هذا المقال هو الجزء الأوّل من قراءتنا في مذكّرات "آفي شلايم"، والتي تُنشر في جزءين.
"الصهيونيّة شيء أشكنازيّ، لا صلة لنا به"...
كان هذا جواب "مسعودة"، والدة آفي شلايم له عندما سألها ذات مرّة إذا ما كان لديهم أصدقاء صهاينة. مضى زمن على ذلك النقاش الّذي أيقظه بعض اليهود الشرقيّين (مزراحيم)، خصوصًا العراقيّين منهم، منذ مطلع تسعينيّات القرن الماضي حول استعداء الدولة العبريّة لأصولهم الشرقيّة، ومحوها بما أوتيت من عنف لهويّة "اليهوديّ – العربيّ" حيث بدت استحالة وجود اليهوديّ العربيّ بالنسبة للصهيونيّة.
لم يعد ما يمكن وصفه بالـ "يهود العرب" كهويّة في إسرائيل، بعد أن عملت ماكينة الصهر على صهينة اليهود – العرب المهاجرين بأسنان استعماريّة - استعلائيّة مختلفة منذ عام 1948. إلّا أنّ كتاب "العوالم الثلاثة: مذكّرات يهوديّ - عربيّ" لآفي شلايم والصادر مؤخّرًا عن دار "منشورات التكوين"، تعيد ترجمته إلى العربيّة النبش لا في ذاكرة شلايم وحده، إنّما في سيرة ما يزيد عن 130 ألف يهوديّ – عراقيّ جرى نقلهم منذ مطلع خمسينيّات القرن الماضي إلى فلسطين اضطراريًّا، ولم تكن إسرائيل خيارًا أيديولوجيًّا لمعظمهم كما يذكر شلايم في مذكّراته. ليفتح بها مساحة أخرى من حكاية ما اعتبره شلايم وكثيرون من يهود العراق "يريداه" أيّ هبوط، وليس "علياه" صعودًا إلى جبل صهيون كما أرادت أن تطلق الصهيونيّة على عمليّة الهجرة إلى فلسطين. وقد اعتبرها صاحب المذكّرات "يريداه" لأنّها كانت هبوطًا بالنسبة له ولعائلته على السلّم الاجتماعيّ والاقتصاديّ.
يذهب آفي شلايم في مذكّراته للنبش في ذاكرته المبعثرة بين عوالم ثلاثة تمثّلت في ثلاث مدن، بغداد ورمات غان ولندن. لم يعِ شلايم طفولته في مدينة بغداد الّتي غادرها مع عائلته قسرًا، ولم يتجاوز سنّ الخامسة إلى رمّات غان من ضواحي تل أبيب المستعمرة المقامة في قضاء يافا، على جزء من أراضي قرية سلمة المهجّرة. ومن رمات غان إلى لندن قبل أن يبلغ شلايم سنّ البلوغ لإتمام دراسته فيها. كانت بغداد بمثابة "جنّة مال اللّه" بالنسبة لآفي شلايم وعائلته، وكلّ اليهود القادمين منها، بينما رمات غان صارت أشبه بـ "بغداد إسرائيل" بحسب شلايم بعد أن حطّ فيها معظم يهود بغداد، فيما ظلّت لندن وعالمها ذاكرة تخصّ شلايم وحده الّذي وجد بها المدينة الملاذ أو الخلاص من رمات غان وفكرة إسرائيل عمومًا بحسب ما يروي.
لا يزال تعداد يهود بغداد قبل خروجهم منها على أثر نكبة فلسطين عام 48، والّذي وصل إلى نحو 130 ألف يهوديّ، يعتبر خبرًا مفاجئًا للقارئ حتّى اليوم، وذلك رغم إشارة عدّة وثائق ودراسات، وكذلك كتب السير والمذكّرات إلى ذلك. فأن يشكّل يهود العراق نحو ثلث عاصمته بغداد حقيقة يصعب تصديقها، لأنّ ترحيلهم منها بتواطؤ الحركة الصهيونيّة عليهم، يمثّل امتدادًا لنكبة الشعب الفلسطينيّ المقتلع من أرضه في عام النكبة. ولم يكن يهود بغداد جالية فيها أو مجرّد جماعة وافدة إلى المدينة، إنّما كان اليهود جزءًا أصيلًا من تكوين بغداد التاريخيّ – الحضاريّ، وتشكيلها الاجتماعيّ. وقد أفرد شلايم الفصول الأولى من كتابه للحديث عن أصول عائلته البغداديّة وعلاقة أجداده وأعمالهم وأرزاقهم في المدينة، لا بل ودور يهود المدينة في صناعة هويّة العراق الحديث ما بعد الاستقلال، إلى حدّ استئجار الملك فيصل ابن الحسين فيلا شعشوع قصرًا له قبل أن يبني قصرًا خاصًّا به، وشاؤول شعشوع هو تاجر شاي يهوديّ كان قد شيّد لنفسه بيتًا أشبه بقصر على ضفاف نهر دجلة اعتبر أجمل وأفخم بيت في العاصمة بغداد كلّها.
لم يشكّل يهود العراق سوى 2% من سكّانه، ومع ذلك فقد سيطروا على 75% من وارداته بحسب شلايم، حيث ضمّت غرفة تجارة بغداد في العام 1935 تسعة يهود، وأربعة مسلمين واثنين من البريطانيّين، ومن هنا اعتبرت بغداد بالنسبة ليهودها "جنّة مال اللّه" إذ منحتهم العاصمة نفوذًا ماليًّا – تجاريًّا، والّذي جعل منهم جزءًا من الطبقة المدنيّة المتنفّذة اجتماعيًّا وثقافيًّا فيها كذلك، حتّى إنّ كنس الصلاة الخاصّة باليهود كان لها حضورًا كبيرًا في بغداد، حيث وصل تعدادها عام 1948 بحسب صاحب المذكّرات إلى نحو خمسة وخمسين كنيسًا. كما كان أوّل وزير ماليّة عراقيّ يهوديّ هو ساسون حسقيل (1860-1932)، والّذي عرف بلقبه التشريفيّ العثمانيّ "ساسون أفندي"، كما اعتبر ساسون حسقيل "أب البرلمان" العراقيّ، حيث انتخب في أوّل برلمان عراقيّ سنة 1925 في ظلّ الاستعمار البريطانيّ على العراق. أحبّ يهود العراق أو بغداد للدقّة الملك فيصل، ولمّا توفّي هذا الأخير في أيلول/سبتمبر 1933 بصورة غير متوقّعة بل وغامضة أثناء خضوعه لفحص طبّيّ شامل في عيادة طبّيّة في مدينة "برن" بسويسرا، كان يهود بغداد من بين أوّل من خرجوا إلى الشوارع يبكون ملكهم، وإنشادهم أغنية تلعن سويسرا، وكانت مسعودة، أمّه لآفي شلايم، من بين يهود كثر حسبوا أنّ البريطانيّين هم الّذين أمروا سرًّا بتسميم فيصل الملك الّذي لم يعد يخدم مصالحهم.
عملت الموسيقى بحسب آفي شلايم كجسر بين اليهود والمسلمين في بغداد، متجاوزة جدران الهويّة الدينيّة، وقد ميّز كثير من اليهود أنفسهم كملحنين، وكتاب أغان، ومغنّين، وعازفين على الآلات الموسيقيّة التقليديّة المختلفة، كما كُِتب الكثير عن دور يهود بغداد في الموسيقى العربيّة – العراقيّة، وتحديدًا في "المقام" الموسيقيّ، خصوصًا أن للمقام الموسيقيّ اتّصالًا بالثقافة اليهوديّة – السفارديّة حيث يستخدمه اليهود السفارديم في طقوس صلواتهم الأسبوعيّة والأيّام المقدّسة في الكنس. غير أنّ شلايم في سياق حديثه عن سيرة أمّه في العاصمة بغداد في ثلاثينيّات وأربعينيّات القرن الماضي، يشير إلى أشهر ثلاث مغنّيات بغداديّات عرفتهنّ العاصمة في حينه، ومن بينهنّ كانت سليمة مراد، مغنّية يهوديّة ذاع صيتها، وعُرِفت شعبيًّا بـ "سليمة باشا". غنّت سليمة أغان عربيّة حديثة عوضًا عن "المقام" العراقيّ التقليديّ، وقد اندمجت سليمة بالمجتمع العراقيّ بعد زواجها بالمطرب العراقيّ الشهير ناظم الغزالي، ولأنّ ناظم كان مسلمًا، اعتنقت سليمة الإسلام بدورها. لم تترك سليمة العراق حين تركه اليهود عامي 1950-1951 إلى فلسطين وبلا رجعة، بل ظلّت في العاصمة بغداد حتّى وفاتها عام 1974.
غنّت سليمة باشا في ليل حنّاء مسعودة والدة شلايم حتّى مطلع الفجر، بعد أنهت سهرة غنائيّة في نادي الجواهريّ في بغداد، وكان في صحبتها على ما ظلّت تتذكّر والدة شلايم الشقيقين الكويتيّ، داوود وصالح، وهما موسيقيّان يهوديّان لحّنا كثيرًا من أغاني سليمة، وهما شقيقان لا ينفصلان كما لو أنّهما توأم سياميّ، جاءا من الكويت كما يوحي اسمهما، يقول آفي شلايم، حيث انتقلا من الكويت إلى البصرة، ومن البصرة إلى بغداد، حيث أصبحا فيها نجمين موسيقيّين بارزين. كان داوود يعزف على العود، وصالح على الكمان، واشتهرا في حفلاتهم الّتي كانوا يقيمونها في نادي الهلال في بغداد، ومنه اكتسبا شعبيّة كبيرة، وكان لهما برنامج إذاعيّ أسبوعيّ من دار الإذاعة في العاصمة العراقيّة بغداد.
كانت الأندية مظهرًا آخر من مظاهر حياة اليهود الاجتماعيّة في العاصمة بغداد، والّتي كان منها سبعة أو ثمانية أندية، وقد حملت تلك الأندية أسماء عربيّة متّصلة بالمعجم العربيّ – العراقيّ، مثل نادي "الزوراء" ونادي "الرشيد" وهما من أكثر الأندية اليهوديّة تميّزا، واعتُبِرا معيارًا للثروة والمنزلة الاجتماعيّة، إذ لم تكن تمنح العضويّة فيهما لأيّ يهوديّ، ممّا يدلّ على أنّ المجتمع اليهوديّ – البغداديّ شهد تسلسلًا طبقيًّا في داخله.
كانت الوثائق الثبوتيّة – العراقيّة تعرّف اليهوديّ في البطاقة بـ "الموسوي"، أي من أتباع ديانة موسى، لتمييزهم كيهود عن المسلمين والمسيحيّين في العراق. ولم يشعر يهود بغداد في الاغتراب على مدار تاريخهم فيها، غير أنّ الأحداث الّتي عرفت بـ"الفرهود" وهي التسمية العربيّة للاعتداءات الّتي تعرّض لها يهود بغداد في مطلع حزيران/يونيو 1941، وتعني التسمية "اختراق القانون والنظام"، على أثر الفوضى الّتي أعقبت سقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني، كانت بمثابة المقدّمة للمؤامرة الصهيونيّة الّتي دُبّرت لإخراج اليهود من العراق. راح ضحيّة أحداث الفرهود، خلال يومين من الفوضى 179 يهوديًّا، وجرح منهم المئات، ويصرّ شلايم على أنّ الحادثة كانت مدبّرة بتواطؤ بريطانيّ على العراق، وليس على يهوده فقط، وذلك من خلال إذكاء نار النعرات الطائفيّة بين مسلمي العاصمة ويهودها.
مع ذلك ظلّت "الفرهود" واقعة عرضيّة في ذاكرة يهود بغداد، غير أنّ الصهيونيّة قد قرأت بأثر تراجعيّ تلك الحادثة على أنّها المعادل العربيّ لـ"ليلة البلّور" أو "ليلة الزجاج المكسور" الشهيرة في ألمانيا النازيّة، في محاولة أرادت منها الصهيونيّة فرض روايتها حول ترحيل يهود بغداد لاحقًا في مطلع خمسينيّات القرن الماضي، بوصفه ترحيلًا مردّه "اللاسامية الشرقيّة". استعاد يهود بغداد بعد الفرهود إيقاع حياتهم الطبيعيّة في العاصمة العراقيّة، دون أن يعرفوا بأنّهم على موعد مع ما سمّاه شلايم "قنبلة بغداد"...