بينما تعاني قناة بنما من تأثيرات الجفاف التي تحد من حركة السفن، أثار تهديد الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، بإعادتها إلى السيادة الأمريكية تساؤلات حول مستقبل هذا المعبر الحيوي في التجارة العالمية، خاصة بعد اتهامه لبنما بفرض رسوم باهظة على استخدام القناة.
وهدد ترامب، الذي سيتولى منصبه في 20 يناير المقبل، بانتزاع السيطرة على قناة بنما وإعادتها إلى السيادة الأمريكية إذا استمرت بنما في إدارة القناة بطرق"غير مقبولة" على حد وصفه، في خطوة قد تشير إلى تحول محتمل في الدبلوماسية الأمريكية في عهد الرئيس الجمهوري.
وتعتبر قناة بنما، التي افتتحت قبل أكثر من مئة وعشرة أعوام، من أبرز المعابر المائية في العالم، حيث لعبت دورا حيويا في تسهيل حركة التجارة العالمية، فقد عبرت القناة أكثر من مليون سفينة خلال القرن الماضي، مما يبرز أهميتها الكبيرة.
وتربط القناة بين المحيطين الأطلسي والهادئ، وتمر عبر اليابسة التي تفصل بين الأمريكتين بطول يتجاوز 80 كيلو مترا، ما يتيح عبور أكثر من 14 ألف سفينة سنويا.
وحذر ترامب من أن الولايات المتحدة لن تسمح لقناة بنما بالوقوع في "الأيدي الخطأ"، في إشارة إلى مخاوف محتملة بشأن تأثيرات خارجية على هذا الممر المائي الاستراتيجي.
ويعتبر ترامب أن قناة بنما من الأصول الحيوية للولايات المتحدة، نظرا لدورها الحاسم في الاقتصاد الأمريكي والأمن القومي، حيث تعتمد واشنطن عليها بنسبة 70 بالمئة في حركة السفن المتجهة من وإلى موانئها.
وفي رد غير مباشر على تصريحات ترامب، رفض رئيس بنما خوسيه راوول مولينو تهديدات استعادة السيطرة على قناة بنما، مؤكدا في مقطع فيديو عبر منصة إكس، أن القناة لا تخضع لسيطرة أي طرف خارجي، سواء كانت الصين أو أوروبا أو الولايات المتحدة، مشددا على سيادة بنما الكاملة على القناة.
وتولت الولايات المتحدة مسؤولية بناء قناة بنما في بداية القرن العشرين تحت إشراف الرئيس الأسبق ثيودور روزفلت، كما أدارت المنطقة المحيطة بالقناة لعقود. وفي عام 1903، وقعت واشنطن معاهدة مع بنما، التي كانت قد نالت استقلالها حديثا، سمحت بموجبها للولايات المتحدة بتطوير القناة، التي كانت تمثل حاجة ملحة لربط المحيط الهادئ بالمحيط الأطلسي. وتنص المعاهدة على أن تدفع الولايات المتحدة لبنما جزءا من إيرادات القناة.
وفي المقابل، تضمن واشنطن حياد القناة، والسيطرة على الأراضي على جانبي الممر المائي من قبل الحكومة البنمية، لكن بعد عقود من التوترات، وقعت إدارة الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر معاهدتين عام 1977 مع الحاكم الفعلي لبنما عمر توريخوس، لنقل السيطرة على ممر الشحن الحيوي إلى بنما. وبموجب شروط المعاهدتين، حصلت بنما على السيطرة على القناة عام 1999، فيما احتفظت الولايات المتحدة بالحق في الدفاع عنها من أي تهديد لحيادها، وفي نهاية عام 1999 سلمت واشنطن القناة بالكامل للسلطات البنمية التي عمدت إلى توسيع القناة لتسهيل عبور سفن الشحن الكبيرة وزيادة إيراداتها المالية التي ناهزت 5 مليارات دولار في عام 2023.
ومع تصاعد التوترات السياسية بسبب تصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب بشأن سيادة بنما على القناة، يزداد التركيز أيضا على التحديات البيئية التي تعيق فعالية القناة مثل الجفاف الذي يؤثر بشكل مباشر على قدرة القناة على العمل بكامل طاقتها، مما يجعل القناة في دائرة الضوء العالمي نظرا لأهميتها الحيوية في حركة التجارة الدولية.
ووفقا لتقارير إعلامية أمريكية، أدى الانخفاض الحاد في هطول الأمطار العام الماضي إلى نقص في المياه الضرورية لقناة بنما، داخل الممر الذي يبلغ طوله 40 ميلا بين المحيطين الأطلسي والهادئ.
ويعد العام 2023، ثاني أكثر الأعوام جفافا في تاريخ القناة، حيث أجبر الجفاف هيئة القناة على تقليص عدد السفن العابرة "ترانزيت" من 39 سفينة يوميا إلى 24، اعتبارا من يناير الماضي وذلك وفقا لتقارير صادرة عن السلطات البنمية.
وأدى تراجع مستويات المياه في قناة بنما إلى تقليص عدد السفن المسموح لها بالعبور، ما ساهم في زيادة تكاليف النقل وتعطيل سلاسل التوريد.
ويعبر قرابة 6 في المئة من حجم التجارة البحرية الدولية القناة كل عام، وتجني سلطة القناة إيرادات من رسوم المرور وخدمات أخرى تقدمها للسفن.
ورغم التراجع الملحوظ في حركة السفن خلال الفترة الأخيرة، فإن ذلك لم يؤثر بشكل كبير على إيرادات حكومة بنما، وفقا لتقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز.
وعزا التقرير عدم تراجع الإيرادات إلى زيادات كبيرة في الرسوم قبل بدء أزمة تراجع المياه، بالإضافة إلى استعداد شركات الشحن دفع مبالغ كبيرة في "مزادات خاصة" من أجل ضمان الحصول على فرصة لعبور القناة.
ووفقا للأرقام الصادرة عن السلطات المعنية، للسنة المالية المنتهية في سبتمبر الماضي، فقد ارتفعت إيرادات القناة بنسبة 15 في المئة لتصل لنحو 5 مليارات دولار، رغم تراجع حركة العبور بنسبة 1.5 في المئة.
وتعود فكرة شق القناة إلى الحقبة نفسها التي ظهرت فيه قناة السويس، إذ ألهم نجاح القناة المصرية صاحب فكرتها بتطبيقها في مكان آخر، وبالفعل حصل الفرنسي فرديناند دي ليسيبس عام 1879 على امتياز من الحكومة الكولومبية لشق قناة تربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ.
وآنذاك لم يكن هناك دولة مستقلة تسمى بنما بل كانت جزءا من الأراضي الشمالية لدولة كولومبيا لكن جهود شق القناة اصطدمت بطبيعة المنطقة الاستوائية وفقدان أكثر من 20 ألف عامل حياتهم نتيجة تفشي أمراض فتاكة بينهم، قبل أن تفشل الشركة المنفذة في إتمام المشروع، مما أدى إلى إفلاسها في عام 1889 بعد إنفاق حوالي 260 مليون دولار.
واستمرت محاولات بث الروح في المشروع من جديد حتى عهد الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت، الذي قاد الدفع نحو استئناف العمل في القناة، وبعد نقاشات حادة، صوت مجلس الشيوخ الأمريكي في 19 يونيو 1902 لصالح بناء القناة وشراء أصول الشركة الفرنسية التي كانت قد فشلت في إتمام المشروع.
ومع إعلان استقلال بنما عن كولومبيا في الثالث من نوفمبر عام 1903، وقعت الدولة الوليدة اتفاقا يمنح الولايات المتحدة شريطا من الأرض بعرض 10 أميال إلى أجل غير مسمى مقابل 10 ملايين دولار تدفع دفعة واحدة.
وبدأت واشنطن على الفور استكمال الأعمال الإنشائية مفضلة فكرة إنشاء محابس مائية ترفع السفن وتخفضها لاستحالة عمل قناة على مستوى واحد في ذلك الحين، وفي 15 أغسطس 1914 عبرت أولى السفن القناة التي باتت أحد الشرايين البحرية للتجارة العالمية.
ورغم التحديات البيئية والسياسية، تواصل قناة بنما أداء دورها الحيوي في ربط المحيطين الأطلسي والهادئ، مما يجعلها أحد الأصول الاستراتيجية التي تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد العالمي.