تشهد الساحة الإسرائيلية في الأعوام الأخيرة تحولات سياسية واجتماعية عميقة، أبرزها "تغلغل الكهانية" الأمر الذي يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة التحولات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي، والعوامل التي ساهمت في تصاعد النزعات اليمينية المتطرفة.

تابعوا تطبيق "عرب ٤٨"... سرعة الخبر | دقة المعلومات | عمق التحليلات

الباحث والمحلل السياسي، أنطوان شلحت، يتحدث في هذا الحوار لـ"عرب 48" عن أسباب هذا التحول، ومدى تأثيره على الخارطة السياسية والأمنية في إسرائيل، وكيف تسللت الكهانية إلى مؤسسات الدولة، وانعكاس ذلك على تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين، داخليًا وفي الأراضي المحتلة، والتطورات الأخيرة في الحرب على قطاع غزة والضفة الغربية.

أنطوان شلحت

"عرب 48": قديما كان يدعى أن أتباع التيار الكهاني في إسرائيل هم قلة شاذة، ما الذي أوصل المجتمع الإسرائيلي إلى هذا المستوى من التطرف؟

شلحت: هناك تحولات في المجتمع الإسرائيلي ككل، وليس فقط على مستوى التمثيل السياسي ابتداء من العام 2000، فالانزياح يزداد عاما بعد عام تجاه اليمين، وليس اليمين التقليدي وإنما اليمين المتطرف الذي يوصف أيضا أنه يمين جديد، وهو يمين إشكالي جدا، وحتى على المستوى الإسرائيلي الداخلي يعتبر كل من يخالفه بمثابة عدو له، ومن الطبيعي أن تنتشر الكهانية.

صحيح أن القانون الإسرائيلي حظر عصابة "كاخ" واعتبرت تنظيما إرهابيا، ولكن فكرها بقي، الترويج للعنصرية لطرد الفلسطينيين والترانسفير، وظهرت أحزاب كهانية بدون أن تصرح بأنها كذلك. كان حزب يدعو للترانسفير ورئيسه تولى منصب وزاري في حكومة سابقة، ثم تطور هذا الفكر لعدة أحزاب آخر نسخة منها حزب "عوتسما يهوديت" الذي يقوده الوزير إيتمار بن غفير، والذي يتبنى الفكر الكهاني. المثير للاهتمام هو نتائج بحث أُجري في إحدى المجلات الإسرائيلية المتخصصة أظهرت أن الفكر الكهاني عابر لكل الأحزاب الصهيونية وحتى الأحزاب الصهيونية اليسارية. الموقف العنصري من الأغيار (الآخرين) عابر لكل الأحزاب في إسرائيل، لدرجة أن صحفي إسرائيلي عرف الإسرائيلي بالتالي: "أنا عنصري إذا أنا إسرائيلي"، فليس مستغرب هذا التطرف.

المشكلة في المجتمع الإسرائيلي وليس فقط في النخبة السياسية، ولقد شاهدنا في الحرب على غزة أن شهوة الانتقام في المجتمع الإسرائيلي لا تعرف حدودا، ولا يرى الآخر (الأغيار) وكما يقول أ. ب. يهوشوع إن مشكلة العرب في إسرائيل أن المجتمع الإسرائيلي لا يراهم، وكما قلت منذ العام 2000 إن زعيم "معسكر العمل"، إيهود باراك، صرح بأنه لا يوجد شريك فلسطيني، ومنذ ذلك الحين اندثر اليسار واتجه المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين، ومن يسيطر على التيار اليميني الرئيسي هو اليمين المتطرف وليس اليمين المركزي الذي يتبنى فكر جابوتنسكي الذي يحتوي، على المستوى المدني، بعض الليبرالية.

"عرب 48": كيف تسلل الكهانيون إلى المؤسسات الحكومية الإسرائيلية خاصة جهاز الشرطة، سمعنا عن تقارير صحفية نفاها جهاز الشاباك عن تعليمات لمواجهة هذا التغلغل؟

شلحت: منذ العام 2009 وعودة نتنياهو لرئاسة الحكومة بدأ يشن حملة على من يسمون حراس التخوم: الجهاز القضائي، والأجهزة الأمنية، وهو يحاول إخضاعها لأجندته الخاصة. في كافة الدول الديمقراطية هناك مؤسسات تابعة للدولة وتعد أساس الدولة التي هي القانون، وهذه المؤسسات تحتكم للقانون، وهناك مؤسسات منتخبة، وما يحدث في إسرائيل أن المؤسسات المنتخبة تحاول إخضاع مؤسسات القانون، والتوصيف الأكبر الذي يطلق على نتنياهو أنه "مفكك الدولة" بعد أن أنهى دور الكنيست، والتي هي مؤسسة تشريعية، ولكنها اليوم تشرّع قوانين وفقا لأجندة نتنياهو فقط، فكل ما يخدم أجندة نتنياهو يحصل على شرعية، وهكذا حصلت الكهانية على شرعية لأنها حليفته الرئيسية، وبدون الكهانيين ليس لديه حكومة، لذلك منحهم حرية عمل مطلقة لفرض سيطرتهم على مؤسسات الدولة، وبسط الأفكار المتطرفة فيها خصوصا جهاز الشرطة، ومن الصعب الإجابة عن إمكانية أن يواجه جهاز "الشاباك" هذا التغلغل أم لا، فليس من المستبعد أن يتمكن نتنياهو من إقالة رئيس الشاباك ويحاول أيضا إقالة المستشارة القضائية التي تعتبر أيضا من حراس المؤسسة القانونية، فإسرائيل ذاهبة إلى مزيد من التطرف وإخضاع الدولة للمؤسسات المنتخبة من خلال انتهاك القوانين، التي أصلا لا تنصفنا نحن كعرب، ما أعنيه أن الوضع سيزداد سوءا أكثر فأكثر.

"عرب 48": ما هو تأثير هذا التغلغل على السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية، وكيف تأثر الجيش بوجود بتسلئيل سموتريتش في مسؤولية مؤسسات الاستيطان ووزيرا للمالية؟

شلحت: لعل أهم الأمور هو ما يسمى وظيفة مسؤول مؤسسات الاستيطان، بمعنى الإشراف على الاستيطان، والتي كانت سابقا بيد الجيش، أي أنها مناطق محتلة بصورة مؤقتة. الآن، عندما يأتي وزير مدني للإشراف عليها هذا يعني أن الأمور تسير باتجاه مأسسة الاستيطان والضم، وواضح من تقارير مؤسسات حقوق الإنسان أن هناك تكثيف استيطان غير مسبوق منذ تولي وزير المالية الحالي وظيفته وآخر قرار اتخذه في إطار هذه الوظيفة هو انفصال 17 بؤرة استيطانية من أجل الاعتراف بها كمستوطنات مستقلة، إضافة للحرب الشعواء التي تشنها إسرائيل في شمالي الضفة الغربية وتحويل المخيمات فيها إلى أماكن غير قابلة للحياة بحجة أن هناك جيوب مقاومة، وجزء من الحملة على المخيمات هي حملة على حق العودة، والتي تتوازى مع الحملة على الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى)، فالاتجاه نحو مأسسة الضم ونظام الأبرتهايد في الضفة الغربية، وهناك وقائع كثيرة تثبت ذلك، وسموتريتش عندما نشر خطة الحسم التي قال فيها إنه حان الوقت أن تتخلى الحكومة عن سياسة إدارة الصراع والتوجه نحو حسم الصراع، متبنيا حملة يهوشع بن نون على أريحا بثلاثة خيارات، الاستكانة وقبول سيطرة الاحتلال، الهجرة والترحيل، أو قتال حتى الإبادة، وهو طرح تبني هذه الخيارات، وهناك من يعتقد أن الحكومة الحالية كلها متماشية مع هذه الخطة وتحاول تطبيقها تدريجيا. يبقى السؤال ما هو موقفنا كفلسطينيين من هذا التشخيص، فهل فعلا نحن كفلسطينيين نقوم بكل ما ينبغي أن نقوم به تجاه هذه المخططات التي يجري تطبيقها في السر والعلن؟

"عرب 48": ما هي ردود الفعل الدولية على تنامي نفوذ الكهانية في إسرائيل، وكيف تتعامل الحكومة الإسرائيلية مع الانتقادات المتعلقة بتغلغل الكهانية؟

شحلت: أعتقد أن الحرب على غزة أثبتت أن موضوع الأسرة الدولية والضغط الدولي مبالغ فيه، أتحدث عن الأنظمة وليس الشعوب، لدى الشعوب هناك تحولات حتى في الولايات المتحدة الحليف الأقوى لإسرائيل، وهناك استطلاعات تقول إن الرأي العام الأميركي إلى حد ما بنسبة لا بئس بها متحفظ مما تقوم به إسرائيل في غزة، ولكن في الأسرة الدولية ثبُت أن هناك تواطئا دوليا وعدم القيام بما يجب القيام به من أجل وقف هذه الحرب التي تحولت إلى حرب إبادة.

"عرب 48": ما هي آخر التطورات السياسية والأمنية على الساحة الإسرائيلية، وإلى أين تتجه الأمور، وهل تتواصل الحرب على قطاع غزة والضفة الغربية أم ستتوقف؟

شلحت: الحرب متواصلة، على ما يبدو، كما كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن رئيس الأركان الجديد، أيال زمير، لديه خطة عرضها على الوزراء وهو يدعي أن هذه الخطة قادرة على القضاء على حركة حماس وقدراتها العسكرية، وهذا يدغدغ نتنياهو لأن ذلك يعني أن الحرب متواصلة حتى إشعار آخر، وهذا يحمي الحكومة.

هناك توصيفات كثيرة لهذه الحرب في الإعلام الإسرائيلي: "حرب من أجل الحرب" و"حرب من أجل سلامة نتنياهو" و"حرب سلامة الائتلاف الحكومي"، بعض المحللين كانوا يعولون على أن المؤسسة الأمنية تنتقد وتقول إن الحرب لا يجوز أن تستمر من أجل الحرب ويجب التوصل إلى خطة سياسية، لكن يبدو أن القيادة الجديدة للجيش متماهية مع هذا الفكر وحتى أن هناك مخططات لإقامة حكم عسكري على أجزاء من غزة، وأن يتولى الجيش مسؤولية توزيع المساعدات، وهذا يعني حكم عسكري في قطاع غزة، ونحن نعلم أن رئيس الأركان السابق للجيش كان يعارض هذه الخطة، واليوم هناك قبول لدى الجيش بهذه الخطة.

"عرب 48": كيف يؤثر الصراع الداخلي في إسرائيل على إستراتيجيتها الأمنية؟

شلحت: الصراع في إسرائيل ليس فقط في قضية عائلات المحتجزين في غزة، إنما أيضا في تعدي نتنياهو على ما يسمى "حراس التخوم" وضد الحرب، لأن هناك قناعة أن الحرب لا تؤدي للإفراج عن المحتجزين، بل على العكس. هذان خياران متناقضان.

هناك مواقف وتحليلات، فمثلا عندما يهدف وزير الأمن، يسرائيل كاتس، فتح جهنم على غزة فإن أبواب جهنم ستفتح على الأسرى الإسرائيليين، ولكن الصراع الداخلي الإسرائيلي حتى الآن لم يؤثر على إستراتيجية إسرائيل الأمنية، وقد تؤثر فيما لو صار لها زخم أكبر، والتأثير الأكبر قد يأتي من المؤسسة الأمنية، والقيادة الجديدة اليوم للمؤسسة الأمنية لا تؤثر باتجاه وقف الحرب، وقديما كانت المؤسسة الأمنية تأثر في وقف الحرب، أما العامل الثاني المؤثر فهو رفض الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياطية.

هذان عاملان مؤثران في إستراتيجية إسرائيل الأمنية، إلى جانب الاحتجاج الشعبي في حال كان له زخم وقوة، ولكن في الوضع الحالي نتنياهو لا زال يسيطر بشكل كامل، ولو أن الأزمة قائمة وموجودة، والأيام المقبلة قد تبوح أكثر بالتفاصيل.

اقرأ/ي أيضًا | شلحت: المحللون والعسكريون الإسرائيليون يقرون بفشل أهداف الحرب على غزة