بعيدًا عن جدل ما حقّقته أو لم تحقّقه عمليّة "طوفان الأقصى" من نتائج سياسيّة أو تحرريّة، وقريبًا مما أنتجته الصفقة "الهدنة" التي وقعت مؤخّرًا بين إسرائيل وحماس في غزّة؛ وانطلاق عمليّة "الأسوار الحديديّة"، في الضفة؛ بات من الملحّ والضروريّ، إعادة النظر في التحدّيات التي أصبحت تهدّد كامل القضيّة الفلسطينيّة ومحاولات تذويبها ما بين مشروع محتمل لفوضى خلّاقة في قطاع غزّة، تُبقي على حركة حماس دون حياة ودون موت، والعمل باتجاه السيطرة على الضفّة الغربيّة، بغية تقويض أركان منظّمة التحرير؛ في محاولة جادّة للمسّ بتعبيرات الهويّة الوطنيّة، على المستويين الفصائليّ والاجتماعيّ.

تأتي هذه التداعيات بالتزامن مع انطلاق حملة مسعورة لتغيير تعريف الضفّة الغربيّة في دوائر المنظومة الدوليّة، والتي بدأت فعليًّا مع تشكيل لوبي "يهودا والسامرة" في الكونغرس الأميركيّ، إذ يطمح هذا اللوبي إلى سنّ قانون يحظر استخدام مصطلح "الضفّة الغربيّة" في المعاملات والتصريحات الرسميّة الأميركيّة، بناءً على اعتبارها "أرضًا للشعب اليهوديّ". هذا فضلًا عن استلام شخصيّة سياسيّة جدليّة غير متوقّعة، كما هي شخصيّة ترامب لمقاليد حكم البيت الأبيض، مع ما سمي في الإعلام بـ "فريق الأحلام" القريب من الصهيونيّة الدينيّة داخل إسرائيل.

الأدهى والأمرّ، أن يحدث كلّ ذلك في ظلّ تهاوي المنظومة الدوليّة على نحو يؤكّد أنّها بكلّ مؤسّساتها، لم تكن يومًا إلّا مجرّد أدوات بيد القوى العظمى؛ فلا أكثر من الشجب والاستنكار يمكننا أن نسمعه عن القانون الدوليّ المنتهك في فلسطين، ولا ننتظر سوى المساعدات الإنسانيّة للشعب المنكوب، في مقاربة تجتهد لتحويل القضيّة الفلسطينيّة من كونها قضيّة سياسيّة، إلى قضيّة إنسانيّة؛ ما يدلّل على أنّ المشروع الصهيوني في المنطقة ما هو إلّا شكل من أشكال صراع المركز الغربي مع الهامش الشرقيّ. وما تبقّى لا يعدو أكثر من كونه تفاصيل.

هل يمكنك النزول في ذات النهر مرتين؟

سؤال فلسفيّ طرحه أحدهم قديمًا، ليبدو للوهلة الأولى غير ذي صلة؛ ولكنّه في العمق يمثّل مقاربة بمعايير الملاءمة، يمكنها أن تطلعنا على الترابط العضويّ بين مياه النهر، ومياه العمل السياسيّ؛ فلطالما ظنّ البعض منّا أن بمقدوره فعل الولوج إلى ذات النهر مرتين، ناسيًا أو غافلًا أن مياه النهر، إنّما هي مياه متدفّقة، متحرّكة باستمرار، لا استقرار فيها، ولا ثابت أو ثبات؛ فهل نخطئ مرّة أخرى في ظلّ هذا الظرف الاستثنائيّ الذي تمرّ به الحالة الوطنيّة، ونعيد إنتاج الانقسام على المستوى الاجتماعيّ، ونسقط في شرك الاستقطاب السياسيّ الذي وقعنا فيه قبلًا؟

علينا أن نتذكّر هنا بعض الشواهد الكاشفة لما وصلنا إليه، فبالنظر إلى حالة التشظّي التي أصابت مفهوم الهويّة الوطنيّة، إنّما جدير بنا الانتباه إلى أنّها، نتاج طبيعيّ لحال الانقسام لما يقارب العقدين من الزمن، ما أخضع البنية الاجتماعيّة الفلسطينيّة لبرنامجين متناقضين بين جناحيّ الوطن، الضفّة والقطاع؛ فضلا عن ارتهان شبكة علاقاتنا الإقليميّة والدوليّة، هنا وهناك، لمصالح أطراف ما فتئت تستخدم القضيّة الفلسطينيّة ورقة مساومة تخدم طموحاتها في المقام الأوّل، هذا بالإضافة إلى عمل البرنامجين تحت طائل الشروط السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والقانونيّة المتباينة مع مفاهيمنا الثوريّة، والمتعارضة مع قيمنا الاجتماعيّة، ما أنتج طبقة وسطى منتفعة جرّاء ارتباطها العضويّ بثقافة الاستهلاك، المعتمدة بالكليّة على الراتب الوظيفيّ، أو المخصّص العسكريّ؛ مما خلق حالة مركّبة من العلاقات بين الأحزاب والحركات الوطنيّة من جهة، وقواعدها الشعبية من جهة أخرى، فتراجع مفهوم النضال، وتاهت البوصلة.

وعليه، نحن بحاجة ماسّة لإعادة الاعتبار للكثير من مفاهيمنا الوطنيّة، وعلى رأسها معنى المقاومة ومتطلّباتها الآنيّة والمستقبليّة، في ظلّ المتغيّرات الإقليميّة المتسارعة، تحديدًا بعد انكفاء مشروع محور المقاومة، ودخول محاور جديدة على مشهد الصراع الإقليميّ. وكذا الأمر لمعنى السلام، بوصفه خيارًا وحيدًا، بعد أن عمل نتنياهو لثلاثة عقود ويزيد على تقويضه بشكل متدرّج ومرحليّ.

نحن بحاجة لهذه المراجعة ليس على صعيد "الكفاح المسلّح" الذي أطلقته الثورة الفلسطينيّة قبل ظهور فصائل "المقاومة" وحسب، وإنّما أيضًا على صعيد إجراء مراجعة شاملة لبرامج حركة التحرّر الوطنيّ، سواء ارتبط الأمر بالسياق السياسيّ، أو بالسياق الثوريّ؛ ذلك لأنّ تحديات ومخاطر ما هو قادم، أكثر خطورة من أيّ وقت مضى؛ هذا فضلًا عن كون مفهوم المقاومة بالأساس، لا يرتبط حصرًا بالفعل المسلّح، ولكنّه في الحقيقة والعمق منه، هو فعل سياسيّ واجتماعيّ بامتياز، وإن اتخذ من الأداة المسلّحة وسيلة فاعلة، ولكنّها لا يجب أن تكون غاية كليّة.

فإن المقاومة في سياقها الاجتماعيّ، لا بدّ لها أن تكون فعل حياة يمكنها أن تشكّل رافعة لمطلب الحريّة؛ مقاومة تؤكد وجوبها ببعدها الاستراتيجيّ الشموليّ، لا الجزئيّ، أو الحزبيّ، واستراتيجيّة بمقدورها أن تعبّر عن المعنى الوطنيّ في بعده السياسيّ، دون أن تغيّب البعد الاقتصاديّ، الذي يشار إليه في الحقل السياسيّ العام تحت عنوان ثقافة الاقتصاد المقاوم، ذاك الذي يدفعنا على نحو خاص باتجاه ضرورة التفكير في كيفية تفكيك ما يعرف بثقافة الاستهلاك.

في هذا السياق، نحن بحاجة ماسة لتغيير المعنى، ما يلزمنا أولًا تغيير أفكارنا عن الأشياء والأحداث، ذلك لأنّ تغيير معرفتنا بالحدث وما أحاط به من ظروف، هو ما يسهم في بلورة معناه في أذهاننا، ومتى تطوّرت وتراكمت هذه المعرفة، تبعها تطوّر وتغيّر منطقي في معنى الحدث وطريقة تعبيرنا عنه والتعامل معه. فمع التأكيد البديهي والمبدئي، أن القدس بوصلة الدليل والبرهان على حضور الفعل الوطنيّ؛ جدير بمنظومة الفكر السياسيّ الفلسطينيّ، أن تقيّم مراحل النّضال الوطنيّ منذ انطلاقته الأولى، وإلى يومنا هذا، وفق حاجة كلّ مرحلة من مراحله، ووفق كلّ ظرف من الظروف السياسيّة، إقليميّة كانت أم دوليّة؛ ليس للمحاسبة والمحاكمة، ولكن لأنّ لكلّ زمن وسيلة، ولكلّ وسيلة وظيفة نضاليّة، تختلف باختلاف الوقائع والتحدّيات، ونحن اليوم بحاجة ماسّة لنواجه واقع اليوم وتحدّيات الغدّ.

بناء على ما تقدم، فإنّ على فصائل المقاومة من جانبها، أن تستخلص دروس المواجهة الأخيرة وتكاليفها الباهظة على المستويين الشعبيّ، والعسكريّ، فضلًا عن فاتورتها السياسيّة التي قد تعيدنا إلى مربّعات كنّا قد تخطّيناها بالكثير من الدّماء والأعمار؛ دماء الشهداء، وأعمار أسرانا البواسل؛ وعلى جبهة فصائل منظّمة التحرير، جدير بها أن تعيد قراءة المشهد الجيوسياسيّ المتحرك في كامل الإقليم، خاصّة وأنّ دخول محاور جديدة على جبهة التدافع الإقليميّ، قد يدخلنا إلى حزمة من التحدّيات الجديدة التي ستخلق بالضرورة والاحتمال عوامل ضغط إضافية على آمال وطموحات شعبنا في التحرّر والخلاص، والهدف دائما يكمن في تراجع مفهوم النضال، والانتماء، والإيثار، والعمل الجمعيّ لصالح الفرديّ والحزبيّ، وانتشار السلوكيّات الزبائنية، على حساب الممارسة النضاليّة، ليس فقط في دوائر النظام السياسيّ، ولكن أيضا داخل أروقة الأحزاب والفصائل الوطنيّة بما فيها المقاومة، لنصبح مع قضيتّنا فرادى وجماعات، كالأيتام على موائد اللئام. ولذا علينا أن نعمل بعيدًا عن حالة الدوران في حلقات مفرغة من المضامين، على أمر واحد ووحيد، هو المراجعة حيث التدافع اليوم يدور حول إعادة هندسة الصراع.