مثلما أكّد جو بايدن الدور الأميركيّ بوصفه الأب الاستعماريّ معزّزًا طابع وطبيعة إسرائيل كمشروع كولونياليّ وقاعدة غربيّة في المنطقة العربيّة، حيث حشد أساطيله وبوارجه وتفعيل جسور الإمداد العسكريّ الجوّيّة والدفع بمستشاريه السياسيّين والعسكريّين لتقوية عضد القيادة الإسرائيليّة السياسيّة والعسكريّة الإسرائيليّة، والّتي كانت مربكة حدّ الانهيار تحت وطأة هجمات السابع من أكتوبر، يواصل خليفته دونالد ترامب لعب هذا الدور "الأبويّ" بطريقته السياسيّة الفهلويّة، بهدف إخراج إسرائيل من المأزق الّذي أدخلت نفسها إليه هناك، وذلك من خلال إطلاق حلول كانت ستقيم الدنيا، ولا تقعدها لو انطلقت من إسرائيل ذاتها، ولا غرابة في توافقها مع طروحات وتوجّهات أقصى اليمين الواقع في الهامش الإسرائيليّ.
ترامب يثبت تواصل الرعاية الأميركيّة للمشروع الكولونياليّ الغربيّ المتمثّل بإسرائيل في المنطقة، وتوفير الغطاء والدعم السياسيّ أسوة بالدعم العسكريّ، حتّى لو كان مخالفًا للقوانين والمواثيق الدوليّة، ويعتبر جريمة حرب وجريمة ضدّ الإنسانيّة، وفي هذا السياق تكتسب مشاريع الترانسفير الّتي تبغي تهجير الفلسطينيّين من قطاع غزّة (حتّى الآن) ألفتها و"طبيعيّتها" الدوليّة عندما تنطلق من رئيس الدولة الأعظم في العالم، وإن كانت هي المشاريع نفسها الّتي تواجه بالاستنكار والاشمئزاز حتّى داخل إسرائيل عندما تنطلق على لسان بن غفير وسموترتش.
ومن غير المستغرب أن تدعم أميركا، الّتي دعمت وشاركت في جريمة الإبادة الجماعيّة الّتي دمّرت إسرائيل خلالها قطاع غزّة، وجعلتها غير قابلة للحياة، وتبادر إلى ارتكاب جريمة تهجير الفلسطينيّين من قطاع غزّة تحت هذه الذريعة وبادّعاء الحرص على رفاهية سكّانه، كما أنّه من غير المستغرب أن يسكت العالم الّذي سكت على جريمة الإبادة الجماعيّة في قطاع غزّة على جريمة تهجير الفلسطينيّين الّتي يخطّط لها ترامب بإيعاز إسرائيليّ.
إنّها سطوة الهيمنة ورهبة القوّة الّتي عبّر عنها ترامب بثقة عندما قيل له إنّ مصر والأردنّ ترفضان استقبال الفلسطينيّين الّذي يسعى إلى تهجيرهم من قطاع غزّة، بقوله إنّ المكسيك وكندا قد رفضتا رفع الرسوم الجمركيّة أيضًا، في إشارة إلى أنّه نجح في تطويع موقفهما، متجاهلًا أنّ هذا الموقف هو بالنسبة للنظام الأردنيّ أهو أن يكون أو لا يكون، كما هو بالأهميّة نفسها بالنسبة لنظام السيسي، وأنّ ترامب، بلسان المحلّل العسكريّ الإسرائيليّ أمير أورن، هو كمن يضع مسدّسًا محشوًّا بالرصاص على طاولتي السيسي وعبداللّه، وهما لا ينويان الانتحار كرمى لعينيه.
أورن يضيف أنّ ترامب جاهل في أمور المنطقة، ولو كان قد سأل الخبراء لقالوا له فورًا، إنّ الأنظمة في القاهرة وعمّان أضعف من أن تكون قادرة على استيعاب الغزيّين، ديمغرافيا واقتصاديًّا وأمنيًّا، أوّلًا لأنّهم فلسطينيّون، وثانيًا لأنّهم بعد 18 سنة من حكم حماس يُحسبون على الإخوان المسلمين.
أمّا الأكثر غرابة فهو الارتياح والفرحة الّتي غمرت الساحة الإسرائيليّة من يسارها إلى يمينها، فناهيك عن أنّ 72% من الإسرائيليّين أيّدوا اقتراح التهجير، فإنّ موقف الأحزاب الإسرائيليّة من اليسار والمركز الّتي عارضت أو تحفّظت حتّى الآن على طروحات الترانسفير الكهانيّة، ونجحت حتّى قبل فترة قليلة من عزل دعاتها أمثال بن غفير وسموترتش، تلك الأحزاب استقبلت مقترح ترامب بتهجير الفلسطينيّين من غزّة الّذي يرتكز على نفس الطروحات بكثير من الارتياح والترحيب.
في هذا السياق كتب محرّر "هآرتس" ألوف بن، أنّه حتّى لو افترضنا أنّها مجرّد شعار لن يجد طريقه إلى التنفيذ، أو هي مجرّد "عنزة" جرى إدخالها لكي يتمّ التنازل عنها مقابل سلام مع السعوديّة، مثلما تمّ التنازل عن ضمّ الضفّة في حينه مقابل التطبيع مع الإمارات والمغرب، يجب التنويه إلى أنّ فكرة الضمّ لم تنزل عن الطاولة، بل تمّ تطبيعها، ويجري تنفيذها بإصرار وهدوء على الأرض.
لكنّ شعبنا الّذي تحدّى صفقة القرن، وأفشلها وصمد في وجه حرب الإبادة على مدى 15 شهرًا، وأفشل كلّ محاولات التهجير والتطهير العرقيّ تحت النار، هو الّذي سيفشل بصموده، وتشبّثه بتراب غزّة الوطنيّ مخطّطات ترامب الهوجاء.