في عالمٍ تتلاطم فيه الأزمات، وينهكه الألم، يبقى الأمل هو النافذة الوحيدة التي تنفذ منها الحياة، هناك في سوريا العزيزة، حيث تجمّعت المآسي واحتشدت الجراح، حلّ الأطباء السعوديون، تاركين خلفهم صروحهم الطبية وعياداتهم المترفة، حاملين على أكتافهم رسالة إنسانية لطالما نقشتها المملكة على جبين التاريخ، ولم يكن حضورهم هناك صدفة، بل استجابةً لتوجيهات كريمة من خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين -حفظهما الله-، واستشعارًا للدور الإنساني والريادي للمملكة تجاه المجتمعات المنكوبة، والتزامًا برسالتها العميقة في تخفيف معاناة الإنسان أينما كان.

كانوا هناك، لا كأطباء وحسب، بل كفرسان رحمةٍ، يحملون مشاعل الأمل في أرضٍ أنهكها التعب، لم يسألوا عن الهوية، لم يبحثوا عن مقابل، بل مدّوا أيديهم حيث يستغيث الألم، وأعادوا النور إلى أعينٍ كانت تترقب الفرج.، جاءوا ضمن برنامج "أمل" التطوعي السعودي، ليكونوا في مقدمة العطاء، مدفوعين ليس فقط بالواجب المهني، بل بإيمانٍ عميق بأن الطب رسالة، وأن الإنسانية وطن لا حدود له.

بصمة العطاء الخالدة

برنامج "أمل" ليس مجرد حملة طبية، بل كان ملحمة إنسانية متكاملة، تتشابك فيها الأيدي البيضاء لترسم مستقبلاً أكثر إشراقًا لأهل سوريا، حيث المستشفيات المنهكة بالكاد تقوى على استقبال المرضى، وحيث قوائم الانتظار تطول كأمد المعاناة، جاؤوا ليسدّوا تلك الفجوة، ويعيدوا للقطاع الصحي نبضه المفقود.

على مدى الأيام، تحولت العمليات الجراحية الدقيقة إلى مفاتيح حياة جديدة، عاد بها الأطفال للركض واللعب، واستطاع الشيوخ أن يتنفسوا بلا ألم، وانبعثت في الأمهات قدرةٌ على العطاء من جديد، بشفرة مشرطٍ ماهر، ويدٍ تفيض بالحنو، وبصيرةٍ ترى أبعد من الجرح، كانوا يعيدون تشكيل الأمل، يزرعونه حيثما مروا، ويتركون أثرًا لن يمحوه الزمن.

الخبرات في سبيل الإنسانية

رحلة الأطباء السعوديين إلى سوريا لم تكن زيارة عابرة، بل كانت استجابةً لنداء الواجب الإنساني، حيث حملوا معهم خبراتهم الواسعة، ليعالجوا ما استعصى على الشفاء، في غرف العمليات، كانت جراحات القلب المفتوح تعيد الإيقاع لحياةٍ كادت أن تتوقف، وفي العيادات المتنقلة، كان الدعم النفسي يجبر النفوس التي تصدّعت، وفي أقسام الأطفال، كان الطب يرد الضحكة إلى أفواهٍ غابت عنها البسمة طويلًا، جراح الأطفال يعيد أنامل بناء أجسادٍ صغيرة لم تكتمل بعد، وجراح التجميل يرمم ما خلّفته النيران والندوب، ويعيد الملامح إلى وجوه شاخت قبل الأوان، وفي جراحة المخ والأعصاب تخاض معارك ضد الألم، وتُستعاد الحواس إلى جسد أضنته الإصابة، وتهب جراحة النساء والولادة الحياة في أصعب الظروف، لتخرج الأمهات من بين أنياب الخطر إلى نور الأمان، أمراض الكلى، والصدرية، والتخدير، والتمريض، وطب الطوارئ، والعلاج الطبيعي، وزراعة القوقعة، وطب الأسرة… قائمة تطول، تجمع بين الطب والإنسانية، وبين المهارة والرحمة، في تلاحمٍ نادر بين العلم والعطاء.

أهدافٌ أبعد من المداواة

لا يسعى برنامج "أمل" فقط إلى إجراء العمليات أو تقديم العلاجات المؤقتة، بل كان يرسم استراتيجية طويلة الأمد، تهدف إلى إعادة بناء الحياة، وتعزيز الاستدامة، ومنح السوريين القدرة على الاعتماد على أنفسهم في المستقبل، ولهذا جاءت أهدافه مترابطة، وما فعله الأطباء السعوديون في سوريا، لم يكن سوى صفحة جديدة في سجل طويل من العطاء، تكتبه المملكة بقيادتها الرشيدة، منذ عقود.

لم يكن "أمل" البداية، ولن يكون النهاية، فمنذ أن أسندت الأعمال التطوعية إلى مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية عام 2018م، تضاعفت المشاريع الخيرية، وامتدت لتشمل 52 دولة، بأكثر من 860 مشروعًا، واستفاد منها ما يزيد على مليونَي شخص، في اليمن، كانت المملكة سندًا لمن أنهكهم الجوع والمرض، وفي فلسطين، كانت الراعي لمن تكسرت أحلامهم بين جدران المعاناة، وفي السودان، كانت طوق نجاة وسط أزماتٍ متلاحقة، وفي الصومال، كانت الأمل لأولئك الذين لا يملكون إلا الدعاء، ولم تترك المملكة يدًا ممدودةً دون أن تضع فيها خيرًا، ولم تغلق بابًا استغاث بها صاحبه إلا وفتحت له دروب النور.

تكريم مستحق.. وأثر لا يُمحى

تكريم وزير الصحة السوري للأطباء السعوديين ليس مجرد إجراء بروتوكولي، بل كان شهادةً صادقةً أن هؤلاء الأطباء كانوا فرقًا بين الموت والحياة لكثير من المرضى، كانوا حاضرين حيث الألم، وعاملين حيث الحاجة، وساكنين في قلوب كل من لامستهم أياديهم بالرحمة، وحين يعود الأطباء السعوديون إلى ديارهم، فإن أثرهم باقٍ هناك، في مستشفيات سوريا، في عيون الأطفال، في قلوب الأمهات، وفي كل نبضة حياةٍ استعادها مريض كاد يفقد الأمل، إذ لم يكن برنامج "أمل" مجرد حملة طبية، بل كان قصة حياةٍ تُعاد، وقطرة ضوءٍ في ظلام الحاجة، ورسالةً للعالم أن الإنسانية لا تعرف الحدود، وأن المملكة حيثما يكون الألم تكون هي البلسم.