باتت معالم الصراع الكولونيالي ووجهته في فلسطين جليةً أكثر من أي وقت مضى، وهي تتمظهر في مخطّط إبادي واستئصالي من دون رتوش أو مواربة، إذ يمضي القتلة في مذبحتهم بلا كوابح أو ضوابط أخلاقية، أو أي اعتبار للمؤسسات الدولية القانونية، ودون الاكتراث بعواقب ذلك عليهم في المستقبل.
والمفارقة أنّه عندما كانت هذه المعالم مشوَّشة، والجرائم أقل نطاقًا، عند أوساط عالمية واسعة، رسمية وشعبية، كانت لا تزال هناك بعض الضوابط التي تحدّ من التوحش. أمّا اليوم، ومع أن الجريمة سافرة وطابعها الهمجي غير مسبوق، فهي تحظى بالدعم والشرعية من الإمبراطورية الأميركية ومعظم أنظمة الغرب، مقابل صمت ولا مبالاة من دول شرقية كبرى، وهذا ما يُشكّل مصدر رعبٍ ليس لجزءٍ من العالم فحسب، بل لمجمل شعوبه.
نحن أمام واقع تجري فيه عملية تطبيع للإبادة ولاستكمال تهويد فلسطين، وتُطرح خطة التهجير للتداول والمقايضة مع أنظمة عربية سقطت منذ زمن في وحل التبعية والعار. فإدارة الإمبراطورية الأميركية تسعى إلى تنفيذ المخطط وفرض التطبيع على الأنظمة العربية، كممرّ لإنهاء قضية فلسطين وتسييد إسرائيل على المنطقة بصورة مباشرة، من خلال الوصول إلى تطبيع العلاقة بين نظام الإجرام الإسرائيلي والمملكة السعودية، التي تبدو حتى الآن ممانعةً، من خلال إعادة طرح حل الدولتين. ولكن إعادة طرح حل الدولتين من دون تعريف شكل هذا الحل وحدود الدولة وسيادتها، ليس إلا تطبيعًا لنظام الأبرتهايد والمشروع الكولونيالي والمساعي لاستكمال تهويد فلسطين.
إسرائيل، ومن خلال اللوبي الصهيوني الأميركي، تجد في الظروف الدولية الراهنة فرصتها التاريخية لحسم الصراع إلى الأبد لصالح مشروعها، الذي يتجاوز فلسطين إلى لبنان وسوريا وسائر المنطقة العربية. العاقلون وذوو النظرة التاريخية يعرفون أن تحقيق مشروعها الإستراتيجي، المتمثّل في دفن القضية الفلسطينية وحسم الصراع من خلال تغييب الشعب الفلسطيني، سياسيًا أو فيزيائيًا، أمرٌ مستحيل؛ فالشعب الفلسطيني ليس ألمانيا ولا اليابان زمن الحرب العالمية الثانية كما تروّج الدعاية الصهيونية، فهاتان الدولتان كانتا تحت أنظمة نازية وفاشية في الحالة الأولى، وتوسّعية واستعمارية وذات نزعة عسكرتارية في الحالة الثانية. أمّا فلسطين، فإنّها وطنٌ مغتصب، نشأت فيه، كما هو الحال في الأوطان التي استعمرت، حركة تحرّر وطني مقاومة تسعى للاستقلال والحرية. فلسطين لم تغزُ دولة أجنبية، وشعبها لم يعتدِ على شعب آخر، بل كانت الأرض والشعب، ولا يزالان، ضحية عدوان همجي لتحالف استعماري غربي صهيوني. بل إنّ هذه الحركة الوطنية عرضت، قبل نكبة 1948 وبعدها، وتحديدًا في أواخر الستينيات، تصالحًا مع الوجود اليهودي الأوروبي في فلسطين والعيش المشترك في دولة واحدة. بل وقدّمت هذه الحركة الفلسطينية تنازلًا لم تقدّمه أي حركة تحرّر وطني في التاريخ المعاصر، حين قبلت بـ"حل الدولتين" غير العادل، ووقّعت على اتفاق تمهيدي هو اتفاق أوسلو عام 1993، على أمل الوصول إلى دولة مستقلة على 22٪ من وطنها، ودفعت هذه الحركة الوطنية وشعبها، ولا تزال، ثمنًا باهظًا جرّاء الوقوع في هذا الوهم القاتل. هكذا تتكشّف طبيعة المشروع الصهيوني الذي لا يحتمل مستحقات تطبيق السلام والعدالة، لأن بنيته وأيديولوجيته تقومان على النفي المطلق للآخر، لا على التعايش معه على قدم المساواة.
لم يكن أحدٌ يتخيّل، في هذا العصر، أن يصبح التداول ليس في كيفية تجديد الجهود لتحقيق السلام وحل صراع طويل وممتدّ حلاً عادلاً، بل حول أيّ الوسائل يجب تنفيذ التطهير العرقي لشعبٍ أصليّ؛ بالتهجير الطوعي، أو بمواصلة الإيغال في الدم وإبادة أكبر عدد من الفلسطينيين. هكذا أعادنا الغرب إلى تلك العصور المظلمة التي محا فيها شعوبًا كاملة عن وجه الأرض، للحصول على الثروات وتحقيق الغنى.
قدّم الشعب الفلسطيني في هذه الجولة الصراعية الدموية تضحيات خيالية، وتكبّد خسائر فادحة تُعدّ، في نظر غالبيته، ثمنًا لنيل حريته التي قد لا تأتي الآن، ولكنها ستأتي يومًا ما. غير أنّ هذا الأمر يجب أن يخضع للنقاش والمراجعة الصريحة، وتحديدًا فيما يتعلّق بكيفية إدارة الصراع مع الاستعمار، والأثمان التي يمكن أن يتحملها الشعب، والأهم في ما يخصّ كيفية مواجهة المرحلة الراهنة والمقبلة، وبأي أدوات واستراتيجيات. لا شك أن إعادة نظر جذرية يحتاجها شعب فلسطين وحركته الوطنية، بصورة ملحّة.
مع تبدد الآمال في تحقيق التحرر ولو جزئيًا، يقف الشعب الفلسطيني أمام منعطف تاريخي استثنائي وشديد الخطورة، وقد باتت أولويته وقف الإبادة قبل استئناف مسيرته التحررية. لكن ما يزيد من الكارثة أنه لا منقذ في الأفق، سوى صموده، أو ما تبقّى من قدرة على الصمود في هذه الجولة. والأخطر: عدم تحقّق الوحدة الفلسطينية، وإفشال الاتفاق على قيادة موحّدة مسؤولة ترتقي إلى مستوى تضحيات هذا الشعب، وهي مهمّة لا يزال الإخفاق في تحقيقها يشكّل جرحًا عميقًا في الوعي الفلسطيني.
لذلك، تظل أولويات ومهمّات الشعب الفلسطيني، وبما يتوفّر له من أوراق ضغط آخذة بالتقلّص، تتمثل في ممارسة الضغط لوقف الإبادة، ومواصلة المحاولات والمبادرات الوطنية المستقلة لتشكيل قوّة ضغط شعبية وتحشيد جماهيري، يتناغم مع حراكات الأجيال الفلسطينية في الخارج، والحركة الشعبية العالمية التي تجسّد تقاطعية النضال.
بات واضحًا أنّ لا حل في الأفق، ولا في المدى المتوسّط، إلا إذا حدثت تطوّرات مفاجئة تقلب الموازين. وستمرّ سنوات طويلة يتسيّد فيها المشروع الإسرائيلي بفضل اعتماده القوّة العسكرية العارية، ودعم الإمبراطورية الأميركية، وغياب العرب والمسلمين عن الفعل التاريخي. ولهذا، تصبح المهمة الأساسية في مجابهة هذا المشروع الاستئصالي ملقاة على القوة الفلسطينية الشعبية، داخل فلسطين وخارجها، وعلى حلفائهم الذين تنامى عددهم وتفتّح وعيهم على حقيقة نظام الإجرام العالمي.
في ظل هذا التوحّش، وغياب الدعم الفعلي للشعب الفلسطيني، من العرب خصوصًا، تظهر أهمية ما تقوم به القوى الحرة، الفلسطينية والعالمية، المهنية والسياسية، من جهد ومثابرة وإصرار على منع تطبيع الإبادة في فلسطين، مهما توحّش القتلة، ومهما تعرّض النشطاء في العالم، أو المسؤولون في مؤسسات دولية، للملاحقة وحملات التشويه والتهديد. هذا الجهد يصبّ في مراكمة البيّنات والدلائل التي ستشكّل أدوات محاصرة القتلة والمتواطئين معهم، في معركة طويلة لاستعادة الإنسان والعدالة. فاليوم الذي تهدأ فيه المعركة، وتنكشف فيه حجم الجرائم المهولة، قادمٌ، وستكون إسرائيل وقادتها ملاحقين بصورة دائمة، حتى تحقيق العدالة والقصاص.