ليست أفكار دونالد ترامب بشأن تهجير قطاع غزّة قدرًا محتومًا، ولا هي قابلة للتطبيق بشكل قسريّ، خصوصًا إذا ما اكتشف العرب، تحديدًا مصر والسعوديّة، أنّ لديهم ما يكفي من الإرادة والسيادة لإفشال أفكار ترامب، وأنّ سياسة فرض الإملاءات على الدول لا تنطبق على دول بقوّة وحجم مصر، ولا على مكانة وثروات السعوديّة، خصوصًا أنّ صاحب الشأن في "صفقة ترامب" فيما يخص غزّة، أي الفلسطينيّين، يرفضون التعامل معها وغير معنيّين بها، ولا يمكن فرضها عليهم.

لا تقتصر أفكار التهجير والسيطرة والضمّ والإملاء الترامبيّة على قطاع غزّة والعرب، بل تطرح في سياق كندا وغرينلاند وبنما، وحتّى أوكرانيا، لكنّ استثنائيّة غزّة عن باقي المناطق المذكورة بأنّها تتعلّق بإسرائيل، وحاجة ترامب لسداد "الدين" لداعميه من الأثرياء الصهيونيّين في الانتخابات الأخيرة، وفي مقدّمتهم مريم أدلسون. فإذا كانت طموحات وتهديدات ترامب بشأن غرينلاند وبنما مثلًا تتعلّق بشأن أميركيّ داخليّ، فإنّ موضوع فلسطين يتعلّق أوّلًا بإسرائيل ومصالح ترامب السياسيّة الشخصيّة، أي اللوبي الصهيوني المحيط به.

ليس هدف ترامب من تهجير غزّة عقاريًّا صرفًا، فتصفية القطاع من سكّانه يعني أنّ الهدف الحقيقيّ تصفية القضيّة الفلسطينيّة، وهذا هدف نتنياهو التاريخيّ، تصفية الحقوق الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة، ومقترح ترامب هو خطوة في خدمة هذا التوجّه.

تصفية القضيّة الفلسطينيّة هو أمر مستحيل، ليس بسبب العوامل الفلسطينيّة الذاتيّة وعدالة النضال الفلسطينيّ ومطالبه وحقوقه، بل أيضًا بسبب الممارسات الإسرائيليّة الّتي نتجت عنها عمليّة السابع من أكتوبر، من الحصار والاعتداءات اليوميّة ضدّ الفلسطينيّين واستباحة الأقصى وتهويد القدس، في موازاة التطبيع مع دول عربيّة بتجاهل الفلسطينيّين وواقعهم تحت الاحتلال.

لذلك، فإنّ تبنّي ترامب مشروع التطهير العرقيّ الّذي يحمله اليمين الإسرائيليّ المتطرّف، ومن ثمّ تبنّي الحكومة الإسرائيليّة لتبني ترامب لمشروع اليمين المتطرّف، يستهدف تصفية الحقوق الفلسطينيّة بالقتل والتدمير والتهجير والاستيطان. فالمسألة ليست غزّة فقط، بل كلّ الحقوق الفلسطينيّة والفلسطينيّين، أي تصفية قضيّتهم. فما كان يسعى إليه نتنياهو بالتهويد والتطبيع، صار اليوم متاحًا بنظره بالتهجير بعد تحويل غزّة إلى ركام وحطام.

تسعى إسرائيل إلى تحويل الفلسطينيّين إلى مشكلة دول العربيّة، الّتي عليها حلّ تلك المشكلة باستيعابهم أو تسهيل هجرتهم الفرديّة. لكنّ تصريحات ترامب حول التهجير، ولاحقًا تصريحات وأكاذيب واستهزاء نتنياهو بمصر والسعوديّة أعاد "القضيّة الفلسطينيّة باعتبارها قضيّة عربيّة"، بعدما جرى ربطها أميركيًّا وإسرائيليًّا بالأمن الوطنيّ لأكبر الدول العربيّة، وبعد سنين من محاولة دول عربيّة فكّ الانفصال عن القضيّة الفلسطينيّة والذهاب نحو التطبيع مع إسرائيل دون مقابل. لقد أعاد نتنياهو وترامب وصل القضيّة الفلسطينيّة بالمصالح الوطنيّة الكبرى لتلك الدول.

وإذا سُحِر ترامب بسواحل غزّة الجميلة ويريد السيطرة عليها وتملّكها، فماذا لو اكتشف سحر سيناء وبحرها الأحمر، أو السواحل الغربيّة للسعوديّة، فربّما يريد أيضًا الاستحواذ عليها وبناء "رفييرا شرق أوسطيّة" في سواحل صحراء سيناء المصريّة والسواحل السعوديّة. والمطامع الإسرائيليّة في سيناء وسواحل البحر الأحمر على ضفّتيه ليست بجديدة.

بعد سنين من الذلّ والهوان، إلى درجة التواطؤ بالصمت في الحرب على قطاع غزّة، وجدت دول عربيّة مركزيّة مثل مصر والسعوديّة بأنّ عليها دفع ثمن الحرب الإسرائيليّة على غزّة وتصفية القضيّة الفلسطينيّة بتحويلها إلى مشكلة أو مسألة عربيّة، وتطبيق هدف الحرب الإسرائيليّة، وهو تهجير القطاع وإفراغه من السكّان إلى الحدود الدنيا، وتحاول اليوم مواجهة سياسة الإملاء الترامبيّة بتقديم مقترحات بديلة للتهجير من خلال إعادة الإعمار والحوار مع ترامب، أو كما صرّح عمرو موسى في مقابلة تلفزيونيّة مؤخّرًا بأن يقول العرب لترامب "سيادة الرئيس، تعال نتكلّم"، أي مواجهة الإملاء بالحوار والتفاوض.

لا مبرّر للذعر المبالغ فيه من ترامب إذا ما طرح العرب البدائل بإعمار قطاع غزّة، وأعادوا الاعتبار لكونهم قوّة إقليميّة ذات أمن قوميّ مشترك، خصوصًا وأنّ الطرف الآخر "للصفقة"، أي الفلسطينيّين، لن يتزحزحوا من وطنهم، لكنّ المأساة تكمن في سلوك قيادتهم، فيبدو أنّ العداء الفصائليّ يغلب على العداء لإسرائيل، على الأقلّ لدى أحد طرفي الانقسام.

اقرأ/ي أيضًا | وقف الحرب على غزة... والخطيئة التي ستلاحق إسرائيل

يتيح سلوك ترامب ونتنياهو المتطرّف، القابل للصدّ والإفشال، إعادة الاعتبار للقضيّة الفلسطينيّة عربيًّا مجدّدًا باعتبارها قضيّة العرب المركزيّة، بعدما أعاد نتنياهو تحديدًا وصلها أو ربطها بأمن الدول العربيّة أو الأمن القوميّ للدول العربيّة، الّتي حاولت الانفصال عنها وتشكيل حلف إقليميّ مع إسرائيل حتّى ما قبل أسابيع قليلة. وهذه فرصة فلسطينيّة في مواجهة مشاريع التصفية، مرّة عبر التهويد والتطبيع، ومرّة عبر التهجير.