عنجهيّة الخطاب الأميركيّ الّذي ألقاه ترامب بحضور بنيامين نتنياهو بخصوص غزّة والقضيّة الفلسطينيّة عمومًا، وحديثه عن تطهير عرقيّ للسكّان واستبدالهم بآخرين، يختزل كلّ شيء متعلّق بالدور الأميركيّ الّذي عرفه الفلسطينيّون والعرب على مدار عقود، لكنّ هذه المرّة بإعلان صريح عن المشاركة بالعدوان المباشر وباحتلال طويل الأمد لغزّة، بعد إتمام إسرائيل لجرائم الإبادة والحرب لتحقيق هذا الهدف، ممّا يطرح السؤال العقيم والأزليّ عن الرهان العربيّ والفلسطينيّ على أميركا لتحقيق السلام، وكلّ الخطط والسياسات الواضحة الّتي أعلن عنها كلّ من ترامب ونتنياهو انقلاب على كلّ المفاهيم المتعلّقة بالقانون الدوليّ وشرعيّته، وعلى حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطينيّ، والتساؤل الّذي يطرق الرؤوس طرقًا يدور حول المشاريع المتمخّضة عن تفاهم ترامب – نتنياهو، لإعادة صياغة وترتيب المنطقة الّتي ينظرون إليها بلا شعوب ودول، إلّا من خلال استعلائيّة استعماريّة تفرض مشاريعها، وعلى الآخرين التنفيذ فقط والتمويل.
للإجابة، لا بدّ من إدراك وتلمّس معاني السياق الجيوبولتيكي الّذي فرض نفسه، وتحكّم بالتالي في سيرورة المشاريع المطروحة، الّتي ينظر إليها الطرفان الأميركيّ والصهيونيّ في المنطقة، بشكل مشترك، فدونالد ترامب يرى في رحيل سكّان غزّة فرصة لإقامة ريفييرا مذهلة في غزّة وشاطئها، ليستثمر بها رأس المال الغربيّ والإسرائيليّ والسيطرة على مواردها الطبيعيّة، وإقامة حزام أمان للمشروع الاستعماريّ الصهيونيّ القائم أصلًا على نفس الأيديولوجيا الاستيطانيّة الّتي تدخل طورها الثاني في القرن الحادي والعشرين، منذ أن طرأت مستجدّات وصول تحالف اليمين الأميركيّ مع نظيره الصهيونيّ إلى ذروته في حرب الإبادة على غزّة، وتبنّي إدارة ترامب الاهتمام الأكبر لفكرة اليمين الصهيونيّ منذ ولايته الأولى بتقسيم المناطق الفلسطينيّة إلى جزر بشريّة صغيرة في صفقة القرن، وصولًا للضغط بتنفيذ حرفيّ لأفكار عتاة الإرهاب في اليمين الصهيونيّ لإقرار ترانسفير جماعيّ لأصحاب الأرض والتاريخ والحضارة.
فالشعب الّذي يراد له الرحيل بعيدًا عن أرضه، هو ضحيّة سلسلة من وعد من لا يملك لمن لا يستحقّ، ونكبة ونكسة لصاحب الأرض والهويّة والتاريخ والحضارة، وتبجّح ترامب برغبته الاستحواذ على غزّة، وطرد سكّانها بذريعة معاناتهم الّتي كان سببها سلاح دولته ودعمها المطلق للجرائم.
ارتياح سموتريتش وبن غفير لوعد ترامب بتنفيذ جريمة التطهير العرقيّ، تقاسمته معظم أحزاب المجتمع الإسرائيليّ بنفس السرور والاهتمام، عبر لابيد وليبرمان وبني غانتس عن الارتياح لمتانة التحالف مع الولايات المتّحدة، وأرييه درعي اختصر كلّ ذلك بوصف ترامب بأنّه "رسول اللّه للشعب اليهوديّ"؛ يدلّ من كلّ ذلك، في المضمون والتوقيت لوعد ترامب الخرافيّ، أنّ طموح الفكرة الصهيونيّة ونجاحها كان وسيبقى مرهونًا بدعم أميركا لها، وفشلها مرتبط بصمود ومقاومة الشعب الفلسطينيّ الّذي لم يبخل في بذل الغالي والنفيس للتصدّي لكلّ محاولات طمس حقوقه التاريخيّة، وبما أنّ التاريخ مختلف اليوم عن وعد بلفور 1917، وعن النكبة الأولى 1948، وعن الهزيمة 1967، والفلسطينيّون والعرب راكموا شواهد وخبرة لا حصر لها من البيانات والسياسات والوثائق والخرائط والبرامج الصهيونيّة، فإنّ المسعى الصهيونيّ لتنفيذ الجريمة لن يكون بسهولة ما يروّج له ترامب ونتنياهو بخديعة ودسائس "السلام" وتزوير الحقائق.
توفير الظروف الملائمة لمشروع القضاء على القضيّة الفلسطينيّة، لم يتوقّف، ووضع العراقيل أمام تحقيق السلام المزعوم، والقائم أساسا على فرضيّة القبول العربيّ والدوليّ بإقامة دولة فلسطينيّة على حدود الرابع من حزيران عام 76 وعاصمتها القدس، تحقّق جزء منها في خديعة أوسلو 1993، والّتي لم يتبقّ منها شيء يصلح للحديث عنه، أو للتباحث بفكرته مع الجانب الأميركيّ مع ابتداع ترامب فكرته الاستعماريّة المتمّمة لجريمة الإبادة الجماعيّة وشهيّته للاعتراف بسيادة إسرائيل على الضفّة الغربيّة والقدس والجولان، لأنّ الثابت في عقيدة صهيونيّة بحسب كتاب رسائل بن غوريون لزوجته، وقال فيه عن "أهمّيّة الاستيلاء على مزيد من الأراضي ليس مهمًّا في حدّ ذاته فقط، بل لأنّه من خلالها يجري تقوية الذات الّتي تساعد على السيطرة المطلقة لإنشاء الدولة اليهوديّة الّتي يمكن من خلالها التوغّل أكثر في العالم العربيّ، وعندما نكون أشدّ بأسًا في مواجهة العرب"
يتركّز المسعى الإسرائيليّ بالحديث عن تحقيق أهداف العدوان، وعلى ضرب إيران وقدرة إسرائيل على تغيير خارطة الشرق الأوسط من خلال كيّ وعي عربيّ وفلسطينيّ، وعلى قدرة تحقيق السلام بضغط أميركيّ، بعيدًا عن الجوهر، من الاعتراف أصلًا بوجود شعب فلسطينيّ وقضيّة مرتبطة بحقوقه بأرضه، ومسعى آخر متعلّق بتغيير مفاهيم العدالة الدوليّة وحقوق الإنسان وحقّ التقرير المصير والعدالة الدوليّة، ليصبح النظام الدوليّ من جمعيّة عامّة ومجلس أمن، وكلّ منظّماته معاديًا للساميّة ومنخرطًا بدعم "الإرهاب"، فقط هذه مفاهيم محصورة بأحقّيّة إسرائيل العيش بسلام من خلال بسط الغطرسة والتهديد بالسحق الشامل بذخائر أميركا.
الجنون الأميركيّ بنسف كلّ القواعد والمفاهيم الدوليّة، وبشكل مقزّز من الاستعلاء وفرض الأوامر، مواجهته لا تتطلّب حالة التعقّل العربيّ والاستخفاف بالذات من خلال التعبير عن رفض خطط ترامب فقط، بل تتطلّب مواجهة هذا الجنون بصلابة عربيّة وفلسطينيّة تكون حائط صدّ ولها فعل الصدمة المقابلة لحالة الانتشاء والغرور الأميركيّ بتصديق الذات بأنّ العرب سيزحفون صاغرين لتنفيذ الأوامر وتمويل استعماره في غزّة، لأنّ حالة الهذيان الأميركيّ الصهيونيّ المتعاظمة، تستمدّ من التعقّل بالتمسّك بأوهام لم يعد مقبولًا معها هذه الإهانة والإذلال للفلسطينيّين وللنظام العربيّ حتّى المطبع مع إسرائيل، والّتي سحبت منه ما أعطته من أوهام السلام، فما الّذي يتبقّى من كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو واتّفاقيات إبراهيم، ولو بالطرح النظريّ لفكرة الضمّ والسيطرة والتطهير العرقيّ وعدم تداول مسمّى الضفّة الغربيّة للأراضي الفلسطينيّة، فما بالنا بتنفيذ الجريمة المعلن عنها بمساعدة عربيّة كما يمنّي نفسه المعتوه ترامب ومغذّي نرجسيّته مجرم الحرب نتنياهو.