مُقدّمة المُترجم:
منذ هبّة أيار/مايو 2021، ومع الانتشار الكبير الذي حظيت به القضية الفلسطينية عالميًا للدرجة التي سُميت بانتفاضة التيك توك، وللدرجة التي نُظر إلى انتشار السرية الفلسطينية وكأنه أحد أوائل وأكبر الانتصارات الإعلامية الفلسطينية منذ عقود، كان أحد أكثر الأسئلة انتشارًا في الأوساط الغربية والعالمية، غير العربية، هو لماذا تحصل القضية الفلسطينية على كل هذا الزَخَم الإعلامي؟
والإجابات تتباين على الدّوام، بناءً على منطقِ السّؤال نفسه. فلو كان السّؤال عن وسائل الإعلام التقليدية الغربية، فهي فعليًا لا تهتم بالقضية الفلسطينية، بقدر ما تهتم بتغطية إسرائيل حين وقوع حدثٍ كبيرٍ فيها، كأن تُطلق المقاومة صواريخها من قطاع غزّة، أو حصل أي تهديد للدولة اليهودية، فتكون التغطية في أساسها مُنحازة. أمّا في الوضع الطبيعي، وحين يكون المقتول فقط فلسطينيًا، فهذا حدثٌ لا يتطلب تغطية في الإعلام الغربي (ولا العربي أحيانًا). والأدلة على ذلك كثيرة. تستعمل إسرائيل هذه البروبوغندا الإعلامية، رغم أنها لصالحها، للترويج أنّ سبب الاهتمام العالمي بما يحدث في أرض فلسطين مردّه هو معاداة السامية وكُره اليهود، وقد رأينا ذلك في حرب الإبادة الأخيرة، باستخدام صيغة «الماذا عنّيّة» ونشر وسوم من قبيل (No Jew, No News) في محاولة لتغيير مجرى النقاش والحوار بعيدًا عن الانتهاكات الإسرائيلية، وليس تضامنًا أو نصرةً مع القضايا الأخرى التي لا تحظى بالتغطية الإعلامية نفسها.
أما إذا كان السؤال عن سبب نيل القضية الفلسطينية بعمومها لزخمها الإعلامي والاهتمام العالمي بها، وللشحن العاطفي الذي تُحدثه وتُحرك به الشوارع، فالإجابة تختلف تمامًا، على أن السبب الأول أعلاه يكون ضمن قائمة الأسباب، ولكنه ليس الأول، ولا الرئيس. ويمكننا البدء من أي مكان، حيث تحظى فلسطين، وحظيت بأهمية تاريخية قديمة وحديثة للأديان السماوية الثلاثة، كما أنّها من آخر حالات الاستعمار الاستيطاني في العالم، وهو ما يُكسبها تضامن الجنوب العالمي، الذي ما تزال كثير من دوله ضحية لسياسات الدولة الاستعمارية، والتي تستعمل فيه فلسطين أداةً في فرض نفسها، ولغةً في محاربة منطق الاستعمار.
كما أن للمقاومة الفلسطينية، وفي بقائها وتجددها، وفي تطور أدواتها، وعدم موتها واختفائها لفترات طويلة، دورٌ كبيرٌ جدًّا في حصولها على الزخم العالمي وتضامن المقهورين والمقموعين حول العالم، بل وأنها صارت مُلهمة، وتصنع الرموز، حيث إنها مقاومة لم تتوقف على مدارِ أكثر من مئة عامٍ على الإطلاق، وأينما خمد فصيل أو حركة أو هبّة، ظهر آخر على الرغم من كل الحملات الاستعمارية لإخماد السكّان الأصليين التي طبقتها إسرائيل، وتطبقها حتّى الآن، وعدم التنازل عن الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني. كما أنّ تجدد جولات المقاومة كل فترة وأخرى يُسهم في بقاء الزَّخم للقضية مشتعلًا، ولا يعمل على إجهاد موجات التضامن، وفي الوقت نفسه، يعطيه حافزًا ومُبررًا للنزول للشوارع، وتحريك الرأي العام غربيًا، وفي بعض دول الجنوب العالمي المُنحازة فعلًا لأجل فلسطين.
كما أنّ النظام العالمي الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم ظلمهِ للفلسطينيين والعرب، يحول دون القضاء على القضية الفلسطينية أو دون جعلها قضية هامشية، فشرعية الأمم المُتحدة تسقط تمامًا، إذا ما تخلت عن أسباب قيامها في مرحلة من المَراحل. فعشية النّكبة، تأسست الأونروا لحفظ حقوق اللاجئين الفلسطينيين، كما تبنّت الأمم المُتحدة في جمعيتها العمومية القرار رقم 3379 في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975 بتصويت 72 دولة بنعم والذي يُحدد «أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري». وطالب القرار جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجية الصهيونية التي حسب القرار تشكل خطرًا على الأمن والسلم العالميين. أُلغي القرار في 1991؛ لأن إسرائيل وضعت إلغاءه شرطًا للمشاركة في مؤتمر مدريد 1991.
ومن جُملة الأسباب المُهمة والمحورية أيضًا هي هجرة مواطني الجنوب العالمي، بما فيها الدولة العربية، وعلى وجه الخصوص الفلسطينيين، إلى أوروبا والأميركيتين، وبناء جالية كبيرة ذات صوت عالٍ ومؤثّر ترتبط ارتباطًا وثيقة في بلدانها الأصلية، ووصل هؤلاء إلى مناصب مؤثرة وحساسة، سواء على صعيد الشركات الخاصة، أو المناصب الحكومية، أو في مجال الإعلام والترفيه، وصار لهم رأي وتأثير على الرأي العام هناك، سواء عبر قنوات الإعلام الرسمية التي تشتري مصداقيتها عبر إعطائهم منبرًا صغيرًا، أو عبر وسائل الإعلام البديلة، مثل تيك توك، وإنستغرام، وإكس (تويتر سابقًا)، والتي أحدثت فرقًا كبيرًا في عرض السردية الفلسطينية، والتي تبدو سردية شعب في مواجهة دولة استعمار استيطاني، في حين بدت سردية إسرائيل أقل جاذبية، حيث بدأت تفقد بريقها بوصفها دولة صغيرة مظلومة، خصوصًا مع الدّعم الإمبريالي من الدول الكُبرى. أضفى هذا الأمر جاذبية درامية، أي أن الشعب الفلسطيني يقف في مواجهة أعتى الدول في العالم، وهي الصورة السينمائية الأشهر، أي المقاومة في مواجهة الإمبراطورية. وبالتالي، كسبت القضية مؤيدين من داخل الإمبراطورية يستعملون القضية وسيلة ليقولوا لا في وجهها، حيث يرون أن القضية تزعجها، وهو ما يجعل فلسطين بحد ذاتها استعارةً عالمية للمقاومة.
تُناقش المقالة أدناه من كتابة أستاذ التاريخ اليهودي ديريك جوناثان بنسلار هذا السؤال بصيغته الواسعة، وتحاول الإجابة عليه ولكن من داخل الفضاء الغربي، ومن داخل حقل الدراسات اليهودية، وتُقدّم مجموعة من الأسباب المنطقية، ولكن الكاتب يُركّز على أسباب دون أخرى، ويُغفل العديد من الإجابات الممكنة على السّؤال، والتي تُخرجه من ميدان معاداة السّامية. ومع وضع السّابق في الحُسبان، تُقدّم المقالة إجابة، قد يعتبرها البعض وافية، ولكنها تستحق المزيد من البحث والدراسة، على سؤال، لماذا تحظى القضية الفلسطينية بكل هذا الاهتمام عالميًا؟ وهو سؤالٌ مهم، ولعلي أتناوله في مقالة أكثر تفصيلًا، ومزودًا بالأدلة والمصادر في وقت قريب. أتمنى لكم قراءة مُفيدة.
نصّ المقالة:
أنتج الجغرافي الألماني بنيامين هينينغ (Benjamin Hennig) في عام 2013 سلسلة من الخرائط تصور حجم الدّول بناءً على عدد المقالات المكتوبة عنها في صحيفة الغارديان خلال أي عامٍ من الأعوام. وأظهرت الخرائط الولايات المتحدة منتفخة وسمينة، وأميركا اللاتينية هزيلة، وبعض الدول الأوروبية مُتضخمة بصورةٍ هائلة، والدول الأفريقية والآسيوية صغيرة الحجم على نحوٍ صادم. غير إن الشرق الأوسط بدا كبيرًا، ولكن وعلى الرغم من الثورات والحروب الأهلية في مختلف أنحاء المنطقة، كانت إسرائيل أكبر الدول حجمًا على الخريطة.
لم ينشر هينينغ إصدارات أحدث من هذه الخريطة، ولكن من الآمن أن نقول إن إسرائيل سوف تحتل مكانة بارزة على الأقل، إن لم تكن أكبر، إذا أُصدِرت الخريطة اليوم. لماذا تحظى إسرائيل بهذا القدر من الاهتمام، والأهم من ذلك، لماذا تثير كل هذا الشحن العاطفي؟ وحتّى الآن، بعد أن قتل الجيش الإسرائيلي عشرات الآلاف[1] من الناس في غزة وآلافًا في لبنان، فإن الإجابة عن هذا السؤال ليست واضحة. لم يسبق في أي وقت من الأوقات في التاريخ أن شعر الأميركيون، وخاصة أولئك الذين يدرسون في جامعات النخبة، بقدر كبير من الانزعاج إزاء صراع لا يُرسَلُ فيه الشباب الأميركيون إلى الموت. وبدت الموجة الكبرى الأخيرة من الاحتجاجات في الجامعات —ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا خلال السبعينيات والثمانينيات— باهتة مقارنة بالاحتجاجات الحالية.
يكون السؤال الذي أطرحه —لماذا إسرائيل؟— سؤالٌ مشروعٌ ومُهم فقط إذا تُعومل معه بصدق وانفتاح. يستخدم أنصار إسرائيل هذا السؤال في كثير من الأحيان كأداة بلاغية معروفة بالـ «ماذا عنّيّة؟». ماذا عن ملايين القتلى في إثيوبيا والسودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية؟ وماذا عن القتل الجماعي وتدمير المدن في سورية؟ وماذا عن الفظائع الروسية واسعة النطاق في أوكرانيا؟ ماذا عن الاعتقالات الجماعية في إقليم شينجيانغ الصيني، وماذا عن تصيين[2] التبت؟ لماذا لم يُعطِّل الطُّلاب الدّروس ولم يحتلوا المباني ولم يخربوها؟ ولماذا لم ينشؤوا معسكرات تخييم عندما قتلت القوات الأميركية مئات الآلاف من المدنيين خلال حرب الخليج؟
تُعدّ هذه أسئلة حقيقية ولها أساسها العادل، فقط إذا استُخدمت كوصفة للمناصرة مع المسؤول عنهم. أما في هذا السياق، فإن الأسئلة الـ «ماذا عنّيّة» تستخدم ردًّا عدائيًا، ووسيلة لقمع النقد، وعند استخدامه في سياق الحديث عن إسرائيل وتصرفاتها، فإنه عادة ما يستدعي «معاداة السّامية» بوصفها التفسير الأمثل للغضب العالمي ضدّ الدولة اليهودية.
كان لمعاداة السامية دائمًا دورٌ في العداء تجاه إسرائيل، غير أنها ليست العامل الوحيد. فمنذ إنشاء إسرائيل ومن النكبة الفلسطينية عام 1948، كانت فلسطين بمثابة مغناطيس عاطفي يجذب ويولّد مشاعر مثل الحماسة الدينية والغضب المناهض للاستعمار والشعور بالذنب والعار بسبب الهولوكوست. وفي حين تثير النزاعات العالمية الأخرى مستويات عالية من الشحن والتجاذب العاطفيين، إلا أنها تبقى رأسًا داخل المنطقة التي تدور فيها هذه النزاعات وبين المجتمعات الإثنية والقومية التي تخوضها. روسيا مهووسة بأوكرانيا، وجمهورية الصين الشّعبية مهووسة بتايوان، والصراع الإثني في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا أدى إلى مقتل ملايين الأشخاص، ولكن قِلة من الأميركيين الذين ليسوا من أصل روسي أو صيني أو أفريقي يستثمرون عاطفيًا في هذه النّزاعات كما يفعلون في حالة إسرائيل وفلسطين.
لا يمكن تفسير بروز إسرائيل وفلسطين في الرأي العام فقط من حيث عدد القتلى، ولا من حيث مدى الدمار الذي لحق بغزّة أو لبنان، ولا من حيث وضع الفلسطينيين كشعب محروم ومضطهد (توجد شعوب أخرى مضطهدة ومحرومة مثل الأكراد والمساليت والروهينجا والصحراويين والأويغور واليزيديين). تولّد كل النزاعات القوميّة موجات من المشاعر، أمّا إسرائيل وفلسطين، فتولدا موجاتٍ تسونامية. أو، إذا أردنا استعمال استعارة أخرى، فإن إسرائيل وفلسطين بمثابة موصّلٍ فائِقٍ للتّيار العاطفي. ولا يوجد موصّلٌ آخر مثله.
يكمن مصدر تفرّد فلسطين في الماضي. سُيِّست الأهمية الدينية القديمة لفلسطين بالنسبة للمسيحيين واليهود والمسلمين خلال القرن التاسع عشر. وقعت فلسطين، أولًا تحت نير الاستعمار الأوروبي، ثم أصبحت بعد ذلك موضوعًا لتطلعات الحركة الصهيونية إلى وطن يهودي، وموقعًا للقومية العربية الناشِئة. تزايدت أهمية فلسطين بوصفها موضوعًا وهدفًا للعاطفة السياسية خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، عندما حصلت بريطانيا على انتداب من عصبة الأمم لحكم فلسطين. وجد الصهاينة أن الحكم البريطاني بدايته مبهج، إلا أنه غدًا مثيرًا للغضب، حيث أفسحت التوقعات المبكرة للسيادة اليهودية المجال لاتهامات بالخيانة عندما حاولت بريطانيا الموازنة بين التزاماتها تجاه الصهيونية ومصالحها الجيوسياسية في العالم العربي. وبدوره، أثار الانتداب البريطاني غضب واستياء العرب والمسلمين، الذين أحرزت مساعيهم من أجل الاستقلال تقدمًا في مختلف أنحاء آسيا، ولكنها تعثرت في فلسطين. وقد عززت هذه المشاعر المؤطرة سياسيًا، وتضخمت بدورها، بالمشاعر الدينية. أثارت الشائعات التي تتحدث عن تخطيط اليهود لشراء جبل الهيكل (مجمع المسجد الأقصى) عام 1929 في البلدة القديمة في القدس دعوات بين الفلسطينيين مفادها أن «الأقصى في خطر»، وهي عبارة ما تزال مستخدمة حتى يومنا هذا.
دعا مفتي القدس محمد أمين الحسيني والزعيم المسلم الهندي شوكت علي[3] في عام 1931 إلى عقد مؤتمر إسلامي عالمي في القدس، مما عزّز التصور حول فلسطين، ليس فقط باعتبارها قضية عربية، بل وإسلامية أيضًا. تحولت فلسطين إلى رمز للتطلعات المناهضة للاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، بينما كان يهود العالم، الذين عانوا من الإبادة الجماعية التي تعرض لها يهود أوروبا، يتّحِدونَ حول الدّعوة إلى إنشاء دولة يهودية. وفي العالم الغربي، الذي ارتكب المحرقة، أو ساهم فيها، أو وقف متفرجًا في أثناء وقوعها، كان مصير اليهود موضوعًا حساسًا ومحفوفًا بالمخاطر. وعلى الرغم من إظهار التعاطف مع النّاجين، لم تكن هناك إلّا دولٌ قليلة في أوروبا أو الأميركيتين ترغب في إعادتهم إلى أوطانهم أو قبولهم جماعيًا كلاجئين. وكانَ نقل النّاجين إلى فلسطين حلًا جذَّابًا بالنسبة للعديد من الدول —وهو الخيار الذي أيدته الغالبية العظمى من اليهود وعارضه بشدة العرب في فلسطين وفي مختلف أنحاء العالمين العربي والإسلامي. خلال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة، كان العالم مليئًا بالأزمات —الحرب الأهلية في الصين واليونان والانتفاضات المناهضة للاستعمار في إندونيسيا والهند الصينية، وانقسام أوروبا بين الشرق والغرب. وحتى في ذلك الوقت، كانت القضية المعروفة على نطاق واسع باسم «القضية الفلسطينية» تتمتع بأوسع انتشار عالمي.
توسع الخطاب العالمي حول فلسطين توسّعًا كبيرًا في عامي 1947 و1948، وهي أعوام مناقشات الأمم المتحدة حول تقسيم فلسطين وحرب 1948 وتأسيس إسرائيل والنكبة الفلسطينية، وصار أكثر كثافة مما كان عليه خلال فترة ما بين الحربين العالميتين. وحظيت سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط عام 1948 وردود الفعل الأميركية تجاه الأحداث في فلسطين بقدر كبير من الاهتمام الأكاديمي، بيد أن «القضية الفلسطينية» كانت أكثر بروزًا وإثارةً للجدل في آسيا بدءًا من الشرق الأوسط العربي ووصولًا إلى شبه القارّة الهندية، وفي أوروبا الغربية، وفي أميركا اللاتينية. حظيت القضية الفلسطينية منذ نشوئها باهتمامٍ عالميّ.
كان الوطن العربي الإسلامي مًراقِبًا ومشارِكًا في النضال من أجل فلسطين. استجاب العديد من المسلمين العرب لتأييد المجتمع الدولي لقرار التقسيم باستخفاف وسخط وخوف عميق من أن تسيطر الدولة اليهودية على المنطقة. وفي شبه القارة الهندية، ساعد التضامن مع الشعب المُستعْمَر (مِن المسلمين في الهند، أبناء ديانتهم) في توليدِ دعم قوي للقضية الفلسطينية. وكان هذا الدّعم أكثر معقوليةً وأقل ميلًا لاستدعاء التصورات المعادية للسامية مقارنة بالشرق الأوسط. وولّد الهولوكوست في أوروبا، تعاطفًا مع الصهيونية مَدفوعًا بمشاعر الشفقة والخزي والذّنب، ولكن تسببت معاداة السامية والحسابات السياسية في الحرب الباردة في قدر كبير من الشكوك حول قيام إسرائيل. وفي أميركا اللاتينية، ساهم وجود مجتمعات يهودية وعربية كبيرة، وإلى جانب إرث النضالات المناهضة للاستعمار التي خاضتها القارة ضد إسبانيا والبرتغال، وتأثير الكاثوليكية الرومانية، في خلق تعاطفات متباينة مع طرفي النزاع في فلسطين. وكانت الاستجابات العاطفية في هذه القارات الثلاث واضحة وقوية منذ بداية مناقشات الأمم المتحدة حول التقسيم، وشكّلت نسيجًا معقدًا، ما يزال الكثير منه واضحًا حتى يومنا هذا.
وعندما سلَّمت بريطانيا قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة في فبراير/شباط 1947، تحدّث ممثلو دول الجامعة العربية عن فلسطين باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من العالم العربي. وطالبوا بقيامها دولةً عربيةً. كان هؤلاء القادة العرب في حالة من الاستغراب والغضب من أن تتولى الأمم المتحدة، وهي المنظمة التي تهيمن عليها القوى الاستعمارية، المسؤولية للتدخل في المسار الطبيعي لفلسطين نحو الاستقلال. وقاطعت الهيئة العربية العليا[4] التي تضم الأحزاب السياسية الفلسطينية تحقيقات الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من ذلك التقى أعضاء اللجنة الخاصة للأمم المتحدة بشأن فلسطين (يونسكوب) في يوليو/تموز 1947 في جنيف مع الزعيم الفلسطيني موسى العلمي[5]، وفي بيروت مع شخصيات سياسية ودبلوماسية من سورية ولبنان ومصر والمملكة العربية السعودية والعراق. وطالب الجميع بإقامة دولة لما أسموه عرب فلسطين، والذين أشاروا إليهم أيضًا باسم العرب الفلسطينيين، أو في حالات نادرة، الفلسطينيين. وبرّر هؤلاء إنشاء الدولة الفلسطينية استنادًا إلى حقوق الإنسان العالمية، ومبدأ السيادة الشعبية، والوجود التاريخي للعرب في فلسطين. وبدورهم، صوروا الصهيونية باعتبارها خادمةً للاستعمار البريطاني، ولاحقًا الاستعمار الأميركي. (الاستعمار يشير هنا إلى رغبة القوى العظمى في السيطرة السياسية والاقتصادية على الشرق الأوسط. لم يكن تهجير الفلسطينيين الذي يُشكّل جوهر المفهوم السّائد حاليًا للاستعمار الاستيطاني قد بدأ بعد). وعلى غرار سلسلة طويلة من المناهضين للصهيونية، من اليهود وغير اليهود على حد سواء، أنكر الدبلوماسيون العرب أيضًا أن اليهود أُمّة وبالتالي ليس لديهم الحق في تقرير المصير. وأصرّ الدُّبلوماسيون العرب على أن اليهود يشكلون جماعة دينية، وأن حريتهم في ممارسة شعائرهم الدينية سوف تكون مضمونة في الدولة العربية الفلسطينية.
سواء اتفقت مع هذه الحجج أم لا، فإنها تستند إلى أسس تاريخية وأخلاقية. لكن الاستياء والغضب الكامنين وراء هذه الادّعاءات أدّى إلى تبني آراء معادية للسامية تبنيًا صريحًا. لقد صرح فارس الخوري[6]، وهو سياسي ودبلوماسي سوري بارز، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن اليهود ليس لهم حق في فلسطين؛ لأن 90% من يهود أوروبا الشرقية ينحدرون من السُلاف والألمان والفرنجة والخزر، دون أي صلة بالشرق الأوسط القديم. (كانت «فرضية الخزر»، التي تنسب أصول يهود الأشكناز إلى التحول الجماعي المشكوك فيه لمملكة الخزر في العصور الوسطى في القوقاز، منتشرة على نطاق واسع في الانتقادات العربية للصهيونية في ذلك الوقت، وما تزال تحظى بشعبية). وأضاف الخوري أن «اختيار فلسطين لإرضاء التطلعات الصهيونية لم يكن قائمًا على التعاطف الإنساني، بل على نيّة الصّهاينة في الولايات المتحدة لشنّ غزو اقتصادي للعالم الشرقي بأكمله وتحقيق هذه الغاية من خلال إنشاء نقطة عبورٍ في فلسطين لتكون مقرًا لأنشطتهم». سوف تعتمد مثل هذه الدولة على الولايات المتحدة وعلى «مُحبّي» الصهاينة في الولايات المتحدة، الذين أغرقوا حتى الآن الجالية اليهودية في فلسطين بالدولارات لإعطائها ما أسماه الخوري «مظاهِر» الرخاء.
عندما اندلع القتال بين اليهود والعرب في فلسطين في أواخر عام 1947، كانت الخطابات العامّة العربية تتأرجح بين التقييمات الواقعية والخيالية لأهداف الحرب الصهيونية وأساليبها. تحدث السفير النمساوي في يناير/كانون الثاني 1948 في أنقرة عن العرب المعتدلين الذين كانوا على استعداد لقبول التقسيم ولكنهم خشوا —خشية لها مبرراتها، كما اتضح فيما بعد— أن يتسلل اليهود إلى الأراضي المخصصة من جانب الأمم المتحدة للدولة العربية. وقال السفير الأردني في مايو/أيار في أنقرة إن يهود فلسطين يخططون لغزو بلاد الشام بأكملها، وإن قوات الفيلق العربي عثرت على خرائط لفلسطين والعراق تُثبت النيات الصهيونية في إقامة إمبراطورية يهودية.
قدمت الهيئة العربية العليا في عام 1948 منشورات حول التقسيم إلى الأمم المتحدة، كانت تتأرجح بين الدقة والخرافات الضّارة. واتهمت المنشورات الصهاينة بالوحشية والقسوة المتعمدة تجاه العرب في فلسطين. ولقد قدمت الأفعال الصهيونية، مثل المذبحة الشهيرة التي ارتكبت في أبريل/نيسان 1948 والتي راح ضحيتها نحو مئة مدني عربي في قرية دير ياسين، على المشارف الغربية للقدس، بعض المبررات لمثل هذا الاتهام. ردّت السفارة المصرية في فيينا على المذبحة، مثلًا، بالزّعم بأن «الغرض الحقيقي للصهيونية هو الإبادة الكاملة للعنصر العربي في هذه الأراضي». لكن منشورات اللجنة العربية العليا بالغت وزعمت أن اليهود عنيفون إلى الأبد وبصورة خارقة للطبيعة. وإن «خطتهم الصهيونية التي خططوا لها بدم بارد ومحسوبة بعناية لذبح السكان» كانت «تجديدًا للتقنية التي تبنوها عندما دخلوا فلسطين لأول مرة حوالي عام 1400 قبل الميلاد». وطبقًا للجنة العربية العليا، تعكسُ الوحشية الصهيونية مكانتهم طويلة الأمد كـ «كيّادين دوليون»، ومتحكمين في «قنوات الدعاية في البلدان المهمة». وأن القوة اليهودية العالمية، المتجسدة في الوكالة اليهودية، قد مكّنت من بناء مجتمع «شمولي» و«متعصب» و«إرهابي»[7] في فلسطين، باستخدام وسائل عنف «لا تضاهيها إلا وسائل النازية». واتهمت اللجنة العربية العليا القوات الصهيونية بصلب الأسرى العرب.
لا تعكس هذه اللغة الكراهية فحسب، بل تعكس أيضا الخوف العميق الجذور —الخوف الذي أذكته موافقة الأمم المتحدة على تقسيم فلسطين في نوفمبر/تشرين الثاني 1947. وفي اليوم التالي لإقرار قرار التقسيم، تحدث وزير التعليم (المعارف) السوري منير العجلاني[8] عن «تحرير فلسطين والحفاظ على العروبة على الرغم من المؤامرة العالمية الكبرى ضدنا». وخشي العجلاني من النكبة الوشيكة التي قد تحل بسورية والعالم العربي بأسره. وبعد فترة وجيزة، وصف حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، فلسطين بأنها «خط الدفاع الأول» عن الإسلام في العالم الإسلامي، وفي عام 1949 وصف إنشاء إسرائيل بأنه نتاج مؤامرة يهودية ضد العالم العربي والإسلام على حد سواء.
لاستخدام العجلاني لمصطلح النكبة على العالم العربي، وليس الفلسطينيين على وجه الخصوص، دلالة واضحة. خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة، كان لما أصبح يُعرف في العقود اللاحقة ببداية النكبة الفلسطينية —حرمان الفلسطينيين من منازلهم ووطنهم— معنى أكثر شعبية. في كتابهِ معنى النكبة (1948) استخدم المفكر السوري قسطنطين زريق مصطلح النكبة لوصف الانقسام والتخلف والضعف في العالم العربي، في مقابل القوة الهائلة المزعومة والجَلَد الذي يتمتع به عدوهم الصهيوني. كان زريق من أشد المؤيدين للقومية العربية السياسية، ورأى أن إسرائيل تشكل التهديد الأكبر لإنشاء نظام سياسي عربي موحد قوي ونابض بالحياة وصحي. وأعرب عن قلقه من أنه إذا أنشئت في ظل الظروف الحالية قد مثل هذه الدولة:
فإن الخطر الصهيوني سوف يتغلغل تدريجيًا في جسدنا المريض المنهك بوصمة سرطانية، وسوف نستيقظ يومًا ما وسنعجبُ مِمَّ حديث وسيحدث! وسوف تكون فلسطين كلها في أيدي الأقلية الصهيونية المُقاتلة والنشطة […]
والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن زريق قال في أحد البرامج الإذاعية في 31 مايو/أيار 1948:
سوف تضع التسهيلات التي تمتلكها القوى الصهيونية للنمو والتوسع العالم العربي تحت رحمتها إلى الأبد، وسوف تشل حيويته وتعيق تقدمه وتطوره على سلم التقدم والحضارة، هذا إذا سُمِح لهذا العالم العربي بالوجود أصلًا [...] إننا نناضل ببساطة للدفاع عن أنفسنا ضد عدوان غادر وحماية وجودنا ذاته.
كان الخط الفاصل بين التلاعب والإيمان الصادق في ردود الفعل العربية على الحرب غير واضح. وبعد وقت قصير من مذبحة دير ياسين، أصدر حسين فخري الخالدي[9]، أمين عام الهيئة العربية العليا، توجيهات إلى الخدمة العربية في محطة الإذاعة الفلسطينية لتصوير الفظائع بأبشع العبارات، بما في ذلك مزاعم الاغتصاب. أمِل الخالدي أن تعزز الروايات الفاضحة عن الفظائع اليهودية من عزم الفلسطينيين على محاربة العدو الصهيوني وتثنيهم عن الفرار من أرضهم. (لكن أدت إلى وقوع العكس: أدت الدعاية العربية والصهيونية إلى تكثيف مخاوف الفلسطينيين على حياتهم وعجلت بفرارهم). وحتى لو كان العرب يبالغون في بعض الأحيان في تضخيم حِقد اليهود، فقد كان حقدهم أمرًا مسلمًا به. في عامي 1947 و1948، اختلط خوف العرب وكراهيتهم للصهاينة في فلسطين بالخوف والكراهية لليهود في كل مكان وعلى مدار التاريخ[10].
كان للمسلمين نهج مختلف وفي جنوب آسيا. للمسلمين الهنود تاريخ طويل من التعاطف مع القضية العربية الفلسطينية، ولكن في عامي 1947 و1948، طغى تقسيم الهند وما أعقبه على اهتمامهم بفلسطين. (فبين أغسطس/آب 1947 ويناير/كانون الثاني 1948، فرّ ما لا يقل عن عشرة ملايين هندوسي ومسلم إلى الهند وباكستان، على التوالي، ومات مليون شخص في أعمال العنف بين الطّوائف المختلفة). ولعل هذه الأسباب، أو ربما بسبب البعد الجغرافي والثقافي عن الوطن العربي الإسلامي، كانت خطابات المسلمين الهنود خالية نسبيًا من معاداة السامية. وكان محمد ظفر الله خان[11]، الذي أصبح بعد التقسيم أول وزير خارجية لباكستان، منتقدًا شرسًا للصهيونية، كما كانت العُصبة الإسلامية، الحزب السياسي الذي دافع عن مصالح المسلمين في الهند منذ أوائل القرن العشرين. لكن خان انتقد في مذكراته نظراءه العرب في الأمم المتحدة بسبب لجوئهم إلى معاداة السامية، وهو ما اعتبره غير ضروري لقضيتهم. يعتقد خان أن المسلمين العرب يضعفون «حججهم القوية» من خلال خطاب «عاطفي» إلى حد كبير:
وقضى المتحدثون معظم وقتهم في محاولة عبثية لإثبات أن اليهود القادمين للاستقرار في فلسطين ليسوا من نسل إبراهيم، وأنهم ينتمون إلى قبيلة روسية تدعى الخزر، والتي اعتنق أسلافها اليهودية في الماضي البعيد. كانت القضية العربية قوية بكل جوانبها، إلى درجة أن دعمها بمثل هذه الحجج غير ذات الصلة أدّى إلى إضعافها.
اقترح خان في عام 1940 مخططًا فيدراليًا لفلسطين بدون تقسيم ولا نقل سكاني، مدعيًا أن:
من شأن إنشاء دولة يهودية بالقوة في قلب العالم العربي أن يشكل عامل اضطراب خطير، ليس فقط داخل حدود فلسطين، بل من شأنه أيضًا أن يعرض السلام والأمن الدوليين في مختلف أنحاء الشرق الأوسط للخطر.
كرر خان هذه الحجج في الأمم المتحدة في عام 1947، في حين اعترضت العصبة الإسلامية بقوّة على أي مبرر لتقسيم فلسطين من خلال الإشارة إلى التقسيم الجاري للهند. كان المسلمون الهنود الذين قبلوا إنشاء دولة باكستان أطرافًا في التقسيم مع قدر من الاتفاق المتبادل على الأقل، في حين فُرِض تقسيم فلسطين على المسلمين العرب. وأشار زعماء المسلمين الهنود إلى أن تقسيم الهند كان على أساس الأغلبية الديموغرافية داخل المقاطعات، بينما في فلسطين شكّل اليهود أغلبية فقط في منطقة تل أبيب وضواحيها.
كان محمد عبد الرحمن[12]، وهو رجل قانون بارز في لاهور ومندوب الهند لدى لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين (أو لجنة اليونسكوب)، يعارض تقسيم فلسطين من حيث المبدأ، ونتيجة لتجربته الشخصية. إذ كانت بلاده تتعرض للتقسيم بينما كان يعمل في اللجنة. أُجبرت عائلة عبد الرحمن على الفرار من منزلها وممتلكاتها في دلهي، وبالكاد تمكنت من الوصول إلى لاهور. وتحت ضغط من رئيس الوزراء جواهر لال نهرو، اقترح عبد الرحمن على لجنة اليونسكوب إنشاء اتحاد يهودي عربي يشبه فكرة خان، إلا أنه فضّل إقامة دولة فلسطينية موحدة مع ضمانات بالحرية الدينية لليهود. وبعد أن أصابه الفزع من التصويت على التقسيم، توقع عبد الرحمن أن تقسيم فلسطين سيؤدّي إلى نتائج سيئة، وكتب: «لا توجد أرض أخرى في العالم بأسره تثير مثل هذا القدر من المشاعر والعواطف الدينية». وبعد عام من التصويت، كتب عبد الرحمن إلى عضو آخر في اللجنة، وهو الفقيه الكندي إيفان راند، الذي أيّد التقسيم بقوة، «من فضلك لا تتهمني بالغرور وأنا أقول التّالي بكل تواضع، ما زلت أعتقدُ أن الاتّحاد الفيدرالي كان وربّما سيكون الحل الأفضل لفلسطين كما كنتُ قد تمنيت لبلدي أيضًا».
وقد دعمَ حزب المؤتمر الوطني الهندي، ذو الأغلبية الهندوسية، معارضة المسلمين الهنود لتقسيم فلسطين ولأسباب مماثلة. أرسلت فيجايا لاكشمي بانديت، شقيقة جواهر لال نهرو وسفيرة الهند لدى الأمم المتحدة، في أكتوبر/تشرين الأول 1947 برقية إلى شقيقها مفادها أن «المطالب العربية تقوم على نفس مبدأ حق تقرير المصير والحرية، الذي ناضل من أجله المؤتمر الوطني الهندي على الدوام». وخلال المناقشات، أيّدت الصحافة الهندية بقوة قيام دولة فلسطينية عربية مستقلة. وفي إشارة إلى التقليد البريطاني في استخدام الدين كإستراتيجية لنشر الفرقة في الهند، فضلًا عن «الظروف المأساوية» الأخيرة في البلاد، حثّت صحف ذا ليدر وذا بومباي كرونيكل وذا ناشيونال هيرالد، والتي كانت جميعها مرتبطة بالمؤتمر الوطني الهندي، على أنه عند النظر في مستقبل فلسطين، لا ينبغي للجنة اليونسكوب أن تأخذ الاختلافات الدينية في الاعتبار. وعلى مدار عام 1947 والنصف الأول من عام 1948، أدانت صحيفة تايمز أوف إنديا، التي كانت آراؤها قريبة أيضًا من آراء الحكومة، التقسيم، ودافعت عن الاقتراح بإنشاء دولة فلسطينية الذي ابتكره نهرو، ووصفت اليهود والعرب بأنهم «ضحية المصالح الضيقة والأنانية والفئوية في الأساس». غير أنّ الصحيفة اعترفت في سبتمبر/أيلول 1948 بأن «التقسيم الفعلي والفعّال حققته أذرع يهودية». ولأسباب مختلفة تمامًا، كان من الصعب العثور على مثل هذه البراغماتية وعدم التحيز في العالم العربي، أو في أوروبا.
كان لدى الأوروبيين الذين ارتكبوا أو ساعدوا أو استفادوا من الإبادة الجماعية النازية لليهود مصلحة شخصية في تأييد الصهيونية باعتبارها وسيلةً للتكفير عن شعورهم بالذنب. أو، إلى الحد الذي كانوا فيه ما يزالون معادين للسامية، رأى الأوروبيون في الصهيونية وسيلة لإخراج اليهود الناجين من أوروبا. رأت الحكومات الديمقراطية الاجتماعية وحكومات الكتلة السوڤييتية، التي كانت تربطها علاقات طويلة الأمد مع الحركة العمالية الصهيونية، التي كانت القوة السياسية المهيمنة في المجتمع اليهودي في فلسطين، في الدولة اليهودية الاشتراكية روحًا مشتركة وضربة للإمبريالية البريطانية في الشرق الأوسط.
في فرنسا، ورغم تحذير أجهزة الاستخبارات والخارجية من دعم الصهيونية خشية أن تضر بالعلاقات مع العالم العربي، فإن الحكومة والرأي العام كانا يؤيدان إنشاء إسرائيل (الاستثناء الوحيد كان الكنيسة الكاثوليكية، التي لم تكن في ذلك الوقت تتمتع بنفوذ سياسي). وكان الخلط المتشابك بين التعاطف مع ضحايا الهولوكوست اليهود، والتضامن مع اليهود الذين أدّوا دورًا بارزًا في المقاومة الفرنسية، والشعور بالذنب غير المعترف به بسبب اللامبالاة باليهود في أثناء الحرب (أو التعاون الصريح مع الألمان) سببًا في المقارنة المتكررة بين المقاتلين اليهود في فلسطين وثوّار الريف الفرنسي. عندما حوكم ثلاثة رجال يهود في أواخر عام 1947 بتهمة تهريب الأسلحة لصالح منظمة الإرغون الصهيونية شبه العسكرية، كانت التغطية في الصحافة اليسارية والديجولية متعاطفة مع المتهمين. وكان القاضي كذلك، عندما قال ذلك عندما برّأ أحد الرجال وأصدر أحكامًا مخففة على الاثنين الآخرين. وكتبت صحيفة لوموند المرموقة عن تهريب إسرائيل للطائرات إلى فلسطين بحماسة خفية وإعجاب بـ «ارتجال رائع ورهيب».
كان جوزيف كيسيل أبرز صحفي فرنسي في ذلك الوقت، وهو يهودي من أصل روسي-ليتواني، وحقّق شهرة أدبية باعتباره روائيًا (كان مؤلف رواية Belle de Jour)، وانتُخب في عام 1962 لعضوية الأكاديمية الفرنسية. أشاد كيسيل في برقياته من فلسطين في أثناء الحرب، والتي نشرت في الصحف الفرنسية الكبرى، بالصهاينة بلغة تعكس الحساسيات اليهودية المشتركة في ذلك الوقت: على سبيل المثال، الإعجاب الشديد بأجساد الإسرائيليين المدبوغة، وسلوكهم الهادئ، وتفانيهم وحساسيتهم. كما تواصل مع جمهوره الفرنسي من خلال إشارات محددة إلى «تقاليد الماكي[13]، والمقاتلين غير النظاميين (البارتيزان)، والاشتباكات الاستعمارية». وكتب أن الدّولة اليهودية كانت «تشبه مقاومة الماكي، ولكن على نطاقٍ أوسع»، وأن أفعالها في الحرب كانت تشبه «حملات مقاومة الماكي». ومثل مقاومي الماكي، لم يكن لديهم زي رسمي، وكانوا يمتلكون أسلحة خفيفة فقط، وأبقوا أسماءهم ووجوههم سرية. ووصف كيسل «الشعب اليهودي الاستثنائي» الذي واجهه بأنه «نوع من الفيلق الأجنبي الذي تجمع على أرض أسلافه». وكان كيسيل يُشير مكررًا على نحوٍ معادٍ إلى بريطانيا، التي كان للفرنسيين تاريخ طويل من التنافس معها على الرغم من تحالفهما في أثناء الحرب، باعتبارها العدو الحقيقي لليهود.
كان كيسيل يكتب باعتباره يهوديًا صهيونيًا، غير أن أعماله نُشرت في الصحف الفرنسية الكبرى واستهدفت في الغالب القراء غير اليهود. ولم تكن كتاباته دفاعًا عن الصهيونية في مواجهة انتقادات الأغيار بقدر ما كانت سَردية منتصرة لإنشاء دولة من مقاومي الماكي في فلسطين، تتألف من اليهود من الشرق الأوسط وأوروبا، ذوي البشرة الداكنة والبيضاء على حد سواء، والمُكرَّمون بمهمة حضارية تجاه ما وصفه بالعرب المتخلفين في فلسطين.
كان لُحبّ الصهيونية المُنتشرة في الأواسط الفرنسية مصادر عديدة، تتراوح من الشعور بالذنب إلى التعاطف، ولم تر أي تناقض في تصور الصهيونية باعتبارها استعمارية استيطانية من ناحية، ومتجذرة في المقاومة الجماعية والتحرير من ناحية أخرى. استمر التناقض في المشاعر تجاه الصهيونية إلى جانب معاداة السامية الواضحة في أوروبا على الرغم من كل شيء، بما في ذلك في الدولة التي ارتكبت الهولوكوست. كانت ألمانيا تحت احتلال الحلفاء حتى عام 1949 ولم تكن لديها حكومة مستقلة، لذا فمن الصعب الوصول إلى آراء كبار الدبلوماسيين والقادة السياسيين في الوقت الفعلي بشأن القضية الفلسطينية. ولكن على الرغم من سيطرة الحلفاء ورقابتهم، كانت هناك صحافة حرّة نسبيًا، وكانت تمثيلاتها عن فلسطين تبعث على المفاجأة. وفي الفترة ما بين التصويت على التقسيم في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 1947 والهدنة الأولى في منتصف يونيو/حزيران من العام التالي، كانت فلسطين تتصدر الصفحات الأولى من الصحف الألمانية الكبرى بانتظام —وفي بعض الفترات، لأسابيع في كل مرة. غطت صحيفة دير شبيغل الإخبارية الشهيرة في عام 1948 إسرائيل في 29 عددًا، مقابل 20 عددًا للصين، و12 عددًا لليونان، وسبعة أعداد للهند، وخمسة أعداد لإندونيسيا. جاءت مُعظم القصص التي نشرتها الصحف من وكالات الأنباء ولم تتضمن أي تحليل أو تعليق، ولكن كثرتها كانت كاشفة. كانت الصحف الألمانية قليلة خلال هذه السنوات التي أعقبت الحرب مباشرة، ولا يزيد عدد صفحاتها على ثماني صفحات، وكانت تحمل صفحة أو صفحتين من الأخبار الأجنبية. تنافست الأخبار الواردة من مناطق الاضطرابات مثل فلسطين والصين والهند على مساحة ثمينة مع اندلاع الحرب الباردة في أوروبا، وخطة مارشال، وإصلاح العملة في المناطق الغربية من ألمانيا المحتلة، وحصار برلين منذ يونيو/حزيران 1948. ومع ذلك، فإن الحرب في فلسطين، كانت تشكل مصدر قلق بالغ، حتى لو نُقلت بأكثر الطرق حيادية. وتناولت التقارير الإخبارية في معظمها القدس وعكست وجهة نظر مسيحية، واهتمت بسؤال ما إذا كان اليهود والعرب على حد سواء يشكلون تهديدًا للأماكن المقدسة. وكانت التعليقات القصيرة على الأخبار تميل إلى التذمر من الحرب عمومًا، ولم يُعبَّر عن تعاطف كبير مع القضية الصهيونية.
واتخذت صحيفة دي تسايت الأسبوعية، التي يقع مقرها في هامبورغ، موقفًا أكثر عدائية تجاه إسرائيل. بدأت ماريون دونهوف، عميدة الصحافة الألمانية المستقبلية، مسيرتها المهنية خبيرةً في شؤون الشرق الأوسط لدى الصحيفة. تنحدرُ دنهوف من عائلة أرستقراطية بروسية عريقة، وعارضت النازيين ولكنها لم تكن جمهورية ولم تخلُ مواقفها من معاداة السامية. كانت إسرائيل بالنسبة لدونهوف «جسمًا أجنبيًا» يقف عائقًا في طريق إقامة مملكة عربية متجاورة إقليميًا تتمتع بالقدرة على «ممارسة سياسة عربية إبداعية مستقلة» تُغذّيها عائدات النفط السعودية. وكتبت دونهوف أن إسرائيل لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تحل «المشكلة اليهودية» لأنها صغيرة للغاية، وأن العرب لن يقبلوا بها أبدًا ما لم تمنع الهجرة اليهودية الإضافية. ووصفت دونهوف إسرائيل في الوقت نفسه بأنها نقطة لانتشار الشيوعية السوڤييتية واستمرار للنازية في شكل قومية «ضارة» و«متطرفة» وشوفينية.
وتناولت دير شبيغل الألمانية الأسبوعية، من ناحية أخرى، الزعيم الصهيوني ديفيد بن غوريون ووصفته بالبطل. كما أدانت المجلة أمين الحسيني ووصفته بأنه من منظري النّازية والمتعاونين معها، وانتقدت الولايات المتحدة والأمم المتحدة لتراجعهما عن دعم التقسيم في أواخر شتاء عام 1948. ونشرت دير شبيغل عدة صور على غلافها لمقاتلين إسرائيليين، كما وثَّقت بتعاطف معاناة النازحين الذين يسعون إلى الوصول إلى إسرائيل. وفي الآن ذاته، ظهرت آثار لمعاداة السامية في المجلة أيضًا. وفي قصة عن المسافرات الإناث على متن سفينة إكسدوس (SS Exodus)، اللاتي تمكنَّ بعد محنة شاقة وطويلة من الوصول إلى الدولة اليهودية، كتبت المجلة أن «العديد من النساء اليوم يرتدين خواتم ذهبية، ويعتنين بأنفسهن، ويضعن المكياج، وتتراكم الأوراق النقدية في حقائب أزواجهن». ووصفت دير شبيغل تل أبيب بأنها تحتوي على «القوة المالية المُركَّزة ليهود العالم». ورغم اهتمامها بمعاناة اليهود النازحين من أوروبا، فلم تذكر دير شبيغل أبدًا سبب تهجيرهم. لم تربط المجلة بين الإبادة الجماعية النازية والنازحين، بل صورة المسيحية بوصفها ديانة السّلام مقابل السلوك المتعصب والكاره والغاضب المزعوم لليهود مثل اللاجئين على متن سفينة إكسدوس. وكما هو الحال مع صحيفة دي تسايت، بذلت صحيفة دير شبيغل جهدًا كبيرًا لإدانة عصابتي إرغون وشتيرن باعتبارهما «جماعتين يهوديتين فاشيتين من الدرجة الأولى».
لم تكن لألمانيا حكومة ولا سياسة خارجية في عام 1948 في أثناء حرب التقسيم، ولكن كان لدى النمسا حكومة وسياسة خارجية. وتظهر المراسلات الدبلوماسية بين سفراء النمسا في الشرق الأوسط ووزارة خارجيتها في فيينا أن معاداة السامية شكَّلت وجهات النظر النمساوية. إنَّ إسرائيل، كما كتب السفير النمساوي في أنقرة عام 1948، منقسمة بين المعتدلين والشيوعيين، أو بشكل أكثر تحديدًا، بين «اليهود الغربيين ذوي التوجهات الديمقراطية» و«اليهود الشرقيين المنبوذين الذين لا يعرفون حدودًا». وكانت مفاهيم القوة المالية والسياسية اليهودية في الولايات المتحدة حاضرة في كل المراسلات. وكان الاعتقاد السائد هو أن اليهود في فلسطين يتمتعون بثروة كبيرة، بعضها حصل عليه المهاجرون الألمان الذين انتقلوا إلى فلسطين في ثلاثينيات القرن العشرين وقاموا بتصنيع نسخ مقلدة من السلع الألمانية الحاصلة على براءات اختراع. ومرة أخرى، وكما هو الحال في الصحف الألمانية، فإن الظروف التي أدت إلى رحيل هؤلاء اليهود المفاجئ من أوروبا مرت دون ذكر. أشارت رسالة من السفير النمساوي لدى الكرسي الرسولي (البابوي) في ديسمبر/كانون الأول 1948 إلى «الفظائع التي ارتُكبت أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها». ولم يذكر التقرير طبيعة الفظائع أو نطاقها أو ضحاياها أو مرتكبيها.
كان التعاطف في أميركا اللاتينية، مع ضحايا الهولوكوست اليهود خاليًا إلى حد كبير من الشعور بالذنب الذي شعر به مرتكبو الجريمة والمتفرجون الأوروبيون. سمحت المسافة الجغرافية بينهم وبين ساحات القتل في أوروبا وميادين القتال في فلسطين باتباع نهجٍ أكثر تجريدًا في التعامل مع القضية الفلسطينية. كان إنريكي فابريغات من الأوروغواي وخورخي غارسيا غرانادوس من غواتيمالا، على سبيل المثال، عضوين ليبراليين ومؤيدين للصهيونية في لجنة اليونسكوب. كان فابريغات إنسانيًا مسيحيًا ومعاديًا للفاشية، وقد نشأ كلا التزاميه خلال نضالهِ ضد فرانكو إسبانيا. وكان غارسيا غرانادوس يتقاسم هذه الآراء السياسية، فضلًا عن العداء المناهض للإمبريالية تجاه بريطانيا، حاكمة هندوراس البريطانية المجاورة (التي أصبحت فيما بعد بِلِيز). عملت جماعات الضغط الصهيونية على تعزيز المزيج العاطفي الذي يجمع بين فابريغات وغارسيا غرانادوس من التعلق والإعجاب والتضامن ضد عدو مشترك في جميع أنحاء أميركا اللاتينية. وقد أنشأت الوكالة اليهودية، وهي الهيئة الحكومية الصهيونية الأولية التي مقرها في لندن والقدس، هذه المجموعات في أعقاب الحرب العالمية الثانية في كل دولة من دول أميركا اللاتينية تقريبًا. وقد أطلقوا عليها اسم «لجان مناصرة فلسطين»، وهو تذكير بأنه قبل عام 1948 كان الصهاينة والعرب الفلسطينيون يستخدمون كلمة «فلسطين» للإشارة إلى المنطقة نفسها.
عبئت لجان مناصرة فلسطين في مختلف أنحاء أميركا اللاتينية، والتي كان لها مئات الأعضاء في الدول الكبرى وعشرات الأعضاء في الدول الأصغر، النخبة من مجتمعات بلدانها —السياسيين والقضاة والأساتذة والمحامين— للضغط على حكومات تلك الدول لدعم القضية الصهيونية. وكانت هناك منظمات مماثلة في الولايات المتحدة، ولكن في أميركا اللاتينية كان هناك فرق كبير واحد —وجود مجتمعات كبيرة من المهاجرين العرب، وغالبًا ما كانوا مسيحيين من سورية ولبنان وفلسطين. وكان المسيحيون العرب في أميركا اللاتينية في كثير من الأحيان داعمون للقضية الفلسطينية. وفي الأرجنتين، كان من بين أعداء اللجنة الصهيونية المؤيدة لفلسطين صحيفة برنسا، التي نشرت:
نداء للتضامن الإنساني. 400 ألف إنسان نازح من أرضهم وبيوتهم في فلسطين ينتظرون المساعدة. ساهم بمساعدتك للتخفيف من معاناة الآلاف من الأطفال وكبار السن والنّساء والرجال الذين يعانون من الجوع والبؤس الذي لا يوصف.
كان هذا النوع من التنظيم الخيري والرسائل العاطفية في الولايات المتحدة، أكثر انتشارًا بين المنظمات اليهودية منه بين المنظمات العربية. كان اليهود والعرب في أميركا اللاتينية، يناضلون على قدم المساواة.
ونتيجة لهذه الضغوط المتبادلة من جانب الجماعات العربية واليهودية على حد سواء، امتنعت ست حكومات أميركا اللاتينية عن التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947 على تقسيم فلسطين. ومن خلال القيام بذلك، أعلنت الأرجنتين والمكسيك ودول أخرى في أميركا اللاتينية استقلالها عن الولايات المتحدة، التي حثّتها على دعم التقسيم. ولكن من المهم أيضًا عدم الاستهانة بالقوى السياسية المحلية العاملة. أعربت الأوروغواي وغواتيمالا عن دعمهما للتقسيم قبل أن تفعل الولايات المتحدة ذلك. كان الرئيس التشيلي غابرييل غونزاليس فيديلا مؤيدًا للصهيونية وكان عضوًا في لجنة مناصرة فلسطين في بلاده. وفي الوقت نفسهِ، أدّت الضغوط التي مارستها الجالية العربية في تشيلي إلى امتناع حكومة فيديلا عن دعم التقسيم. كان قرار الرئيس خوان بيرون في الأرجنتين بالامتناع عن التصويت على التقسيم بمثابة اعتراف بالدعم العربي الأرجنتيني لنظامه. صوتت كوبا ضد التقسيم رغم الضغوط الأميركية. وأدلى إرنستو دييغو، الذي ألقى خطابًا عاطفيًا في الأمم المتحدة لدعم حق الفلسطينيين العرب في تقرير المصير، مبررًا تصويت كوبا. لكن قرار التصويت ضد القرار جاء مباشرة من الرئيس الكوبي رامون غراو سان مارتين، وذلك بسبب الضغوط التي مارسها العرب الكوبيون والاستياء من الولايات المتحدة بسبب سياسة تجارة السكر.
تُذكّرنا المنافسة بين المجتمعات اليهودية والعربية في أميركا اللاتي