بخطوات ثقيلة، مضت الساعات الأخيرة التي سبقت دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في قطاع غزة، فبدت عقارب الساعة وكأنها توقفت، وطالت آخر ليالي القصف، لكن غزة اليوم، بدت على أعتاب مرحلة جديدة، تبدو منهمكة في لملمة آثار «أم الحروب» وترقب هلال «الأحد السعيد» ومشحونة بالتوتر والقلق ما بين ترميم المنازل، واستقبال الأسرى المنوي الإفراج عنهم بموجب صفقة التبادل، وانتشال الجثامين من تحت الأنقاض، وعلاج الجرحى، وخوض غمار الإعمار. فعلى ركام المنازل، ومن قلب دخان كثيف، وعلى وقع آخر الغارات، انبلج وقف إطلاق النار في قطاع غزة، بعد جحيم حرب حمّلت الغزيين ما لا طاقة لهم به، وغيرت معالم القطاع، فأمسكت غزة بحبل النجاة، بعد 470 يوماً من أبشع حروبها وأقسى أيام دهرها. عاد قلب غزة ينبض، والتقط الغزيون أنفاسهم، مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وطوت غزة صفحة السير على الحبل المشدود فوق جمر المحرقة، بما يمهد الطريق أمام نهاية حتمية شاملة، لهذه النسخة المروعة من حروب الفلسطينيين مع الكيان الإسرائيلي. هدأت الحرب، لكن غزة ظلت تترنح على فوهة أسئلة مروعة، تتطاير على تخوم اليوم التالي لأعتى حروبها مع الكيان، والتي شكلت المجاعة ومشاهد النزوح أعلى موجاتها، فضلاً عن الأعداد الهائلة للشهداء والجرحى والمفقودين.
وهكذا، وبعد ما يزيد عن 15 شهراً، تخللها 12 جولة تفاوضية، وما بين مماطلة إسرائيلية، وحضّ قطري وعربي ودولي، أخمدت نار الحرب الأكثر دموية وهمجية، لتطوي معها هستيريا القتل والدمار، وسيظل يوم 15 يناير، علامة فارقة ومضيئة في تاريخ الدبلوماسية القطرية، ونجاحها أخيراً في وقف مآسي الحرب على غزة. أكثر ما هو إيجابي في إعلان وقف النار، هو الإقفال على حرب الإبادة والتطهير والتهجير، وتوقف القتل اليومي، وإزالة هذا الكابوس المرعب الذي ظل يجثم على صدور الغزيين على مدار 470 يوماً، فنزع كل مقومات الحياة، وانتزع معها أرواح المدنيين العزل، لكن لا يبدو أن أزمة غزة ستنتهي بوقف الحرب، إذ ستكون مجبرة على خوض أشواط إضافية، للتعايش مع كل هذا الدمار. وفيما تقف غزة على مشارف حياة جديدة، قوامها عودة النازحين إلى منازلهم المدمرة، ودخول قوافل المساعدات الإغاثية، ورفع ركام الحرب، إلا أن وجعها الأكبر سيطل من خلال رحلة البحث عن المفقودين، وعلاج الجرحى، وإعادة الإعمار، والتعايش مع أشباه المنازل، وفقدان الآباء والأبناء. وفي الجانب السياسي، لم تغادر القضية الفلسطينية طاولة المجتمع الدولي، ورغم أن اتفاق وقف الحرب، أخرج أهل غزة من الظلمة إلى النور، ومنحهم الحياة من جديد، إلا أن مستقبل قطاع غزة سيظل شائكاً ومعقداً بعد الحرب، ويرتبط هذا بمسائل عدة، قد تستغرق وقتاً إضافياً. يقرأ مراقبون فيما يخص مستقبل غزة بعد الحرب، أن تظل التهدئة ضمن الضوابط التي نص عليها اتفاق الدوحة، وتبعاً للأولويات، دون إغفال سباق المبادرات السياسية، لما هو أبعد من الهدنة. يقول الكاتب والمحلل السياسي هاني المصري، إن الحرب على غزة التي قل نظيرها في التاريخ، أثبتت استحالة تجاوز القضية الفلسطينية، ويجب أن تكون بداية الطريق لحل نهائي للقضية الفلسطينية، مضيفاً: «تكبدنا خسائر فادحة قوامها أكثر من 200 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح ومفقود، ودمار شبه شامل، وبتنا في وضع أصعب، لقد تغيرت المعادلة في الإقليم، وحان الوقت للتغيير في فلسطين، والدفع باتجاه اتفاق أكبر ينهي الصراع».
بينما يرى الباحث السياسي رائد عبد الله، أن أسوأ صفحات غزة طويت بإعلان الدوحة، ولكن «حتى لا نكون عرضة للدخول في مواجهة أخرى قادمة، يجب البحث عن نهاية لهذا الصراع الدامي، والحيلولة دون انفجاره مستقبلاً».