في قلب الذخيرة، وعلى مشارف جنوبها الهادئ، يشمخ متحفٌ خاص يعكس شغف صاحبه وارتباطه العميق بعبق الماضي. هناك، في مجلس متحف عبدالله بن لحدان الحسن المهندي، استُقبلنا بترحاب يليق بأهل الكرم، حيث فتح لنا بولحدان أبواب ذاكرته قبل أبواب مجلسه، وأخذنا في جولة داخل عالم من التاريخ المحفوظ بعناية.
المتحف، ببنائه العتيق الذي شُيّد من حجارة استخرجها من أرضه الصخرية، يروي قصة شغف استمر لسنوات، وضع خلالها المهندي من جهده وماله لجمع المقتنيات التراثية، أغلبها مما بقي من مدينة الخور قبل أن تندثر معالمها، وبعضها اقتناه بماله أو وصله كإهداء من محبي التراث، فكان يرى أن المتحف هو الحضن الأمثل لحفظها وصونها.
جريدة الشرق، إذ كانت في قلب الحدث، حطّت رحالها في مجلس المتحف لإجراء حوار خاص عن مجالس أهل قطر في رمضان. فتح لنا بولحدان مجلسه العامر، وكان لنا هذا اللقاء الثري عن روح رمضان في الذخيرة وذكريات العيد.


   - أجواء رمضان لوّل
يقول عبدالله بن لحدان الحسن المهندي: «تختلف أجواء رمضان في الذخيرة عن غيرها من المدن، فهي وإن كانت بسيطة، إلا أنها تنبض بروح التكاتف والتراث. ولرمضان في الذخيرة طقوس خاصة وعادات توارثها الناس جيلًا بعد جيل، بعضها لا زال يُمارس، وبعضها سمعناه من الكبار الذين حفظوا تفاصيل الزمن الجميل».






   - الاستعداد لشهر رمضان
ومن عادات أهالي الذخيرة قبل حلول الشهر الكريم، الاستعداد المبكر وتجهيز كل ما يلزم لاستقبال رمضان. ومن أبرز تلك العادات القديمة، ما يُعرف بـ «النافلة»، وهي هدية رمزية تُوزع منتصف شهر شعبان داخل الفرجان الشعبية.يضيف المهندي: «تُقدم النافلة تعبيرًا عن الفرح بقرب رمضان، وتُقدَّم غالبًا من الحلويات الشعبية، مثل الزلابيا، وتُخصَّص غالبًا للأطفال الذين يقبلون عليها بشغف». «كان الأهالي في السابق يتوجهون إلى سوق واقف في الدوحة لشراء التموين الخاص بالشهر الفضيل، ويُطلقون على دكاكين المواد الغذائية اسم «الحفيز»، حيث يبتاعون منها احتياجاتهم الأساسية تحضيرًا لرمضان».


   - دقّ الحب وتحضير الهريس
ويتابع المهندي: «من الطقوس الرمضانية الجميلة التي سمعنا عنها من كبار السن، «دق الحب» لتحضير الهريس. كانت تتم هذه العملية داخل المنازل الكبيرة، حيث تجتمع نساء الحي كمجموعة متعاونة، ويقمن بدق حب الهريس باستخدام المنحاز، أو طحنه بالرحى، وسط أجواء من الأهازيج الشعبية. وكانت بعض الفرق الشعبية تتواجد خلال هذه الجلسات لتشجيع النساء. وقد حصلت على عدد من هذه المناحيز من مدينة الخور، بعضها كان مهملاً للأسف».





   - تحضير خبز الرقاق للثريد
ويسترسل: «كانت السيدات في المنازل يقمن بتحضير خبز الرقاق، أحد المكونات الأساسية لطبق الثريد، الوجبة الشعبية الرئيسية على مائدة الإفطار. يُعدّ العجين، ثم يُخبز على التاوة بعد إشعال الحطب أو كرب النخيل. ويُخزن الرقاق ليُستخدم لاحقًا مع مرق اللحم أو الدجاج».


    - توزيع اللحم المدعوم
وقال: «من المشاهد الرمضانية التي لا تُنسى، توزيع اللحم المدعوم من الحكومة. كان القصاب يحضر بسيارته يوميًا بعد صلاة التراويح إلى الساحة المخصصة، ويبدأ ببيع اللحم للأهالي بأسعار مدعومة، في مشهد يجمع بين البساطة والتنظيم».






    - «الجسام» وروح التكافل
قال عبدالله بن لحدان الحسن المهندي إن أجواء الذخيرة في فترة ما بعد العصر خلال شهر رمضان، وتحديدًا وقت «الإمسيان»، تشهد حركة غير طبيعية بين البيوت، حيث يبدأ الأهالي في ممارسة عادة «الجسام»، وهي تبادل الأطباق بين الجيران والأقارب كلٌ حسب قدرته، واصفًا هذه العادة بأنها «لفتة جميلة ومحببة تُجسد روح المحبة والتكافل». وأضاف: «كنتُ أحد الأطفال الذين يشاركون في توزيع الأطباق، وكنت أشعر بسعادة كبيرة عند أداء هذه المهمة».
أشار المهندي إلى عادة الفطور الجماعي التي كانت تُمارس في مجالس الذخيرة، حيث يجتمع الجيران على مائدة إفطار واحدة، كلٌ يُحضر فطوره من منزله، ويتم تناول الطعام كمجموعة في أجواء تسودها الألفة والمودة. وتابع: «حتى الأطفال وعابرو السبيل كانوا يحضرون هذه المجالس، ويشاركون في الإفطار، مما يعزز روح التواصل والتراحم بين الجميع». وأوضح أن يوم الجمعة تحديدًا كان يُخصص في كل بيت لإعداد وجبة بحرية من السمك، سواء «محمر البرانيوش»، أو العيش الأبيض مع مرقة السمك، أو المجبوس.


    - ختمات قرآنية في المجالس والمساجد
وبيّن المهندي أن من العادات الرمضانية التي اشتهرت بها الذخيرة أيضًا، إقامة ختمات القرآن الكريم في المجالس بعد صلاة العصر، حيث يجتمع الأهالي لقراءة القرآن، وتُقام أيضًا الختمات في المساجد، ويشارك فيها الصغار والكبار، وحتى النساء والفتيات في البيوت. وأضاف: «في ليلة 27 من رمضان، يُدعى الناس لحضور مجلس خاص يُختم فيه القرآن، ويتلو أحدهم دعاء الختمة والدعاء للأموات، ثم يتناول الحضور طعامًا خفيفًا، ويُطيّبون برائحة العود قبل المغادرة».






   - بوعوض.. مسحر الذخيرة
وتحدث المهندي عن شخصية رمضانية بارزة عرفتها الذخيرة قديمًا، وهو المسحر سالم بن عوض الخليفي، الذي واصل مهمته حتى أوائل التسعينيات. وقال: «كنت من الذين عاصروا المسحر بوعوض، وكان يوقظ الناس للسحور بعد منتصف الليل، سيرًا على الأقدام، حاملاً طبلته على كتفه وعصاه بيده، مرددًا الأذكار والعبارات الدينية». ولفت إلى أن المسحر كان يمر على البيوت في منتصف الشهر تزامنًا مع القرنقعوه، ويتلقى النقود أو المواد الغذائية، كما يُكرم في نهاية الشهر تقديرًا لجهوده، رغم كونه لا يتقاضى أجرًا. وأضاف: «أحرص كل عام على جلب فرقة شعبية تؤدي هذا الدور في محيط المتحف لإحياء هذه المهنة التراثية التي اندثرت، ويأتينا الأطفال والناس من كل مكان لمشاهدتها».


    - القرنقعوه بعد الظهر وأكياس القماش
كما أوضح المهندي أن القرنقعوه في الذخيرة كان يبدأ بعد صلاة الظهر، مثل ما هو الحال في الخور، وذلك بسبب غياب الكهرباء قبل عام 1964، حيث يخرج الأطفال والبنات في مسيرات شعبية، يطوفون البيوت بالأهازيج، ويحمل كل منهم كيسًا قماشيًا لتلقي المكسرات والحلويات والملبس. وأشار إلى أنهم كانوا يتحدون بعضهم لمعرفة من يجمع أكبر كمية. وقال: «اليوم أواصل هذا التقليد من خلال تنظيم احتفال سنوي بالقرنقعوه في المتحف، يستمتع فيه الأطفال بالأجواء التراثية».


   - ننتظر العيد بفارغ الصبر
وعن فرحة استقبال العيد في الذخيرة قديماً قال: كنا نستعد لإستقبال عيد الفطر السعيد  قبل فترة ونذهب إلى سوق واقف مع الوالد بالدوحة، وذلك لشراء إحتياجات العيد وهذه قصة في حد ذاتها، فنشتري الثوب جاهز لانحتاج لتفصيل  والسراويل وأتذكر اسم خياط (مبارك) الذي مازال موجوداً حتى الآن ونحن سعداء، ثم ندور على المحلات لشراء الغترة والقحفية والعقال والنعال، وغيرها، وفي ليلة العيد نجهز الثياب والإحتياجات ونعلق الثوب، ونستيقظ مبكرين ونقوز بتوزيع الفطرة، ونجهز أنفسنا ونلبس أفضل الثياب ونتعطر ونتبخر برائحة العود». وتابع: «ثم نذهب لمصلى الذخيرة لأداء صلاة وخطبة العيد، وبعد الانتهاء من الصلاة تنتشر ظاهرة التكافل والتواصل بين الأهل ونمر على البيوت ونعايد عليهم ونتناول (فالة العيد) كانت قديما تتكون من الحلوى والرهش الذي يباع في سوق واقف، بالإضافة للخبيص واللقيمات ونحتسى القهوة ونشرب الشاي، ونقوم نحن الأطفال بالمرور على البيوت للحصول على العيدية».
وأكمل: «عندنا في  الذخيرة، نتناول طعام الغداء مبكرين في المجالس أو فيّ وظل البيوت أمام ساحات المسجد ، كلٍ يحضر سماطه ومعه صحن به وجبة الغداء، وكذلك تواجد اللحم ضرورة حيث يتواجد (اللقن) عليه ذبيحة مقدمة من أحد الميسورين أو صاحب المجلس، ويكون الغداء بين الساعة السادسة حتى الساعة السابعة صباحاً، هذا في الذخيرة.