من الشخصيات التي عرفتها وارتحت إليها وأحببتها، رأيت فيه الوقار والسكينة والسمت الحسن، وطيب المعشر ودماثة الخلق وبشاشة الوجه وطلاقة المحيا وحسن الكلم، شاهدته أول مرة عند الأديب المؤرخ القاضي حمد بن إبراهيم الحقيل -رحمه الله-، وهو ابن عمه، فكان هذا الانطباع الذي ذكرته عندما تكررت الجلسات معه، زرته أكثر من مرة في منزله بالرياض، وتحدثت معه بالهاتف، ورأيته عند أخيه الأديب الكاتب بدر الحقيل، كان من ذوي الوجاهة الاجتماعية واتصف بالحكمة والرزانة والحلم، وكان متديناً خيراً، ظاهره الصلاح والخير، كل الذين عرفوه كانوا في المجمعة من التلاميذ أو الذين زاملوه في رئاسة القضاء ثم تحولها إلى وزارة العدل أثنوا عليه عموماً من حيث الخلق، فهو شخصية محبوبة لدى الجميع وإيجابية، ولا يمكن أن تسمع كلمة نابية أو تخدش الحياء أو تجرح منه، جمع بين العلم والتربية والإدارة والثقافة العامة، إنه الشيخ التربوي والإداري والمُعلم عثمان بن حمد الحقيل -رحمه الله-، أحد أعلام وشخصيات مدينة المجمعة الذين كان لهم تأثير علمي وتربوي فيها.

عثمان الحقيل من مواليد المجمعة عام 1343هـ، تعلم في كتابها عند المُعلم المشهور أحمد الصانع -رحمه الله-، ثم لما افتتحت المدرسة السعودية 1356هـ أصبح فيها تلميذاً ونال شهادتها.

كانت الدروس التقليدية القديمة في المساجد، وكان درس الشيخ عبدالله العنقري هو أشهر مدرسة في سدير منذ أن تولى القضاء 1329هـ بالمجمعة، وأصبح العنقري يدرس علوم الشريعة، كان أعمى لكنه حاد الذكاء، وشخصيتنا رغب في طلب العلم والتوسع في المعارف، فكان أحد تلاميذ العنقري ودرس عليه وتعلم منه الفقه والتوحيد والعقيدة، درس كذلك على العلامة عبدالله بن حميد عندما تعيّن قاضياً لسدير، وكانت مدة قضائية قصيرة جداً، لكن الحقيل درس عليه وأفاد منه، ثم درس على جميع القضاة بعد ابن حميد مثل الشيخ سليمان بن حمدان، الذي قرأ عليه كتاب (مفتاح دار السعادة) لابن القيم كما أخبرني شخصيتنا، ودرس على سليمان بن عبيد، وعلى محمد المطوع، وعلى سعود بن رشود وعلى عبدالعزيز بن صالح وعبدالمحسن الخيال.

مدرسة سعودية

وتعلم عثمان الحقيل -رحمه الله- في المدرسة السعودية، ثم صار مدرساً فيها، ثم مساعداً لمدير المدرسة، ثم مديراً لها، ويتذكر هذه المرحلة عندما تعيّن معلماً بهذه المدرسة قائلاً: طلب مني مدير المدرسة -آنذاك- أن أعمل وكالة -نيابة- عن عمل أحد المدرسين الذي تغيب عن العمل بعد بدء الدراسة بمدة قصيرة، على أن يتم تعييني مدرساً مستقبلاً، فوافقت على طلبه وأبرق إلى مديرية المعارف العامة بتلك، وجاءت الموافقة على هذا الطلب، فباشرت في المدرسة السعودية في عام 1365هـ، وكنت أتقاضى مقابل ذلك 45 ريالاً -نصف راتب مدرس- وبعد مرور سنة تم تعييني مُعلماً فيها.

معهد علمي

وافتتح المعهد العلمي بالمجمعة عام 1374هـ، وهو حدث كبير في المنطقة، وكانت تجربة فريدة من نوعها، حققت الكثير من الأهداف في المنطقة ولقد تعيّن عثمان الحقيل -رحمه الله- في هذا الصرح العلمي الكبير مديراً، ونجح في هذه الإدارة، يتحدث قائلاً: كانت تجربة المعهد هي الأولى من نوعها وهي ليست تجربة يسيرة، كما يتصور البعض، إذ إن إيجاد بيئة علمية لتعلم العلوم الدينية واللغة العربية بأسلوب علمي منظم تجربة جديدة بالنسبة لإدارة المعهد وللعاملين والطلاب، إلاّ أننا اقتفينا الطريق الصحيح مستخدمين جميع الوسائل التعليمية والإمكانات المتوافرة حتى صار المعهد نموذجاً يحتذى به في تعلم العلوم الشرعية واللغة العربية، وكان يوجد به هيئة تدريس متمكنة لديهم خبرات تربوية طويلة وتأهيل علمي قوي.

أباً ومربياً

وذكر محمد سليمان الجماز -كان تلميذاً في هذا المعهد تحت رئاسة شخصيتناً- أنه كان له الشرف الكبير بالتتلمذ على يد الحقيل، فهو مرب فاضل، وكنت أحد طلبته في المعهد العلمي بالمجمعة، كان أباً ومربياً لطلبة هذا المعهد، فهو يتصف بصفات حميدة خلقاً وأدباً وعلماً، وكان يرأس هذا المعهد لسنوات كثيرة، كان فيها موجهاً ورائداً ومطوراً لهذا المعهد، يحرص دائماً على كل ما من شأنه استفادة الطلاب من منهل هذا الصرح، من خلال متابعته للطلاب والأساتذة، وكان يحرص على البرامج الأخرى، ويرعى النشاط الثقافي ويشجعه، وكانت هناك ندوات وحفلات في المعهد، كان لها الأثر الكبير في توسيع مدارك الطلاب وثقافتهم، لقد أمضيت أفضل سنواتي الدراسية في هذا المعهد، لما كان يتصف به أستاذنا الكبير من تشجيع الطلاب ومساعدتهم.

مديراً مقتدراً

وتحدث الكثير من تلامذة عثمان الحقيل -رحمه الله- ومنهم د. محمد الرشيد قائلاً: كان عثمان الحقيل مدير المعهد العلمي في المجمعة -آنذاك- إلى حين تخرجي فيه مديراً مقتدراً، حليماً تربوياً عصرياً، استطاع أن يستقطب أفضل المعلمين والمشايخ للعمل معه في هذا المعهد، ولثقة أهل مدينتي به فقد صادف أن افتتح المعهد العلمي والمدرسة المتوسطة في عام واحد في بلدتنا المجمعة، وكثير منا لا يعرف الفرق بين المعهد العلمي والمدرسة المتوسطة؛ ذلك ما دعا والدي إلى أن يقول: "يا ولدي أنا لا أعرف الفرق بين المعهد العلمي والمدرسة المتوسطة، لكني أريدك بعد إنهائك للمرحلة الابتدائية أن تلتحق في معهد يديره عثمان الحقيل؛ لأني أعرف فضله وتميزه"، وكان له ما أراد، وكان لي شرف التخرج من هذا المعهد برعاية هذا الشيخ الجليل، لقد كان دؤوباً، ومديراً ناجحاً وخطيباً بليغاً، حتى إنه لذلك انتقل لسمعته الطيبة ليصبح مديراً لرئاسة القضاء، وهي مهمة لا يصل إليها ولا يُختار لها إلاّ من تثق قيادتنا في حسن سيرته، وعالي علمه، بارك الله له، وأجزل له المثوبة عما علمنا، وأرشدنا، وهو قدوة طيبة لنا، نذكره بالخير في مجالسنا، فهو نموذج الإدارة المميز حين نتذكر مدارسنا.

رقي تعامل

وفي عام 1380هـ انتقل عثمان الحقيل -رحمه الله- إلى الرياض، حيث عُيّن برئاسة القضاء، مساعداً للمدير العام، ثم أصبح مديراً عاماً لرئاسة القضاء، ومنذ ذلك التاريخ وهو في رئاسة القضاء التي تحولت إلى وزارة العدل 1390هـ، وكان أول وزير لها الشيخ محمد بن علي الحركان، وعندما أصبحت وزارة كان شخصيتنا مديراً لمكتب الوزير، وبقي في هذه الوظيفة مع تعاقب الوزراء، وتحدث عمر العمر -عمل مع عثمان الحقيل بوزارة العدل- قائلاً: لقد عملت مع الحقيل مدة تزيد على عشرة أعوام إبان عمله مديراً عاماً لمكتب وزير العدل، فكان محل الإعجاب والتقدير، ومما أتذكره من سيرته العطرة حسن استقباله لأصحاب الحاجات على اختلاف مستوياتهم وإنزاله الناس منازلهم، ورقي تعامله وتفاعله معهم، فمثلاً إذا ما أتى أحد المشتكين من أصحاب القضايا منفعلاً، فإنه يعمل على تهدئته برحابة صدر، ويستمع إلى شكواه بأذن صاغية، ثم يناقشه مناقشة الخبير، ويفهمه بما يراه مناسباً لمعالجة موضوعه، فيرى بعضهم وقد اقتنع وعدل عن شكواه، ومما أتذكره أيضاً في أثناء عملي بشعبة المستشارين بالمكتب أنه كان مرجعاً ومستشاراً أميناً لكثير من أعمالنا، لما لديه من الخبرة الطويلة في مرفق القضاء وما جمع الله له من العلم الشرعي والمعرفة بالأنظمة والتعليمات المتبعة، إلى جانب أنه ذو ذوق أدبي رفيع، ومعرفة دقيقة بقواعد اللغة، وقدرة فائقة في التحرير، فهو واسع الثقافة كثير الاطلاع، وقارئ نهم لا يزال يصرف الكثير من وقته مع الكتاب، وهو الذي أمضى عمر شبابه الأول في مزاولة التعليم بالمجمعة في بيئة علمية نشطة مع صحبة مميزة من أهل العلم والفضل، ثم أمضى زمناً ثرياً بالإنجازات في إدارته لرئاسة القضاء، إن ما يتحلى به فضيلته من الصفات الحميدة والخصال الكريمة وحب عمل الخير جعله يتملك قلوب عارفيه وينال عندهم المكانة العالية.

عشق القراءة

وزرت عثمان الحقيل -رحمه الله- في منزله، وشاهدت مكتبته الخاصة، وكانت في ملحق قريب من الباب الرئيسي، كانت منذ بواكير شبابه، يعشق القراءة، فهو قارئ جيد وتعلق بها، وكانت سلوته وسعادته وأنسه ولذته طيلة حياته، فالكتاب لا يفارق إلاّ عند النوم حينما يكون في منزله، وكان يشتري الكتب في الداخل والخارج، ويحرص على زيارة المكتبات التجارية ويتصل بهم ويسأل عن الجديد المعروض، وإذا كان ثمة معارض كتب زارها، وأذكر أني رأيته في معرض الكتاب المقام بجامعة الملك سعود، يتفقد عناوين الكتب وكان معه سائقه يعاونه في حمل هذه الكتب التي اشتراها، نعم كان "شخصيتنا" مغرماً كل الغرام بالكتاب، وهو الذي زود مكتبة معهد المجمعة العلمي -حينما كان مديراً للمعهد- بالمصادر والمراجع من مختلف علوم الشريعة واللغة والأدب والمعارف العامة، وكان إذا سافر إلى خارج المملكة إلى مصر أو العراق أو سوريا ولبنان جاء ومعه أحمال من الكتب، وعندما سألته عن المكتبة قال: هذه ثاني مكتبة أقتنيها؛ لأن الأولى أهداها لمكتبة الملك فهد.

ثلاث مكتبات

وحدثني علي بلخير -كان موظفاً بمكتبة الملك فهد سابقاً- قائلاً: لما أراد عثمان الحقيل أن يهدي مكتبته لمكتبة الملك فهد قلت له إن بعض طلبة العلم يريد أن يختار من مكتبتكم بعض الكتب ليزود بها مكتبته الخاصة، فوافق وجاء هذا وانتقى ما يحتاجه من الكتب من مكتبة الشيخ عثمان.

وقال خالد الحقيل -نجل عثمان الحقيل-: لقد كان والدي منذ أن عقلت ما حولي وهو يقرأ، فكان بعد صلاة العصر حينما كان موظفاً يجلس في مكتبته الخاصة يقرأ ما يقارب الأربع ساعات تقريباً، حتى عندما يأوي إلى غرفة نومه كان بجانبه عدة كتب، فقبل أن ينام يقرأ منها، ثم إذا غلبه النوم أوى إلى فراشه وهكذا كان دأبه يومياً، كنا في الطائف إبان انتداب وزارة العدل، وإذا أردنا السفر إلى الرياض وانتهى الانتداب كان -رحمه الله- يشتري عدداً ضخماً من الكتب من مكتبات الطائف ومكة، كان دائم الاتصال بإحدى المكتبات شبه أسبوعياً يسألهم عن المعروض من جديد الكتب، فإذا أخبروه هبَّ مسرعاً ليشاهده، وإذا راق له وأعجبه بعد تصفحه اشترى ما يروق له، كنّا قبل ذلك نسكن في حي الملز يذهب إلى مكتبات البطحاء، مثل مكتبة الرياض الحديثة ويشتري منها ما تيسر، وفي مصر كذلك حينما يقام معرض الكتاب الدولي، يسافر ويزور المعرض ويتزود من ما يحلو له عن طريق الشراء، وقد كون ثلاث مكتبات، وكلها أهديت، فالأولى إلى مكتبة الملك فهد، والثانية نقلت إلى السودان، والثالثة أوصى أن تكون في المجمعة، وفعلاً قمت بإهدائها إلى المركز الإعلامي بالمجمعة.

سيرة عطرة

وتحدث بندر عثمان الصالح عن عثمان الحقيل قائلاً: إن الكتابة عن سيرة هذا الرجل سوف تنهككم كثيراً لعدة أسباب؛ أذكر منها فضله على الكثير من أبناء مجتمعه، دماثة خلقه التي أصبحت صفة ملازمة عند الجميع، علاقته الواسعة من خلال تأدية الواجب سواء كان فرحاً أو ترحاً، قدرته على تحمل الصعاب في الترحال لتأدية الواجبات، سيرته العطرة، رصيده الطيب من أعمال الخير التي لا يعرفها حتى المقربون منه، كذلك حكمته في حل كثير من الأمور، رجاحة عقله في كثير من الرؤى التي تتطلب التفكير وإيجاد الحلول الشرعية المناسبة، ثقة المسؤولين في الدولة في شخصه وتكليفه من جهات خاصة ومهمة.

وذكر الأديب بدر بن حمد الحقيل -أخ عثمان الحقيل- جانباً مهماً في حياة شخصيتنا، وهو الجانب الأخلاقي وحبه لمساعدة الناس، يقول: لا يفتأ أخي عثمان في مد يد العون والمساعدة بالشفاعة لمن يرغب في توظيف أو مساعدة لدى الأجهزة المتخصصة.

نفس سخية

لقد كان عثمان الحقيل -رحمه الله- لا يبخل بجاهه عند المسؤولين في أي قطاع حكومي، أو عند المحسنين من رجال الأعمال والمال إذا لجأ إليه أحدهم من ذوي الحاجة والعوز، وهذا شيء شاهدته أمامي وعرفته، وليس يقال لي، كان يعرف بعض الموظفين عنده في وزارة العدل بأنه لا تكفيهم رواتبهم، فيمنحهم بعض المال، كانت نفسه سخية ويده معطاء، كانت له صدقات سرية جداً وأعمال خيرية لا يعلم بها أحد مطلقاً إلاّ القليل، وقد شيّد مساجد داخل المملكة وخارجها لله عز وجل، ودعم الكثير من الجمعيات الخيرية في الداخل، وكان لا يتحدث عن هذا الجانب مطلقاً، وهو كذلك قليل الكلام إلاّ فيما فيه فائدة، ينصت إليك بكل أدب واحترام بدون أي مقاطعة، وهذا من خلقه الرفيع، وأيّد كلامي ما ذكره الشيخ علي الركبان -عضو هيئة كبار العلماء- قائلاً: كان الشيخ عثمان باذلاً نفسه للناس، يكتب لهم عقودهم ووثائقهم، أمورهم الخاصة والعامة، فيما يحتاجون إلى كتابته من وقت عز فيه من يجيد كتابة العقود والوثائق على وجهها الشرعي الصحيح، ولم يكن يتقاضى أي مقابل فيما أعلم، مما جعله محل تقدير واحترام الجميع.

يُذكر أن هناك كتاباً صدر في حياة عثمان الحقيل -رحمه الله- بعنوان الشيخ (عثمان بن حمد الحقيل تجربة حياة)، أعده د. عبدالله الزازان، وقد استفدت منه في كتابة هذا التقرير عنه.

توفي عثمان الحقيل بتاريخ 27 /2 / 1441هـ، حيث قضى حياته في خدمة دينه ووطنه، فكان مثالاً طيباً للسمعة الطيبة، وثناء الناس عليه بالخير، رحمه الله وغفر له وأسكنه جناته.

عثمان بن حمد الحقيل -رحمه الله-
د. محمد الرشيد -رحمه الله-
بندر عثمان الصالح
بدر بن حمد الحقيل -أخ عثمان-
كان مُغرماً بقراءة الكُتب
الحقيل أحب مساعدة الناس بما يستطيع
إعداد- صلاح الزامل