عندما سحب أرئيل شارون أكثر من ثمانية آلاف مستوطن من قطاع غزة عام 2005، كان هدفه الرئيس تعزيز استعمار إسرائيل للضفة الغربية، حيث أخذت أعداد المستوطنين في الزيادة على الفور. وكان لـ«فك الارتباط» غرض آخر: تمكين القوات الجوية الإسرائيلية من قصف القطاع متى شاءت، وهو الأمر الذي لم يكن بوسعها أن تفعله بوجود مستوطنين إسرائيليين يعيشون فيه. ويبدو أن الفلسطينيين في الضفة الغربية محظوظون إلى حد كبير. فهم وإن كانوا محاطين بالمستوطنين العازمين على سرقة أراضيهم، والذين لا يترددون على الإطلاق في ممارسة العنف ضدهم، إلا إن الوجود اليهودي في أراضيهم قد جنَّبهم القصف الشامل والدمار الذي تخضع إسرائيل شعب قطاع غزة له كل بضع سنوات[1].
وتصف الحكومة الإسرائيلية هذه الحلقات من العقاب الجماعي بأنها «جز للعشب». وشنَّت في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة خمس هجمات على قطاع غزّة. بكانت الهجمات الأربع الأولى وحشية وقاسية، كما هو الحال دائمًا مع حملات مكافحة التمرد الاستعمارية، حيث أسفرت عن مقتل الآلاف من المدنيين انتقامًا لإطلاق حماس الصواريخ واحتجاز الرهائن. ولكن العملية الأخيرة، عملية السيوف الحديدية، التي أطلقت في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ردًا على الغارة الفتَّاكة التي نفذتها حماس في جنوب إسرائيل، مختلفة في نوعها، وليس فقط في درجتها. قتلت إسرائيل على مدى الأشهر الثمانية الماضية أكثر من 36 ألف فلسطيني[2]. ويبقى عدد لا يحصى من الناس تحت الأنقاض، وسوف يموت المزيد منهم من الجوع والمرض. وقد أصيب ثمانون ألف فلسطيني، العديد منهم أصيبوا بإعاقات دائمة. يُشكّل الأطفال الذين قُتل آباؤهم أو أسرهم بأكملها مجموعة فرعية جديدة من السكان. لقد دمّرت إسرائيل البنية التحتية السكنية في قطاع غزّة، ومستشفياتها، وجميع جامعاتها. وقد نزح معظم سكان القِطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، وبعضهم نزحوا مرارًا وتكرارًا، وفرّ كثيرون إلى مناطق «آمنة» ليتعرضوا للقصف فيها. ولم يسلم أحد من العنف، فقد قُتل عمال الإغاثة والصحافيون والأطباء بأعداد قياسية. ومع ارتفاع مستويات المجاعة، خلقت إسرائيل عقبة تلو الأخرى أمام توفير الغذاء، كل ذلك في حين تصر إسرائيل على أن جيشها هو «الأكثر أخلاقية» في العالم. إن الصور القادمة من غزة – والمتاحة على نطاق واسع على تطبيق تيك توك الذي حاول أنصار إسرائيل في الولايات المتحدة حظره – تحكي قصة مختلفة، قصة فلسطينيين جائعين قُتِلوا خارج شاحنات المساعدات في شارع الرشيد في شباط/ فبراير 2024، وقصة سكان الخيام في رفح الذين أُحرِقوا أحياءً في الغارات الجوية الإسرائيلية، وقصة نساءٍ وأطفال يعيشون على 245 سعرة حرارية في اليوم. وهذا ما وصفه بنيامين نتنياهو بـ«انتصار الحضارة اليهودية - المسيحية على البربرية».
لقد غيرّت العملية العسكرية في قطاع غزّة شكل، وربما حتى معنى، الصراع على فلسطين، ويبدو مضللًا، بل وحتى مسيئًا، أن نشير إليه على أن «صراع» بين شعبين بعد أن قتل أحدهما الآخر بأعداد مَهولة. ويتجلى حجم الدمار في المصطلحات المستخدمة: «إبادة المساكن» (domicide) التي هدفت لتدمير البنية التحتية والمنازل، و«إبادة التعليم» (scholasticide) لتدمير النظام التعليمي، بما في ذلك معلميه؛ و«الإبادة البيئية» (ecocide) لتدمير الزراعة والمناطق الطبيعية في قطاع غزّة. تصف سارة روي، الخبيرة البارزة في شؤون القطاع، والتي هي نفسها ابنة أحد الناجين من الهولوكوست، هذا الأمر بأنه عملية «إبادة اقتصادية»، و«تدمير شامل للاقتصاد وأجزائه المكونة»، وهو «الامتداد المنطقي»، كما كتبت، لعملية «الإفقار التنموي» المتعمدة التي تنفذها إسرائيل لاقتصاد قطاع غزّة منذ عام 1967.
وإذا استعرنا لغة اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948، فهناك مصطلح أقدم لوصف «الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة وطنية أو إثنية أو عنصرية أو دينية». وهو مصطلح الإبادة الجماعية، وثمة إجماع متزايد بين خبراء القانون الدولي وحقوق الإنسان على أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية، أو على الأقل أعمال إبادة جماعية، في قطاع غزّة. وهذا ليس فقط رأي الهيئات الدولية، بل وأيضًا الخبراء الحذرين، حذر شديد للغاية عدما يتعلق الأمر بإسرائيل، ولا سيما أرييه نير (Aryeh Neier)، مؤسس منظمة هيومن رايتس ووتش[3].
ليست تهمة الإبادة الجماعية جديدة بين الفلسطينيين. أتذكر أنني سمعت هذه العبارة عندما كنت في بيروت عام 2002، في أثناء الهجوم الإسرائيلي على مخيم جنين للاجئين، وفكرت حينها: لا، إنه حصار بلا رحمة ولا هوادة فيه. لقد بدا لي استخدام كلمة «إبادة جماعية» آنذاك نموذجيًا للتضخم الخطابي في النقاش السياسي في الشرق الأوسط، وأحد أعراض المنافسة المريرة القبيحة على دور الضحية في إسرائيل وفلسطين. لقد أُعطِبت اللعبة وزُّورت ضد الفلسطينيين بسبب تاريخ مضطهديهم: منح تدمير يهود أوروبا للدولة اليهودية الشابة رأس مال أخلاقي في نظر القوى الغربية. لقد بدا الادعاء الفلسطيني بارتكاب إبادة جماعية وكأنه محاولة لتسوية الحسابات، وهو أمر لا يمكن لكلمات مثل «الاحتلال» أو حتى «الفصل العنصري» أن تفعله على الإطلاق.
ماذا بقي بعد كل هذا لمن بقي على قيد الحياة؟ حياة عارية، كما يسميها جورجيو أغامبين: وجودٌ مهددٌ بالجوعِ والبؤسِ والتهديدِ الدَّائم بالغارة الجوية التالية
لكن الأمر مختلف هذه المرة، ليس فقط بسبب القتل العشوائي لآلاف النساء والأطفال، بل لأن حجم الدمار الهائل جعل الحياة نفسها مستحيلة تقريبًا بالنسبة لأولئك الذين نجوا من القصف الإسرائيلي. لقد اندلعت الحرب بسبب الهجوم غير المسبوق الذي شنّته حماس، ولكن الرغبة في إلحاق المعاناة بأهلِ غزة، وليس فقط بحماس، لم تنشأ في السابع من أكتوبر. وهنا ما قاله غلعاد نجل أرييل شارون في عام 2012: «نحن بحاجة إلى تدمير أحياءٍ بأكملها في قطاع غزّة. إلى أن نسويّ القطاع كله بالأرض. لم يتوقف الأميركيون عند هيروشيما، فاليابانيون لم يستسلموا بالسرعة الكافية، لذا فقد ضربوا ناغازاكي أيضًا. لا ينبغي أن تكون هناك كهرباء في قطاع غزّة، ولا بنزين، ولا مركبات متحركة، ولا أي شيء آخر». يبدو هذا الأمر اليوم وكأنه نبوءة.
يسبق العنف الإبادي دائمًا تقريبًا أشكال أخرى من الاضطهاد، والتي تهدف إلى جعل الضحايا بائسين قدر الإمكان، بما في ذلك النهب، والحرمان من حق الانتخاب، وعزلهم في أحياء فقيرة، والتطهير العرقي، ونزع الصفة الإنسانية عنهم بعنصرية. وقد كانت كل هذه السمات من سمات علاقة إسرائيل بالشعب الفلسطيني منذ تأسيسها. إن ما يؤدي إلى انزلاق الاضطهاد إلى القتل الجماعي هو الحرب عادةً، وخاصة الحرب التي تُعرّف على أنّها معركة وجودية من أجل البقاء، كما رأينا في الحرب على قطاع غزّة. إن تصريحات زعماء إسرائيل (وزير الأمن يوآف غالانت: «نحن نقاتل حيوانات بشرية، وسوف نتصرف وفقًا لذلك»، والرئيس إسحق هرتسوغ: «شعب بأكملهِ يتحمّل المسؤولية») لم تخف نواياهم، بل قدمت دليلًا دقيقًا، بالضبط كما كانت صور السيلفي السعيدة التي يلتقطها الجنود الإسرائيليون وسط أنقاض القطاع، فبالنسبة لبعضهم على الأقل كان تدميرها مصدرًا للمتعة.
قد تكون أساليب إسرائيل أقرب إلى أساليب الفرنسيين في الجزائر، أو نظام الأسد في سورية، منها إلى أساليب النازيين في تريبلينكا أو مرتكبي الإبادة الجماعية الهوتو في رواندا، ولكن هذا لا يعني أنها لا تشكل إبادة جماعية. ولا تُشكّل حقيقة أن إسرائيل قتلت «جزءًا» فقط من سكان القطاع أي مشكلة في انطباق تعريف الإبادة الجماعية. فماذا بقي بعد كل هذا لمن بقي على قيد الحياة؟ حياة عارية، كما يسميها جورجيو أغامبين: وجودٌ مهددٌ بالجوعِ والبؤسِ والتهديدِ الدَّائم بالغارة الجوية التالية (أو «الحادث المأساوي»، كما وصف نتنياهو حرْقَ 45 مدنيًا في رفح). قد يزعم أنصار إسرائيل أن هذه ليست المحرقة، بيد إن الاعتقاد بأن أفضل طريقة لتكريم ذكرى أولئك الذين ماتوا في أوشفيتز هي التسامح مع القتل الجماعي للفلسطينيين حتى يشعر اليهود الإسرائيليون بالأمان مرة أخرى هو أحد الانحرافات الأخلاقية الكبرى في عصرنا.
يُعدّ هذا الاعتقاد في إسرائيل بمثابة مادة من موادّ الإيمان. قد يكون نتنياهو مكروهًا من نصف سكّان إسرائيل، ولكن حربه على غزة ليست كذلك، ووفقًا لاستطلاعات الرأي، فإن أغلبية كبيرة من الإسرائيليين يعتقدون أن ردّ فعله كان مناسبًا أو أنه لم يقتل ويدمّر بما فيه الكفاية. إن أغلب اليهود في إسرائيل، الذين لا يستطيعون أو لا يرغبون في النظر إلى ما هو أبعد من الفظائع التي ارتُكِبت في السابع من أكتوبر، يعتبرون أن لديهم الحق التّام في شن الحرب حتى تدمير حماس، حتى لو كان هذا يعني تدمير غزة بالكامل، بل وخصوصًا إن عنى ذلك. ويرفضون فكرة أن سلوك إسرائيل نفسه، متمثلًا في خنق قطاع غزّة واستعمار الضفة الغربية واستخدامها لنظام الفصل العنصري واستفزازاتها في المسجد الأقصى، وإنكارها المستمر لحق الفلسطينيين في تقرير المصير، ربما كان السبب في غضب السابع من أكتوبر. بل ويصرّون على أنهم أصبحوا مرة أخرى ضحايا لمعاداة السامية، ولـ«عماليق»، الأمّة المعادية لبني إسرائيل. إن عدم قدرة الإسرائيليين على رؤية، أو رفضهم رؤية، مسؤوليتهم في صنع السابع من أكتوبر يشكّل شهادة على مخاوفهم وأهوالهم المتوارثة، والتي تجددها المجازر. ولكنها تكشف أيضًا عن المدى الذي يصل إليه اليهود الإسرائيليون فيما أسماه جان دانييل «السجن اليهودي».
كان طموح الصهيونية الأصلي هو تحويل اليهود إلى فاعلين تاريخيين، أي ذوي سيادة، وشرعية، ويتمتعون بإحساس بالقوة والفاعليّة. ولكن ميل اليهود الإسرائيليين إلى رؤية أنفسهم كضحايا أبديين، من بين عادات الشتات الأخرى، أثبت أن هذا الشعور أقوى من الصهيونية نفسها، وقد وجد زُعماء إسرائيل في هذا المنعكس درعًا أيديولوجيا قويا ومصدرًا للتماسك. ومن غير المستغرب أن يفسر الإسرائيليون السابع من أكتوبر باعتباره تتمة للهولوكوست، أو أن يشجع قادتهم هذا التفسير: فكلا الطرفين يلتزم بقراءة لاهوتية للتاريخ تقوم على التِكرار الأسطوري، حيث يُفهَم أي عنف ضد اليهود، بغض النظر عن السياق، في إطار استمرارية الاضطهاد، وهم عاجزون عن التمييز بين العنف ضد اليهود باعتبارهم يهودًا، والعنف ضد اليهود في ارتباط بممارسات الدولة اليهودية (ومن عجيب المفارقات أن هذه الرؤية للتاريخ تجعل القتل الكبير في المحرقة أقل استثنائية، لأنه يبدو ببساطة وكأنه مذبحة كبرى). وهذا يعني عمليًا أن أي شخص يلوم إسرائيل على سياساتها قبل السابع من أكتوبر، أو على المذبحة التي ارتكبتها في قطاع غزة، يمكن تجاهله باعتباره معاديًا للسامية وصديقًا لحماس وإيران وحزب الله والعماليق.
وهذا يعني أيضًا أن كل شيء تقريبًا يمكن تبريره في ساحة المعركة، حيث أصبح عدد متزايد من الجنود في وحدات القتال من المستوطنين المتطرفين. وصار من المألوفِ أن نسمع يهودًا إسرائيليين يدافعون عن قتل الأطفال، لأنهم سوف يكبرون ويصبحون إرهابيين (وهي حجة لا تختلف عن ادعاء بعض الفلسطينيين بأن قتل طفل يهودي إسرائيلي يعني قتل جندي مستقبلي في جيش الدفاع الإسرائيلي)[4]. والسؤال الآن هو كم عدد الأطفال الفلسطينيين الذين يجب أن يموتوا قبل أن يشعر الإسرائيليون بالأمان، أو ما إذا كان اليهود الإسرائيليون يعتبرون إزالة السكان الفلسطينيين شرطًا ضروريًا لأمنهم.
إن فكرة «الترانسفير» الصهيونية، أي طرد السكان العرب، أقدم من إسرائيل نفسها. وقد تبنى هذه الفكرة كل من بن غوريون ومنافسه فلاديمير جابوتنسكي، الصهيوني التصحيحي الذي كان مرشدًا لوالد نتنياهو. كما ساهمت هذه الفكرة بشكل مباشر في عمليات الطرد أثناء حرب 1948. ولكن حتى ثمانينيات القرن العشرين، ومع ظهور المؤرخين الجدد، كانت إسرائيل تُنكِر بشدة ارتكابها لأية عمليات تطهير عرقي، زاعمةً أن الفلسطينيين غادروا أو «فرُّوا» لأن الجيوش العربية الغازية شجعتهم على ذلك، وعندما استُحضرت قضية طرد الفلسطينيين وتدمير قراهم، كما في رواية خربة خزعة (חרבת חזעה)[5] التي كتبها س. يزهار عام 1949، وقصة في مواجهة الغابات (Facing the Forests) التي كتبها أبراهام غبرائيل يهشوع عام 1963، فقد كان ذلك مصحوبًا بالألم والتبرير المثقل بالذنب. ولكن كما يشير الصحافي الفرنسي سيلفان سيبيل في كتابه دولة إسرائيل في مواجهة اليهود (The State of Israel v. the Jews)، فإن «العار الخفي الكامن وراء هذا الإنكار» قد تبخر. واليوم يُدافعُ عن حصول نكبة عام 1948 في إسرائيل بكل وقاحة باعتبارها ضرورة، ويُنظر إليها باعتبارها مشروعًا غير مكتمل، بل وبطوليًا أيضًا. ويعتبر وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن غفير، من المؤيدين غير المترددين للتطبيق الترانسفير. إن ما نشهده في غزة هو أكثر من مجرد الفصل الأكثر دموية في تاريخ إسرائيل وفلسطين: إنه تتويج لنكبة عام 1948 وتحوّل إسرائيل، الدولة التي كانت في يوم من الأيام ملاذًا آمنًا للناجين من معسكرات الموت، إلى دولة مذنبة بالإبادة الجماعية[6].
لقد كتب لينين: «ثمّة عقود من الزمن لا يحدث فيها شيء، وثمّة أسابيع تحدث فيها عقود من الزمن». لقد شهدت الأشهر الثمانية الماضية تسارعًا غير عادي في وتيرة الحرب الطويلة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين. هل كان من الممكن أن يسير تاريخ الصهيونية بطريقة أخرى؟ بنيامين نتنياهو رجل ساذج محدود الخيال، مدفوع إلى حد كبير برغبته في السلطة ورغبته في تجنب الإدانة بالاحتيال والرشوة (تجري محاكمته على نحوٍ متقطع منذ أوائل عام 2020). ولكنه أيضًا رئيس الحكومة الأطول خدمة في إسرائيل، وأيديولوجيته التوسعية والعنصرية هي التيار السائد في إسرائيل. إن إسرائيل، التي كانت دائمًا دولة إثنية مبنية على الامتياز اليهودي، أصبحت تحت إشرافه دولة قومية رجعية، وهي دولة تنتمي الآن رسميًا حصريًا إلى مواطنيها اليهود. أو على حد تعبير قانون الدولة القومية لعام 2018، الذي يكرس التفوق اليهودي: «ممارسة الحق في تقرير المصير في دولة إسرائيل حصرية للشعب اليهودي». فلا عجب أن يعلن الفلسطينيون وأنصارهم: «فلسطين ستكون حرة من النهر إلى البحر»[7]. إن ما يسمعه العديد من الصهاينة على أنه دعوة للتطهير العرقي أو الإبادة الجماعية هو، بالنسبة لمعظم الفلسطينيين، دعوة لإنهاء التفوق اليهودي على كامل الأرض، ووضعّ حدٍّ لظروف انعدام الحرية التّامة.
وليس من المستغرب أن تصبح كلمة «صهيوني» في أواسط اليسار الطلابي بمثابة لقب لأولئك الذين يعارضون المساواة في الحقوق والحرية للفلسطينيين، أو الذين، حتى لو زعموا تأييدهم لفكرة الدولة الفلسطينية، يصرون على الاعتقاد بأن رغبات اليهود الإسرائيليين، بحكم الاضطهاد الذي تعرض له أسلافهم في أوروبا، تفوق رغبات العرب الأصليين في فلسطين. ولكن كما يذكّرنا شلومو ساند في كتابه شعبان لدولة واحدة؟ (Two Peoples for One State?: Rereading the History of Zionism)، كانت توجدُ صهيونية أخرى منشقّة وهي «الصهيونية الثقافية» التي دعت إلى إنشاء دولة ثنائية القومية على أساس التعاون العربي اليهودي، وهي الدولة التي ضمت بين أعضائها أحاد هعام، ويهوذا ماغنيس، ومارتن بوبر، وحنّة أرنت. اتّهَم الصهيوني الثقافي إسحاق إبشتاين الحركة الصهيونية عام 1907 بأنها نسيت «تفصيلة صغيرة: وهي أنّ في أرضنا الحبيبة شعبًا بأكمله مرتبطًا بها منذ مئات السنين ولم يُفكّر قط في تركها». كان إبشتاين وحلفاؤه، الذين أسسوا بريت شالوم أو تحالف السلام عام 1925، يتصورون أن صهيونَ مكانٌ للنهضة الثقافية والروحية، وحذّروا من أن أية محاولة لإنشاء دولة لليهود حصرًا من شأنها أن تحوّل الصهيونية إلى حركة استعمارية كلاسيكية، وتؤدي إلى حرب دائمة مع العرب الفلسطينيين. بعد أعمال الشغب العربية عام 1929 [ثورة البُراق]، ندّد هانز كوهين سكرتير بريت شالوم بالحركة الصهيونية الرسمية بسبب «تبنيها موقف الجرحى الأبرياء»، وتجنبها «أقل قدر من النقاش مع الناس الذين يعيشون في هذا البلد». لقد اعتمدنا كليًا على قوة السلطة البريطانية. لقد حددنا لأنفسنا أهدافًا كانت ستتحول حتمًا إلى صراع».
ولكن هذا لم يكن من قبيل الصدفة: فالصراع مع العرب كان ضروريًا بالنسبة للتيار الصهيوني السَّائد. بالنسبة لأنصار «الصهيونية العضلية»، كما يدعي المؤرخ أمنون راز - كراكوتسكين، فإن إنشاء دولة يهودية في فلسطين من شأنه أن يسمح لليهود ليس فقط بتحقيق «نفي المنفى»، ولكن أيضًا، ومن المفارقات، إعادة اختراع أنفسهم كمواطنين في الغرب الأبيض، على حد تعبير هرتسل، «كمتراسٍ لأوروبا في مواجهة آسيا». وكانت رؤية بريت شالوم للمصالحة والتعاون مع السكان الأصليين غير واردة في نظر معظم الصهاينة، لأنهم كانوا ينظرون إلى العرب في فلسطين باعتبارهم مستوطنين غير قانونيين على أرض يهودية مقدسة. وكما قال بن غوريون: «نحن لا نريد أن يكون الإسرائيليون عربًا. إن من واجبنا أن نكافح ضد العقلية الشامية التي تدمر الأفراد والمجتمعات». وفي عام 1933، انهارت حركة بريت شالوم، وبعد عام واحد، غادر كوهين فلسطين في حالة من اليأس، مقتنعًا بأن الحركة الصهيونية كانت على مسار تصادمي مع الفلسطينيين والمنطقة.
وكانت حركة بن غوريون أيضًا في مسار تصادمي مع أولئك الذين، مثل كوهن وأرنت، تعاطفوا مع فكرة إقامة ملاذ ثقافي يهودي في فلسطين، ولكنهم رفضوا الرؤية المتطرفة والإقصائية والإقليمية للدولة المرتبطة بإنشاء إسرائيل في عام 1948. إن النقاد اليهود لإسرائيل الذين يعودون بجذورهم إلى الصهيونية الثقافية التي تبناها ماغنيس وبوبر، أو إلى حزب العمال اليهودي المناهض للصهيونية، سوف يجدون أنفسهم موضع ذمٍّ واتهام باعتبارهم زنادقة وخونة. في كتابه مسألتنا الفلسطينية (Our Palestine Question)، يوضح جيفري ليفين (Geoffrey Levin) كيف أُبعِد اليهود الأميركيين المنتقدين لإسرائيل من المؤسسات اليهودية في العقود التي أعقبت تشكيل الدولة. خصصت الصحافة اليهودية الأميركية بعد حرب 1948 تغطية واسعة النطاق، ومتعاطفة إلى حد كبير، لمحنة اللاجئين الفلسطينيين، ولم تكن إسرائيل قد أعلنت بعد أنها لن تقبل لاجئًا واحدًا. وكتب ويليام تسوكرمان (William Zukerman)، محرر النشرة اليهودية (Jewish Newsletter)، في عام 1950: «إن قضية اللاجئين العرب قضية أخلاقية ترتقي فوق الدبلوماسية. والأرض التي تسمى الآن إسرائيل ملك للاجئين العرب بقدرِ ما هي مِلك لأي إسرائيلي. لقد عاشوا على تلك التربة وعملوا فيها... لمدة ألف ومئتي عام... إن حقيقة فرارهم ذعرًا لا تشكل مبررًا لحرمانهم من منازلهم». وتحت الضغط الإسرائيلي، فَقَدَ تسوكرمان وظيفته مراسلًا في نيويورك لصحيفة جيويش كرونيكل (Jewish Chronicle) التي يقع مقرها في لندن. وأعرب آرثر لوري (Arthur Lourie)، القنصل العام الإسرائيلي في نيويورك، عن سعادته بإقالته من منصبه قائلًا: «إنه لأمر عظيم».
ولم يكن تسوكرمان وحيدًا. ففي عام 1953، تلا الحاخام الإصلاحي الأميركي موريس لازارون (Morris Lazaron) صلاة غُفرانٍ في مخيم شاتيلا للاجئين في بيروت، معلنًا «لقد أخطأنا»، وداعيًا إلى العودة الفورية لمئة ألف لاجئ؛ وباعتبارهم أعضاء في «قبيلة الأقدام المتجولة»[8]، كما قال، يتعين على اليهود أن يقفوا إلى جانب لاجئي فلسطين. وكان الخبير الرائد في الولايات المتحدة في شؤون اللاجئين الفلسطينيين، دون بيريتس (Don Peretz)، موظفًا لدى اللجنة اليهودية الأميركية (AJC). وعمِل بعد حرب عام 1948 مع مجموعة كويكرية وزَّعت الطعام والملابس على الفلسطينيين النازحين الذين يعيشون في ظل الحكومة العسكرية الإسرائيلية. وعندما شعر بالرعب باكتشافهِ «موقفًا تجاه العرب يُشبه موقف العنصريين الأميركيين»، كتب بيريتز كتيبًا عن اللاجئين لصالح اللجنة اليهودية الأميركية. وردّ المسؤولون الإسرائيليون بمحاولة طرده من العمل، وأوصت إستر هيرليتز (Esther Herlitz)، القنصل الإسرائيلي في نيويورك، بأن «تفكر السفارة في حفر قبر له» في الكلية اليهودية في بنسلفانيا حيث كان يُدرِّس. ولم يكن بيريتس متطرفًا، بل كان يريد ببساطة أن يخلق ما أسماه «منصة للتعبير ليس فقط عن رثاء إسرائيل، بل وأيضًا عن القلق النقدي بشأن العديد من المشاكل التي أصبحت الدولة الجديدة متورطة فيها»، وأهمها «مشكلة اللاجئين العرب، وحالة الأقلية العربية في إسرائيل». وبدلًا من ذلك، واجه «بيئة انفعالية عاطفيًا» جعلت «من الصعب خلق جو للمناقشة الحرة كما هو الحال في الجنوب اليوم لمناقشة العلاقات بين الأعراق»[9].
ومن بين أبرز الأحداث التي رواها ليفين في كتابه هي الحملة التي شُنّت لتشويه سمعة فايز صايغ، المتحدث الفلسطيني البارز في الولايات المتحدة في الخمسينيات وأوائل الستينيات. ويكتب ليفين أن صايغ، وهو من مواليد طبرية، «أدرك تمام الإدراك أن أي محاولةٍ عربية لمعاداة السامية ستشوّه قضيتهم»، ولذلك ابتعد عن النازيين الجدد وغيرهم من الناشطين المناهضين لليهود الذين ظهروا على بابه. وقد انضمّ إلى حاخام مناهض للصهيونية، هو إلمر بيرغر (Elmer Berger) من المجلس الأميركي لليهودية (American Council for Judaism)، والذي كان قد أثبت نفسه بالفعل كناقد للصهيونية في كتابه الصادر عام 1951 بعنوان تاريخٌ منحازُ لليهودية (A Partisan History of Judaism)، حيث هاجم الحركة لتبنيها «مرسوم هتلر الانفصالي» وخيانة رسالة اليهودية العالمية. وقد وصفه أحد الناشطين المؤيدين لإسرائيل بأنه «أحد أكثر المجادلين كفاءة الذين اضطر يهود أميركا إلى مواجهتهم على الإطلاق»، وكان يعتبر صايغ خطيرًا على نحوٍ خاص لأنه لم يكن من السهل تصويره على أنه معاد للسامية. وفي محاولاتهم لمحاربة هذا الحليف العربي لحاخام بارز، وإن كان مثيرًا للجدل، والذي لم يستسلم أبدًا للخطاب المعادي للسامية، اضطر النشطاء الصهاينة إلى اختراع تهمة جديدة: وهي أن معاداة الصهيونية في حد ذاتها شكلٌ من أشكال معاداة السامية. وقد طورت رابطة مكافحة التشهير (Anti-Defamation League) هذه الحجة إلى كتاب في عام 1974، ولكن كما يوضح ليفين، كان الكتاب في حيز التداول بالفعل قبل عشرين عامًا.
وانتقل صايغ في نهاية المطاف إلى بيروت، حيث انضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية. وفي أعقاب حرب الأيام الستة عام 1967، خضعت الجالية اليهودية الأميركية لما أسماه نورمان بودوريتز (Norman Podhoretz) بـ«الصَهْينَة الكاملة». وكما يقول جوشوع ليفر (Joshua Leifer) في كتابه الجديد الألواح المحطمة (Tablets Shattered)، فإن المؤسسة اليهودية أصبحت «أكثر دفاعًا عن اليهود، وأصبحت خطاباتها أكثر صراحة في الدفاع عن المصالح الذاتية اليهودية». ما تزال هذه المؤسسة تمارس نفوذها في مؤسسات السلطة والتعليم العالي في الولايات المتحدة. إن سقوط كلودين غاي (Claudine Gay)، رئيسة جامعة هارفارد، الذي خطط له الملياردير الصهيوني بيل أكمان (Bill Ackman)، ما هو إلا مثال واحد على ذلك. وكما كتب ليفر، فإن الاحتضان غير النقدي للصهيونية «ولّد قصر نظر أخلاقيًا» في ما يتصل بقمع إسرائيل للفلسطينيين. إن إنكار اليسار المتطرف لارتكاب حماس أي فظائع في السابع من أكتوبر ينعكس[10] في إنكار الإبادة الجماعية من قبل اليهود الأميركيين الذين يزعمون أن هناك الكثير من الغذاء في قطاع غزّة، وأن المجاعة الفلسطينية ليست سوى شكل من أشكال المسرح.
وقد قاومت أقلية من اليهود الأميركيين هذا التصور الأخلاقي على الدوام. لقد كانت هناك موجات متتالية من المقاومة، والتي أثارتها حلقات سابقة من الوحشية الإسرائيلية: حرب لبنان والانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانية. ولكن ربما تكون موجة المقاومة الأكثر أهمية هي تلك التي نراها الآن من جانب جيل من الشباب اليهود الذين من المستحيل أن يتقبلوا التماهي مع دولة غير ليبرالية على نحوٍ صريح وعنصرية علنيًا، يقودها حليف وثيق لدونالد ترامب. وكما كتب بيتر باينارت (Peter Beinart) في عام 2010، فقد طلبت المؤسسة اليهودية من اليهود الأميركيين «التحقق من ليبراليتهم على أبواب الصهيونية»، فقط ليكتشفوا أن «العديد من الشباب اليهود قد تبرؤوا من صهيونيتهم أصلًا».
إن الصراع الذي وصفه باينارت هو صراع قديم. كتب عنه إيزيدور فينشتاين ستون (IF Stone) في عام 1967:
تعمل إسرائيل على خلق نوعٍ من الفِصام الأخلاقي لدى يهود العالم. تعتمد رفاهية اليهود في العالم الخارجي على بقائهم في مجتمعات علمانية وغير عنصرية وتعددية. أمّا في إسرائيل، يجد اليهود أنفسهم يدافعون عن مجتمع لا يمكن فيه إضفاء الشرعية على الزواج بين الأعراق، وحيث يتمتع غير اليهود بمكانة أقل من اليهود، وحيث تكون المثل العُليا عنصرية واستبعادية. ويجب على اليهود أن يقاتلوا في أماكن أخرى من أجل أمنهم ووجودهم، ضد المبادئ والممارسات التي يجدون أنفسهم يدافعون عنها في إسرائيل.
وقد ثبت أن هذا التناقض لا يطاق بين العديد من الشباب اليهود الليبراليين الأميركيين؛ إذ شكّل الطلاب اليهود عددًا مرتفعًا على نحوٍ غير عادي من المحتجين في الأحرام الجامعية في أوروبا وأميركا.
لقد حاولوا أيضًا تطوير ما يسميه ليفر «تعبيرات جديدة عن الهوية والمجتمع اليهودي ... غير مرتبطة بالعسكرة الإسرائيلية». ويُعربُ البعض، مثل ليفر، عن تقارب مع اليهودية التقليدية، وحتى اليهودية الأرثوذكسية، بسبب بعدها عن الليبرالية التي تسمح بأي شيء في اليهودية الأميركية، حتى مع استنكارهم لانتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان. وقد تبنى الأكثر تطرفًا بينهم «قومية الشتات الناعمة»، ونبذوا أي علاقات مع إسرائيل، وأعلنوا دعمهم لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، وتبنوا رموز النضال الفلسطيني. ويشعر ليفر بالقلق إزاء فشل بعض اليهود في انتقاد هجمات السابع من أكتوبر، ويتهمهم بـ «عدم الاكتراث بحياة اليهود الآخرين، الذين فرّ أجدادهم إلى الدولة اليهودية الناشئة المحاصرة، بدلًا من الولايات المتحدة».
إن الاستجابة الباردة لأحداث السابع من أكتوبر، والتي يجدها النقاد مثل ليفر مزعجة للغاية، وخاصة عندما يعبر عنها اليهود اليساريون، قد لا تعكس قسوة القلب بقدر ما هي فعل واعٍ من عدم الانتماء، نشأ عن العار والشعور بالتواطؤ غير المرغوب فيه مع دولة تُصر على أخذِ الولاء من اليهود في جميع أنحاء العالم، فضلًا عن رفض ادّعاء الحركة الصهيونية بأن اليهود يُشكلون شعبًا واحدًا موحدًا له مصير مشترك. إن كتاب ليفر هو نقدٌ للسجن اليهودي، مكتوب من داخل جدرانه، ويصر على أن «التخلي» عن إسرائيل أمرٌ مستحيل لأنها سوف تضم قريبًا أغلبية يهود العالم، وهو ما يُشكّل «ثورة في الظروف الأساسية للوجود اليهودي». إن أولئك الذين يعطون الأولوية لعضويتهم في مجتمع علماني أكبر يسعون إلى تحرير أنفسهم من السجن بالكامل، حتى لو أدى ذلك إلى خطر طردهم من الكنيسة باعتبارهم «غير يهود». بالنسبة لهؤلاء الكتاب والناشطين، الذين تجمّع العديد منهم حول مجلة تيارات يهودية (Jewish Currents) التي أُعيدَ إحياؤها ومنظمة الصوت اليهودي من أجل السلام (Jewish Voice for Peace) الفاعلة، فإن الإخلاص لمبادئ اليهودية الأخلاقية يتطلب منهم تبني ما يسميه راز - كراكوتسكين «منظور المطرودين»، الذين صاروا منذ عام 1948 فلسطينيين وليسوا يهودًا.
«ليس لدينا آينشتاين معروف، ولا شاغال، ولا فرويد أو روبنشتاين لحمايتنا بإرث من الإنجازات المجيدة»، هكذا كتب إدوارد سعيد عن الفلسطينيين في عام 1986. «لم نشهد محرقة تحمينا بعطف العالم. إننا ’آخرون’، نحن الطرف الآخر، نحنُ خللٌ في هندسة إعادة التوطين والنزوح». إن الفلسطينيين ما زالوا آخرين في الحسابات الأخلاقية للولايات المتحدة والقوى الغربية، التي لولا دعمها لما تمكَّنت إسرائيل من تنفيذ هجومها على قطاع غزّة. ولكنهم الآن يستطيعون أن يستدعوا إبادة جماعية خاصة بهم، ورغم أنها قد لا توفر لهم الحماية بعد، بيد إنها تُقلِّص رأس المال الأخلاقي لإسرائيل المتآكل بالفعل. إن المطالبات الفلسطينية بالأرض والعدالة، والتي أصبحت راسخة بالفعل في ضمير الجنوب العالمي، قد حققت تقدّمًا غير عادي في ضمير الغرب الليبرالي، فضلًا عن ضمير اليهود الأميركيين، ويرجع الفضل في ذلك جزئيًا إلى سعيد وغيره من الكتاب والناشطين الفلسطينيين. إن ميلاد حركة عالمية معارضة للحرب الإسرائيلية في قطاع غزّة، ودفاعًا عن الحقوق الفلسطينية ليس إلّا علامة على أن إسرائيل خسرت الحرب الأخلاقية بين أصحاب الضمائر الحية. في حين ترتبط القضية الفلسطينية بالعدالة الدولية، والتضامن بين الشعوب المضطهدة، والحفاظ على النظام القائم على القواعد، فإن جاذبية إسرائيل تقتصر إلى حد كبير على اليهود المتدينين، واليمين المتطرف، والقوميين البيض، والسياسيين الديمقراطيين من الجيل الأكبر سنًّا مثل جو بايدن، الذي حذر من «ارتفاع شرس» في معاداة السامية في أميركا في أعقاب الاحتجاجات، ونانسي بيلوسي، التي ادعت أنها شعرت بـ«صبغة روسية» في هذه الاحتجاجات. عندما نزل مؤسس مجموعة الأولاد الفخورون (Proud Boys) غافين ماكينيس (Gavin McInnes)، ورئيس مجلس النواب مايك جونسون (Mike Johnson)، إلى حرم جامعة كولومبيا في نيويورك للدفاع عن الطلاب اليهود من المتظاهرين «المعادين للسامية» (من بينهم يهود يقيمون ولائم عيد الفصح اليهودي)، بدا الأمر كما لو أنهم دعوا إلى اجتماع في السادس من كانون الثاني/ يناير 2024. ولكن في الواقع، لم يكن هذا هو الحال. وعلى الرغم من كل ادعاءاتهم بالعزلة في بحر التعاطف مع فلسطين، فإن المؤيدين اليهود لإسرائيل، مثلهم في ذلك كمثل الدولة نفسها، لديهم حلفاء أقوياء في واشنطن، وفي الإدارة، وفي مجالس الجامعات.
إن ردود الفعل العسكرية المفرطة تجاه مخيمات الطُلاب في كولومبيا وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس وأماكن أخرى، إلى جانب ردود الفعل الغاضبة من جانب الحكومات البريطانية والألمانية والفرنسية تجاه المظاهرات في لندن وباريس وبرلين، تُشكّل مقياسًا لنفوذ الحركة المتزايد. وكما قال ريجيس دوبريه (Régis Debray)، «إن الثورة تُثَوِّر الثورة المضادة». وكان إخلاء الشرطة لمخيمات التضامن بمثابة تطور مثير للقلق بالنسبة لأي شخص يهتم بحرية التعبير وحرية التجمع، وكان بمثابة تذكير بأن خطاب «المساحات الآمنة» يمكن أن يصبح بسهولة أداة لسيطرة اليمين. يهدد مشروع قانون معاداة السامية الذي أقره مجلس النواب مؤخّرًا بقمع الخطاب المؤيد للفلسطينيين في الجامعات الأميركية، لأن إدارات الجامعات قد تصبح مسؤولة عن فشلها في فرض تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) لمعاداة السامية، والذي يخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية. وكما هو الحال مع التدابير المناهضة لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات التي تبنتها أكثر من ثلاثين ولاية، فإن قانون التوعية بمعاداة السامية (Antisemitism Awareness Act) هو تعبير عما وصفته سوزان نايمان (Susan Neiman)، في كتاباتها عن قمع ألمانيا لدعم الحقوق الفلسطينية، بـ«الماكارثية المحبة للسامية»، ومن المؤكّد تقريبًا أنه سيؤدي إلى المزيد من معاداة السامية، لأنه يعامل الطلاب اليهود كأقلية متميزة تتطلب مشاعر الأمان لديهم حماية قانونية خاصة. وهذا يزيد من جودة المناقشة غير الواقعية في الولايات المتحدة، حيث يُسلَّح التهديد المتمثل في معاداة السامية من قبل الإنجيليين اليمينيين الذين كانوا في السابق يتحالفون مع القوميين البيض ومعادي السامية الفعليين، في حين يخضع السياسيون الديمقراطيون الليبراليون.
بعد أن قام أحد ضباط شرطة مدينة نيويورك بإنزال العلم الفلسطيني في كلية المدينة واستبداله بالعلم الأميركي، قال عمدة المدينة إريك آدامز: «لوموني لأنني فخور بأن أكون أميركيًا ... إننا لن نتنازل عن أسلوب حياتنا لأي شخص». كان هذا بالطبع تعبيرًا سخيفًا عن كراهية الأجانب، ومن الصعب أن نتخيل آدمز، أو أي سياسي أميركي، يدلي بمثل هذه الملاحظة بشأن أولئك الذين يلوحون بالعلم الأوكراني (صوَّرت شرطة نيويورك عملية إخلاء حرم جامعة كولومبيا في مقطع فيديو ترويجي وكأنه غارة لمكافحة الإرهاب). ولكن هذا يشير إلى العنصرية العفوية، التي غالبًا ما تكون مشبعة بالتحيز ضد المسلمين والعرب، والتي كانت موجهة منذ فترة طويلة ضد الفلسطينيين. أُطِلق على سعيد لقب «أستاذ الإرهاب»، وعلى قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا لقب «بير زيت على نهر هدسون». بدأت باري فايس (Bari Weiss)، كاتبة العمود السابقة في صحيفة نيويورك تايمز والتي ترى نفسها «محاربة لحرية التعبير»، مسيرتها طالبةً جامعية في جامعة كولومبيا وهي تحاول طرد أعضاء هيئة التدريس المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط. إن الحملة ضد العلماء الفلسطينيين، والتي ساهمت في إرساء الأساس الفكري للهجوم على مخيمات التضامن الطلابية، مفيدة للغاية. لقد أخطأ عرفات عندما قال إن أعظم سلاح لدى الفلسطينيين هو رحم المرأة الفلسطينية؛ بل هو المعرفة وتوثيق ما فعلته إسرائيل وما تفعله بالشعب الفلسطيني. ومن هنا جاءت عمليات نهب إسرائيل لمركز الأبحاث الفلسطيني في أثناء غزو لبنان عام 1982، والاعتداءات على الأساتذة الذين ربما كانوا سيسلطون الضوء على تاريخٌ يُفضل البعض قمعه.
هل انحدرت بعض الخطابات في الجامعات الأميركية إلى معاداة السامية؟ هل تعرض بعض المؤيدين اليهود لإسرائيل للتنمر، جسديًا أو لفظيًا؟ نعم، على الرغم من أن مدى المضايقات ضد اليهود ما يزال غير معروف ومثيرا للجدل. وهناك أيضًا سؤال يطرح نفسه، كما كتب شاؤول ماغيد في كتابه ضرورة المنفى (The Necessity of Exile)، وهو ما إذا كانت «مظلة معاداة السامية» هي الوصف الأفضل لكل هذه الحوادث. ويتساءل ماغيد: «ما هي معاداة السامية إذا لم تعد مصحوبة بالقمع؟ ما الذي يُعدُّ معاداة للسامية عندما يكون اليهود في الواقع هم القامعون؟».
في خضم كل هذا الاهتمام بالتعرض المتزايد للتهديد اليهودي، لم يكن هناك سوى القليل من النقاش حول تعرض الطلاب الفلسطينيين والعرب والمسلمين للخطر، ناهيك عن تشكيل لجنة أكاديمية أو مشروع قانون سياسي لمعالجته. وعلى النقيض من اليهود، يتعين على هؤلاء إثبات حقهم في مجرد التواجد في الحرم الجامعي. ويواجه الفلسطينيون –وخاصة إذا شاركوا في الاحتجاجات– خطر أن يُنظر إليهم باعتبارهم «متسللين» من أرض أجنبية. وتعرَّض في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 ثلاثة طلاب فلسطينيين لإطلاق نار من قبل متعصب عنصري في أثناء زيارتهم لأقارب لهم في ولاية فيرمونت، وسيصاب أحدهم بالشلل مدى الحياة. ولم يرد بايدن على هذه الهجمات أو غيرها على المسلمين بالقول إن «الصمت تواطؤ»، كما فعل بشأن معاداة السامية.
في واقع الأمر، كان رفض الصمت ورفض التواطؤ هو الذي دفع الطلاب من كل الخلفيات إلى النزول إلى الشوارع احتجاجًا، مع تعريض مستقبلهم لخطر أعظم بكثير من الذي تعرضوا له خلال احتجاجات عام 2020 ضد عمليات القتل التي ارتكبتها الشرطة. إن المعارضة للعنصرية تجاه السود تحظى بقبول من جانب النخبة الليبرالية، ولكن المعارضة لحروب إسرائيل ضد فلسطين لا تحظى بنفس القدر من القبول. لقد تحدوا التشهير، وازدراء إدارات جامعاتهم، وعنف الشرطة، وفي بعض الحالات الطرد. أعلنت شركات محاماة بارزة أنها لن تُعيّن الطلاب الذين شاركوا في مخيمات التضامن.
وكان موقف المؤسسة السياسية والصحافة السائدة ازدرائيًا إلى حد كبير. ولقد استخف المعلّقون الليبراليون بالطلاب ووصفوهم بأنهم «محظوظون»، برغم أن العديد منهم، وخاصة في الكليات الحكومية، كانوا من خلفيات فقيرة تنتمي إلى الطبقة العاملة، وزعم البعض أن الاحتجاجات كانت في نهاية المطاف من أجل أميركا، وليس الشرق الأوسط (كانت من أجل الأمرين معًا). كما اتُهم المحتجون بجعل اليهود يشعرون بعدم الأمان من خلال إداناتهم الطقسية للصهيونية، والتفاخر، والانخراط في خيالات التمرد على غرار ما حدث في عام 1968، وتجاهل قسوة حماس أو حتى تبريرها، وإضفاء طابع رومانسي على النضال المسلح في دعواتهم إلى «عولمة الانتفاضة»، والانغماس في الحماسة المانوية التي أعمتهم عن تعقيدات الحرب التي شملت أطرافًا متعددة، وليس فقط إسرائيل وقطاع غزّة.
بطبيعة الحال، ثمة قدر من الحقيقة في هذه الانتقادات. وكما هو الحال مع «سحب التمويل من الشرطة»، فإن شعار «من النهر إلى البحر» جذاب في إطلاقيته، ولكنه غامض على نحوٍ خطير أيضًا، ويشكل وقودًا لخصوم اليمين الذين يبحثون عن أدلة على دعواتهم إلى «الإبادة الجماعية» ضد اليهود. وكان هناك، كما هو الحال دائما، بُعدٌ مسرحي للاحتجاجات، حيث تصور بعض الطلاب أنفسهم جزءا من نفس المأساة التي تتكشف في غزة، وخلطوا بين الإخلاء العنيف للمخيمات الطلابية (أو كما أسموها: المناطق المحررة) والتدمير العنيف لمخيمات للاجئين في القطاع. ولكن الهجمات على المتظاهرين، سواء بسبب «الامتياز» أو العداء المفترض لليهود أو التعصب، لم يكن تصويرًا عادلًا لحركة واسعة النطاق تضم الفلسطينيين واليهود والأميركيين من أصل أفريقي واللاتينيين والمسيحيين والملحدين.
وعلى الرغم من كل هفواتهم، فقد لفت الطلاب الانتباه إلى أمور بدت وكأنها بعيدة عن أعين منتقديهم: فحش الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتواطؤ حكومتهم في تسليح إسرائيل وتسهيل المذابح، ونِفاق ادّعاء أميركا بالدفاع عن حقوق الإنسان والنظام الدولي القائم على القواعد في حين تمنح إسرائيل الضوء الأخضر للإبادة، والحاجة الملحة إلى وقف إطلاق النار. ولم يخيفهم المقارنة الغريبة التي أجراها نتنياهو بين الاحتجاجات والتعبئة المعادية لليهود في الجامعات الألمانية في ثلاثينيات القرن العشرين (حيث لم يكن أحد يقيم احتفالات عيد الفصح اليهودي).
سوف يكون لتدمير غزة تأثيرًا تكوينيًا عليهم، تمامًا كما كان النضال ضد حرب فيتنام، والفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وحرب العراق، بمثابة تأثير تكويني على الأجيال السابقة. إن صورتهم لطفلة قتلتها دولة إبادة جماعية لن تكون آنة فرانك، بل هند رجب، الطفلة ذات الستة أعوام التي قتلتها نيران دبابة إسرائيلية بينما كانت جالسة في سيارة تطلب المساعدة، محاطة بجثث أقاربها المقتولين. وعندما يهتفون «نحن جميعا فلسطينيون»، فإنهم يتحركون بنفس الشعور بالتضامن الذي دفع الطلاب في عام 1968 إلى الهتاف «نحن جميعا يهود ألمان» بعد طرد الزعيم الطلابي الألماني اليهودي دانييل كوهين بنديت (Daniel Cohn-Bendit) من فرنسا. وهذه المشاعر لا يمكن لأي مجموعة من الضحايا أن تظل إلى الأبد المستفيدة المتميزة منها، حتى أحفاد اليهود الأوروبيين الذين لقوا حتفهم في معسكرات الموت.
وكما زعم المؤرخ إنزو ترافيرسو (Enzo Traverso)، فإن نسخة معينة من ذكرى الهولوكوست، التي تركز على المعاناة اليهودية والتأسيس «الإعجازي» لإسرائيل، كانت بمثابة «دِينٌ مدني» في الغرب منذ سبعينيات القرن العشرين. لم يكن الناس في الجنوب العالمي من رعية هذه الكنيسة قط، ويرجع ذلك جزئيًا إلى ارتباطها بالدفاع الانعكاسي عن دولة إسرائيل، والتي توصف في ألمانيا بأنها مصلحة وطنية (Staatsräson). بالنسبة للعديد من اليهود، الذين تأثروا برواية الصهيونية عن الاضطهاد اليهودي والفداء الإسرائيلي، والذين شُجعوا على التفكير بأن ما حدث عام 1939 قد يكون على وشك الحدوث مرة أخرى، فإن حقيقة أن معظم الناس ينظرون إلى الفلسطينيين، وليس الإسرائيليين، كما كانوا اليهود أنفسهم ذات يوم، ضحايا القمع والاضطهاد، ولاجئين عديمي الجنسية، تأتي بلا شك بمثابة صدمة. ومن الطبيعي أن يكون رد فعلهم هو إعادة توجيه المحادثة إلى الهولوكوست، أو إلى أحداث السابع من أكتوبر. لا ينبغي تجاهل هذه المخاوف. ولكن كما كتب جيمس بالدوين في أواخر الستينيات أن «لا أحد يرغب... في أن يخبره يهودي أميركي بأن معاناته لا تقل عن معاناة الزنجي الأميركي. ليست كذلك، ويمكننا أن نعرف ذلك من خلال النبرة التي يؤكد لك بها أنّها كذلك».
والسؤال هو كيف يمكن لهذه الحركات، إن وجدت، أن تُساعد في إنهاء الحرب في قطاع غزّة، وإنهاء الاحتلال ونظام السيطرة القمعي الذي يؤثر على جميع الفلسطينيين، بما في ذلك المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، الذين يشكّلون خُمس السكان. وفي حين أن عدالة القضية الفلسطينية لم تحظ قط باعتراف أوسع أو أكثر عالمية، وأن حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (التي يصفها المدافعون عن إسرائيل بأنها «معادية للسامية» و«إرهابية») لم تجتذب قط دعمًا مماثلًا، فإن الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها في حالة من الفوضى شبه الكاملة. ليست السلطة الفلسطينية سوى سلطة بالاسم فقط، وهي بمثابة شرطي افتراضي لإسرائيل، وهي محط استهزاء وسخرية من جانب أولئك الذين يعيشون تحت حكمها. ولكن إسرائيل لم تتمكن من حماية الفلسطينيين في الضفة الغربية من موجة هجمات المستوطنين والعنف العسكري التي أسفرت عن مقتل 500 فلسطيني في الأشهر الثمانية الماضية وأسفرت عن سرقة أكثر من 37 ألف فدان من الأراضي، وهو يشبه ما يحصل في قطاع غزّة بالتدريج. ويخضع الفلسطينيون داخل إسرائيل لمراقبة مشددة، ويواجهون خطر الاتهام بالخيانة، ويتركون تحت رحمة العصابات الإجرامية التي تستبد بالبلدات العربية بشكل متزايد.
ويبدو مستقبل قطاع غزّة أكثر قتامة، حتى في حالة التوصل إلى هدنة طويلة الأمد أو وقف إطلاق النار. وتشير الخُطّة التي وزعها مكتب نتنياهو إلى أن قطاع غزّة في عام 2035 سيكون بمثابة منطقة تجارة حرة على غرار دول الخليج. ويركز جاريد كوشنر على التطوير العقاري على الواجهة البحرية [لقطاع غزّة]، كما أن اليمين الإسرائيلي عازم على إعادة إنشاء المستوطنات. أما الناجون من الهجوم الإسرائيلي، فإن عالم السياسة ناثان براون يتوقع أنهم سوف يعيشون في «معسكر عملاق»، حيث كما أشار في كتابه طُوفان (Deluge)، أن «من المرجح أن يُتعاملُ مع القانون والنظام، إن وُجدت على الإطلاق أصلًا، من قِبَل لجان المعسكر والعصابات التي نصبت نفسها بنفسها». ويضيف: «يبدو الأمر وكأنه شفق طويل من التفكك واليأس وليس اليوم التالي للصراع».
ومن المؤكد أن التفكك واليأس هما الظروف التي تشجع على «الإرهاب»[11] الذي تدّعي إسرائيل أنها تحاربه. وسيكون من السهل على الناجين من قطاع غزة الاستسلام لهذا الإغراء، خاصة أنهم لم يُمنحوا أي أمل في حياة أفضل، ناهيك عن دولة، ولم يتلقوا سوى محاضرات حول السبب الذي يجعلهم بحاجة إلى تحويل القطاع إلى دبي أخرى بدلًا من بناء الأنفاق.
على مدى الأشهر الماضية، أصبحت فلسطين بالنسبة لليسار الطلابي الأميركي والبريطاني ما أصبحت عليه أوكرانيا بالنسبة لليبراليين: رمز للنضال الخالص ضد العدوان. ولكن كما يتجاهل معجبو زيلينسكي العناصر غير الليبرالية في الحركة الوطنية، فإن أنصار فلسطين يميلون إلى تجاهل دموية حماس، ليس فقط ضد اليهود الإسرائيليين، ولكن ضد منتقديها الفلسطينيين. وكما كتب إسحاق دويتشر (Isaac Deutscher)، ففي حين لا يمكن «وضع وطنية المستغَل