في خطوة تعكس تحولات جوهرية في المشهد السياسي اللبناني، اختار رئيس الجمهورية اللبنانية، جوزيف عون، أن تكون الرياض أول وجهة خارجية له منذ انتخابه، وحملت زيارته دلالات تؤكد أنّ بيروت، ورغم الأزمات المتلاحقة، لم تخرج من فلكها العربي.

وحظي الرئيس اللبناني عند وصوله إلى الرياض باستقبال رسمي يعكس عمق العلاقة التاريخية بين البلدين، وهي علاقة شهدت منعطفات حادة في السنوات الأخيرة، لكنها ظلت، في جوهرها، قائمة على مبادئ واضحة: دعم سيادة الدولة اللبنانية، وتعزيز استقرارها، وتحصينها من التدخلات الخارجية التي أضعفت مؤسساتها.

وجاءت المباحثات بين سمو ولي العهد والرئيس اللبناني لتضع أسس مرحلة جديدة من التعاون، إذ لم يكن مجرد لقاء سياسي عابر، بل جاء ليبعث برسائل ترسم خطوط العلاقة المستقبلية بين البلدين، ومن أبرز الرسائل التي حملتها هذه الزيارة:

تأكيد الانتماء العربي للبنان

يعد اختيار الرياض كأول محطة خارجية للرئيس اللبناني تأكيد على أنّ لبنان، رغم محاولات بعض القوى السياسية جره إلى محاور إقليمية أخرى، يظل جزءاً أصيلاً من محيطه العربي، وهذا ما عكسه البيان المشترك الصادر عن الجانبين، والذي شدد على أن "علاقات لبنان العربية هي الضمانة لأمنه واستقراره".

التمسك باتفاق الطائف كمرجعية أساسية

وفي ظل الجدل المستمر داخل لبنان حول إعادة النظر في اتفاق الطائف، جاء الموقف السعودي اللبناني ليؤكد أن هذا الاتفاق لا يزال يشكل حجر الأساس في التوازنات السياسية اللبنانية، وقد كان التشديد على "التطبيق الكامل لاتفاق الطائف" رسالة واضحة بأن المملكة ترى في هذا الاتفاق الضمانة الوحيدة لمنع الانزلاق نحو فراغ دستوري أو فوضى سياسية قد تفتح الباب أمام مزيد من التدخلات الخارجية.

دعم سيادة الدولة اللبنانية وحصر السلاح

وكان من أكثر النقاط حساسية في البيان المشترك كان التأكيد على "بسط الدولة سيادتها على كامل أراضيها، وحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية"، وهذه الإشارة المباشرة تعكس موقفاً سعودياً حازماً بضرورة إنهاء ظاهرة السلاح خارج إطار المؤسسات الرسمية، وقد جاء التأكيد على "الدور الوطني للجيش اللبناني وأهمية دعمه" ليعكس رؤية المملكة بأن الأمن والاستقرار في لبنان لا يمكن أن يتحققا إلا عبر تقوية الجيش كالمؤسسة الوحيدة المخولة بحماية السيادة اللبنانية.

إعادة فتح الأبواب الاقتصادية

ولم تقتصر الزيارة على الملفات السياسية، بل تناولت أيضاً الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في لبنان، حيث اتفق الجانبان على "البدء بدراسة المعوقات التي تواجه استئناف التصدير اللبناني إلى المملكة"، وهو تطور مهم بالنظر إلى الضرر الذي تسببت فيه عمليات تهريب مخدرات داخل الشحنات التجارية على الصادرات اللبنانية، كما بحث الطرفان إمكانية السماح للمواطنين السعوديين بالسفر إلى لبنان، وهو قرار يمكن أن يشكل دفعة مهمة لقطاع السياحة اللبناني، الذي تضرر بشكل كبير جراء الأزمات السياسية والأمنية المتكررة.

الالتزام بالإصلاحات المطلوبة دولياً

في ظل الضغوط الدولية المتزايدة على لبنان لتنفيذ إصلاحات جذرية مقابل أي دعم مالي؛ شدد البيان المشترك على "ضرورة تعافي الاقتصاد اللبناني وتجاوزه لأزمته الحالية، والبدء في الإصلاحات المطلوبة دولياً وفق مبادئ الشفافية وتطبيق القوانين الملزمة"، وهذا الموقف يعكس توجهات السعودية التي تضع شرط الإصلاح كمدخل لأي مساعدة مستقبلية للبنان، وهو شرط يتناغم مع مطالب المجتمع الدولي، وخاصة صندوق النقد الدولي، الذي يطالب الحكومة اللبنانية بتنفيذ إصلاحات هيكلية لضمان استدامة أي دعم خارجي.

رسائل واضحة

وأخيراً يمكن اعتبار زيارة الرئيس اللبناني إلى الرياض مؤشراً على مرحلة جديدة في العلاقات الثنائية، لكنها تبقى مرحلة مشروطة بخطوات ملموسة على الأرض، فالمملكة قدمت رسائل دعم واضحة، لكنها في الوقت نفسه وضعت إطاراً لمطالبها، وفي مقدمتها عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي داخل البيت العربي، وضبط سلاح الميليشيات، وتنفيذ إصلاحات اقتصادية حقيقية.