رغم دمار الحرب في غزة، إلا أن هناك وقتا مستقطعا للحياة، فأهلها انتزعوا قبس النور من عتمة الدمار، وشرعوا برصف أحلامهم فوق الركام، المواطنون يصدحون بالتكبيرات التي تسمع فقط في عيدي الفطر والأضحى، والصحفيون نزعوا سترات وخوذ الحماية، وثمة نساء يزغردن وأطفال يضحكون، ولديهم إجازة من القتل والدمار، يمنون الأنفس بأن تمتد، وصولاً للتسوية الشاملة، وأن تكون حرب 7 أكتوبر آخر الحروب. ومع أن حجم الدمار جراء الحرب الهستيرية كان هائلاً، إلا أن غزة لم تلعق جراحها أو تجتر أحزانها، أو تتحوصل على نفسها، بل آثرت أن تنهض من بين الركام كطائر الفينيق، الذي ما يلبث أن ينبثق محلقاً في الأعالي والآفاق. الغزيون يحبون الحياة ما استطاعوا إليها سبيلا، ويصرّون على ممارسة دورهم في شتى المجالات بالشكل الطبيعي وكالمعتاد، فما إن هدأت نار الحرب، وسكتت المدافع، حتى اندلق المواطنون إلى الشوارع والميادين والأسواق، وتدفقوا على أنقاض المنازل، محاولين ترميمها بالحد الأدنى الذي يسمح لهم بالعيش فيها، حتى تكتمل مسيرة البناء والإعمار.
وعاد الهدوء إلى غزة مع دخول إعلان وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وعادت الحياة بشكل تدريجي مع انقشاع غبار الحرب، إذ انتشر الباعة في الشوارع والميادين الرئيسية، وشوهدت عشرات الشاحنات المحملة بالمساعدات الإغاثية تدخل القطاع، ما يؤشر على قرب عودة الحياة إلى طبيعتها خلال الأيام المقبلة، مع مناشدة الدفاع المدني للنازحين العائدين، تجنب الاقتراب من المنازل الآيلة للانهيار، أو العبث بمخلفات الحرب من القذائف والذخائر غير المنفجرة، لتفادي أضرار إضافية. أشرقت شمس الحياة على غزة، وفي طوفان بشري، عادت أفواج من النازحين إلى وسط وشمال القطاع، وكان لافتاً تفقد المواطنين لأحيائهم أو محالهم التجارية وممتلكاتهم، ومع انبلاج فجر «اليوم التالي للحرب» شرع النازحون برحلة العودة إلى منازلهم، وإن وأدت الحرب فيها كل مقومات الحياة.
فوق ركام المنازل، هناك في غزة احتفالات فرح عارم بوقف الحرب الأعتى في تاريخها، ومن كتبت لهم شهادة ميلاد جديدة، لم يناموا من ليلتهم إلا لحظات قليلة، إذ دفعهم الشوق لتفقد ما بقي من ذكريات الحي والجيران.
في مدينة رفح، عبّر هاشم أبو ماضي عن شعوره بارتياح كبير، لمجرد أن وطأت قدماه المدينة التي نزح عنها قبل ثمانية أشهر، ورغم صدمته بأهوال الدمار التي لحقت بالمدينة المنكوبة، إلا أنه بدأ بممارسة دوره المعتاد في مثل هذه الأزمات، فتارة يرشد الناس إلى أماكن منازلهم التي تغيرت معالمها أو مسحت عن الخارطة، وأخرى يستقبل أفواج النازحين العائدين، ويخفف عنهم هول الصدمة. ومضى يقول «لم أنم الليلة الماضية، وفوجئت من مشاهد الدمار والحرائق التي ألحقتها الحرب بمدينة رفح، لكننا اليوم نعيش لحظة فارقة بوقف الحرب ومشاهد النزوح والقتل اليومي، وسنعيد الحياة إلى رفح سريعاً»، مبيناً أن رفح ستعود كما كانت عاصمة اقتصادية لقطاع غزة.
بينما أعرب محمـد المقوسي عن خيبة أمله وحزنه العميق عندما وجد بيته مدمراً بالكامل في وسط مخيم جباليا شمال غزة، لكنه سرعان ما استجمع قواه، مشدداً: «الأهم أن الحرب قد توقفت، أما المنازل فيمكن تعويضها، واعتباراً من اليوم، سننطلق إلى الحياة.. الحرب كانت مدمرة، لكن أهل غزة لديهم إصرار على البقاء، واستعادة عافيتهم، ونفض غبار الحرب».