فيما لا تزال حرب الإبادة مستمرّة على قطاع غزّة رغم الإعلان عن وقف إطلاق النار، لا تتردّد أطر وشخصيّات عن تجريب المجرّب وتشويه إرادة الناس، من خلال المسارعة إلى نشر استطلاعات رأي في صفوف العرب في إسرائيل، عن موقفهم من مشاركة أحزاب عربيّة في الائتلاف الحكوميّ الإسرائيليّ، وكأنّ هناك رغبة واسعة في ذلك، من خلال طرح أسئلة سطحيّة ومبسّطة، تهدف بالنهاية إلى شرعنة دخول أحزاب عربيّة للائتلاف الحكوميّ، وكأنّه مرحّب بها أصلًا من قبل الأحزاب الصهيونيّة.

هذه المبادرات مثلها مثل المبادرات الأبراهاميّة التطبيعيّة، التطبيع مقابل التطبيع، أي التطبيع دون مقابل، تطبيع مجّانيّ، أي عمليًّا استسلام وتسليم بالتفوّق القوميّ اليهوديّ الصهيونيّ من النهر إلى البحر، ودونيّة العربيّ الفلسطينيّ، والتسليم بالاحتلال والاستيطان، وحتّى يصير ذلك فلا بدّ من تشويه وعي وإرادة الناس بأدوات تبدو كأنّها علميّة، أيّ استطلاعات رأي.

ليس مطروحًا على العرب الشراكة في الحكم في إسرائيل، لا من أحزاب معسكر نتنياهو ولا من المعسكر المقابل، فما الفائدة والجدوى من إعادة طرح هذه الافتراضات غير الواقعيّة وصرف ميزانيّات ضخمة للترويج لها إعلاميًّا، سوى أنّها مدفوعة بأجندات خارجيّة من جهات يهوديّة أميركيّة وغيرها معارضة لنتنياهو باعتباره خطرًا على صورة إسرائيل الديمقراطيّة الليبراليّة في العالم.

والمسارعة بمثل هذه المبادرات تعكس خفّة وسطحيّة سياسيّة، وهي أقرب إلى أساليب عمل انتخابات السلطات المحلّيّة أو البلديّة، كأنّ المسألة مسألة مصالح وأرقام وليس مواقف سياسيّة ومبدئيّة. فهي ليست مبادرات سياسيّة حقيقيّة وجدّيّة، بل فقاعات إعلاميّة مموّلة، تعتبر المواطنين العرب خزّان أصوات لترجيح كفّة معسكر إسرائيليّ على معسكر آخر، وفي هذه الحالة ترجيح كفّة معسكر اليمين - الوسط على معسكر نتنياهو، في حين المرشّح الأقوى لخلافة نتنياهو في المعسكر المناهض له هو نفتالي بينيت الّذي أعلن قبل أيّام بأنّ أيّ ائتلاف حكوميّ بقيادته لن يشمل حزبًا عربيًّا.

هذه الخفّة ليست براغماتيّة ولا واقعيّة سياسيّة ولا رؤية إستراتيجيّة لتعزيز مكانة المواطنين العرب، بل تشويه لإرادة الناس ووعيهم في محاولة تشكيل ضغط على القوى السياسيّة العربيّة للخضوع لأجندات سياسيّة، لا ترى بالمواطنين العرب إلّا ذيلًا للقوى اليهوديّة الليبراليّة في إسرائيل وخارجها.

إنّ الترويج لهذه الاستطلاعات في هذا التوقيت بالذات، ومحاولة خلق حالة سياسيّة تتمحور حول مشاركة العرب في ائتلاف حكوميّ إسرائيليّ، وهو أمر غير مطروح على العرب، في ظلّ حرب الإبادة على الفلسطينيّين في غزّة، والتطهير العرقيّ الجاري في مخيّمات شماليّ الضفّة الغربيّة، لا تختلف عن سياسات الأحزاب الصهيونيّة الحاكمة في عقود مضت، وسلخ العرب الفلسطينيّين في الداخل عن قضيّتهم خصوصًا في هذه الظروف، وتحويلهم إلى أقلّيّة سياسيًّا في لعبة المعسكرات الإسرائيليّة.

من المعيب محاولة إشغال الرأي العامّ العربيّ بفقاعات إعلاميّة افتراضيّة، عوضًا عن تعزيز مكانتهم السياسيّة ومكوّنات صمودهم اليوميّ والجماعيّ، خصوصا أنهم أمام مرحلة سياسيّة خطيرة جدًّا، بل ومصيريّة، تعرض إنجازاتهم السياسيّة والوطنيّة الّتي حققوها بالكفاح والنضال على مدار عقود للخطر، فالبديل المطروح هو عمليًّا أن يتنازل العربيّ الفلسطينيّ في إسرائيل عن ضميره وحقوقه المدنيّة والجماعيّة القوميّة مقابل أن يتحوّل إلى لاعب شبه شرعيّ في لعبة المعسكرات الإسرائيليّة، أي اختزال مواطنته وحقوقه بالحقّ بالتصويت.

هذه الخفّة في المبادرات الأبراهاميّة فيها استشراق واستعلاء على المواطنين العرب باعتبارهم خزّان أصوات واختزال وجودهم السياسيّ والوطنيّ وحقوقهم بالحقّ بالتصويت.

في النهاية، الواقع الإسرائيليّ بغضّ النظر عمّن يحكم إسرائيل، يظهر بأنّها ذاهبة إلى الحسم مع الفلسطينيّين، سواء في غزّة والضفّة، أو في الداخل. والمبادرات المذكورة بهذا السياق هي ضمن هذا الحسم، والمطروح بأن يحسم المواطن العربيّ مكانته، وأن يقبل بدونيّته القوميّة والسياسيّة في هذه البلاد، ويتنازل عن مواقفه ومبادئه وضميره وحقوقه، وينفصل عن فلسطينيّته، ويسلّم بالاحتلال والاستيطان والتهويد، تحت ذريعة تحسين ظروف معيشته. هذه مبادرات تريد من العربيّ أن يحسم التناقض بين مواطنته وفلسطينيّته، لكن مع حصر المواطنة بالحقّ بالتصويت فقط، الّذي سيصبح مشروطًا بالولاء للصهيونيّة. هذا ما تقترحه هذه المبادرات على المواطن العربيّ، ليست المسألة في جوهرها الحقيقيّ مشاركة في ائتلاف حكوميّ، بل اختزال المواطنة بحقّ التصويت المشروط بالولاء لاحقًا. إنّها جزء من مشروع الحسم مع الفلسطينيّين، وإن اختلفت الدوافع.