلى المنافسة المحتدمة بين هذين الحزبين على نيل تأييد الجمهور اليميني الديني المتطرف والفاشي من ناحية، وتعزيز موقف نتنياهو أمام الرئيس الأميركي من ناحية أخرى. وتعتمد إمكانية الانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية على مجموعة من العوامل، أهمها مستوى الضغط الذي تمارسه إدارة ترامب الجديدة على نتنياهو للمضي قُدمًا في تنفيذ المرحلتين الثانية والثالثة من الاتفاق.
خاتمة
يفتح اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل آفاقًا لإنهاء حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والبدء في إعادة المهجّرين إلى بيوتهم والعمل على إعادة إعمار القطاع. وهذا يستدعي وحدة وطنية فلسطينية وموقفًا عربيًا يضمن حشد طاقات المجتمع الدولي للضغط على حكومة اليمين المتطرف والفاشي في إسرائيل لوقف الحرب.
[1] ينظر: "النص الحرفي لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة"، العربي الجديد، 15/1/2025، شوهد في 20/1/2025، في: https://acr.ps/1L9zQHK
[2] المرجع نفسه.
[3] عاموس هرئيل، "الثمن الذي تدفعه إسرائيل في صفقة المختطفين ثقيل، لكن لا يمكن صدّه"، هآرتس، 14/1/2025، شوهد في 20/1/2025، في: https://acr.ps/1L9zQq0 (بالعبرية)
[4] "73 في المئة يؤيدون الصفقة المتبلورة"، معاريف، 17/1/2025. (الطبعة الورقية بالعبرية)
[5] هرئيل.
[6] يوسي يهوشواع، "الأثمان ستكون مرتفعة"، موقع واي نت (التابع لصحيفة يديعوت أحرونوت)، 14/1/2025، شوهد في 20/1/2025، في: https://acr.ps/1L9zR0j (بالعبرية)
[7] نوعا شبيغل وميخائيل هاوزر طوف، "القوة اليهودية: سنترك غدًا الائتلاف احتجاجًا على إقرار صفقة إطلاق سراح الأسرى"، هآرتس، 18/1/2025، شوهد في 20/1/2025، في: https://acr.ps/1L9zQyn (بالعبرية)