دخلت الأوضاع في فلسطين ممراً ضيقاً ربما لا يوفر هامشاً كافياً للمناورة السياسية، بل إن الأحداث الضاغطة تشتد تأزماً بعد الاختراق الذي حققته الدبلوماسية العربية وأفضت إلى هدنة وصفقة لتبادل الأسرى، إذ ثمة تعاون إسرائيلي أمريكي يؤسس لدور أوسع لهما في قطاع غزة والضفة الغربية، في موقف مثير من شأنه عرقلة مستقبل التسوية السياسية.
وثمة دلائل عديدة على مرحلة مقلقة، استهلها دونالد ترامب عندما عاد يتحدث عن خطته تهجير أهل غزة، التي سبق وتراجع عنها، غير مهتم لما كرّسته خلاصات القمة العربية بالغة الأهمية في القاهرة، ما ينذر بخروج قاطرة السيطرة والتحكم عن سكتها، بعد مهلة الأيام العشرة التي منحها ترامب لحركة حماس للإفراج عن الرهائن، وإلا فالجحيم هو البديل.
ربما صدّقه في ذلك حليفه نتنياهو، المتحفز للعودة إلى إسالة الدم، لكن الأهم ما طغى على قمة القاهرة من لاءات عربية ضد التهجير والتوطين وتصفية القضية الفلسطينية، ولم يكن أدل على ذلك من بيانها الختامي الذي رد على كل مخططات تهجير الفلسطينيين، وإن كان هناك ثمة تحديات كبيرة، ستواجهها لاءات القمة، لعل أخطرها الموقف الإسرائيلي الأمريكي بشأن مستقبل قطاع غزة.
ومع انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، لا يبدي نتنياهو أي رغبة في ولوج الطور الثاني من المفاوضات، بقدر اهتمامه بالعودة إلى القتال في قطاع غزة، وربما إشعال جبهة الضفة الغربية إلى ما هو أبعد من جنين وطولكرم ونابلس، ضمن مفهوم "اليوم التالي" بالنسبة لائتلافه الحاكم في كيان الاحتلال.
ووفق مراقبين، فوعيد استئناف الحرب في قطاع غزة، موجه للقمة العربية أكثر منه لحركة حماس، ضمن المخطط الإسرائيلي وقوامه "تغيير وجه الشرق الأوسط" وإعادة صياغة خريطة المنطقة، وبذلك تسعى دولة الكيان لإفشال قمة القاهرة، على غرار قمة بيروت 2002، التي انبثقت عنها مبادرة السلام العربية استناداً لحل الدولتين.
يعلّق أستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس عبد المجيد سويلم موضحاً أن المرحلة الحالية لم تعد تحتمل الحالة الضبابية التي تفصل بين التفاؤل والتشاؤم، فالقمة العربية رفضت بشكل قاطع فكرة تهجير الشعب الفلسطيني، أو حتى أن تتم عملية إعادة إعمار غزة بإخراج أهلها وفق قاعدة "الإعمار دون تهجير" منوهاً إلى أن الموقف العربي كان تبلور حتى قبل قمة القاهرة، وقبل أن يطلق ترامب العنان لأطماعه بـ"ريفييرا غزة".
بينما يرى الكاتب والمحلل السياسي طلال عوكل إن دولة الاحتلال استبقت القمة بقرار إغلاق المعابر في غزة ومنع إدخال المساعدات الإغاثية، وأطقلت العنان لجيشها في الضفة الغربية، كرد أولى، ربما أرادت من خلاله تذكير العرب باجتياحها قبل قمة بيروت 2002، مشدداً: "تريد إسرائيل من وراء ذلك، إيصال رسالة رفض وغضب من قرارات القمة الرافضة للتهجير، دون ادّخار رد الفعل على الأرض، بتجويع غزة، وتوسيع رقعة العدوان في الضفة".
وجلي أن في رغبة وتهديد تحالف نتنياهو ترامب، ما قد يلهب الأوضاع في قطاع غزة من جديد، خصوصاً وأن الأمر يتعلق بمشروع التهجير، الذي يرفضه الفلسطينيون جملة وتفصيلاً، وللأسباب نفسها، جاءت لاءات القاهرة الثلاث.
وفي إطلالة على المشهد الفلسطيني، فعودة الحرب في قطاع غزة، تعني قتل الآلاف من الفلسطينيين، وتعميق الكارثة الإنسانية التي يئن القطاع تحت وطأتها منذ 17 شهراً، وخلف سحب الدخان وأعمدة النار التي لم تخمد بعد، تسير الأطراف المعنية على حبل مشدود، وقد تضطرها التداعيات المحتملة الى مراجعة سياسية تقتضيها الآفاق المحتملة إذ ائتلاف نتنياهو لا يرى سوى القتال حلاً وحيداً للقضاء على حركة حماس وتحرير المختطفين.