تتميز كافة مدن وقرى مملكتنا بوجود بلدة تاريخية قديمة فيها، هجرت منذ عقود قليلة من الزمن وذلك بعد أن حل محلها البيوت الحديثة والأحياء الجديدة، فمع الطفرة التي عاشتها بلادنا في كافة المجالات والتقدم الذي شمل كافة مناحي الحياة وجد الناس بديلاً لبيوت الطين المتلاصقة والطرقات الضيقة عبر الفلل السكنية الواسعة المتعددة الأدوار ذات الشوارع الفسيحة والخدمات البلدية كالنظافة والإنارة والأرصفة والحدائق والميادين العامة، وساهمت عمليات نزع الملكيات لشق الطرق بين المباني الطينية في البلدات القديمة من قبل البلديات إلى سرعة انتقال السكان إلى المخططات السكنية الجديدة التي وزعتها البلديات على المواطنين مجاناً، فدبت فيها الحياة وتنامت بسرعة كبيرة، وأصبح الناس يطلقون على مكان البيوت الطينية «الديرة القديمة»، أصبح العامر منها في ذلك الوقت مسكناً للعمالة الوافدة التي استأجرتها بثمن بخس لسنين عديدة ثم هجروها هم أيضاً إلى مبانٍ أحدث، وأمام إغراءات تلك الحياة المعاصرة لم تستطع بيوت الطين المقاومة رغم محاولة ساكنيها في تلك الفترة تزويدها بمسحة من الحياة المعاصرة كالكهرباء وشبكات المياه وبعض الأجهزة كالتلفاز والثلاجة والأبواب الحديدية والنوافذ إلاّ أنها لم تستطع الصمود أمام حداثة البناء وزخرفاته، فتم هجرها فتهاوت شيئاً فشيئاً إلى أن أصبح غالبها أطلالاً تعيد كل من شاهدها إلى زمن البساطة والصفاء الذي فقدوه في خضم الحياة المعاصرة بإيقاعها السريع، أنست الجار جاره، ووجد حتى ساكني البيت الواحد الوحشة فيما بينهم بتغير أنماط الحياة والسعي الحثيث وراء العمل لتحقيق طموحاتهم، مما قضى على جل وقتهم الذي بات يتأرجح ما بين العمل والخروج من المنزل للترفيه عن النفس لمواجهة ضغوط الحياة اليومية الرتيبة، وفي عصرنا الحاضر وجدت بيوت الطين العودة والحنين من قبل ساكنيها الذين هجروها منذ عقود من الزمن، بعد أن وجدوا في الجلوس فيها بعد ترميمها صفاء الذهن وبساطة الحياة، فانتعشت البلدات التاريخية والتراثية في معظم مناطق المملكة وعادت إليها الحياة، وحولت بعض بيوتها الكبيرة إلى متاحف أثرية وتراثية تعرض فيها المقتنيات الأثرية والقطع التراثية.

مقتنيات ومطاعم

وتم تحويل عدد من البيوت الطينية إلى نزل تستقبل المواطنين والسياح من كافة بلدان العالم للسكن فيها والتمتع بما تحويه من مقتنيات تراثية، إضافةً إلى تحويل بعضها لمطاعم تقدم فيها مختلف الأكلات الشعبية، وبعضها تم تحويله إلى مقاهٍ تقدم كافة المشروبات المحلية والعالمية، وتبذل وزارة السياحة والتراث الوطني جهوداً كبيرة من أجل الحفاظ على المباني الطينية واستغلالها بما يسهم في ارتفاع حجم قطاع هذا النوع من الإيواء السياحي وتطويره، إذ تم تشجيع المواطنين على استغلال منازلهم الطينية وإعادة ترميمها، وكذلك إنشاء شركات تراثية تستغل هذا الجانب وتطوره، ودعم فكرة تحويل تلك المنازل الطينية إلى فنادق أو نزل تراثية لتصبح مقصداً سياحياً من جميع دول العالم، بعد إضفاء لمسات حضارية كتوفير سبل الراحة والسلامة، وبما يحقق أهداف رؤية المملكة 2030، الرامية إلى أن تصبح المملكة واحدة من بين أكثر خمس دول تستقبل السياح على مستوى العالم، نتيجة لتدفق السياح وما يتبعه ذلك من استثمار في هذا القطاع الحيوي المهم.

تراث عالمي

وتشتهر مملكتنا الغالية بالعديد من المباني التراثية التي تجاوزت شهرتها حدود الوطن، فأصبح العديد منها مسجلاً ضمن قائمة التراث العالمي، ومن أشهرها مدينة الدرعية التي يرجع تاريخها إلى 850 هـ، وتضم العديد من الآثار والقصور التاريخية المبنية من الطين على نمط العمارة النجدية، كما تقف عدد من القصور شامخة تحكي قصة كفاح وتأسيس وحضارة مثل حصن «المصمك»، الذي يعتبر من أهم المعالم في المملكة والرياض، وهو متحف تاريخي مصنوع من بناء سميك مرتفع وحصين كان يستخدم كمستودع للأسلحة، وقصر المربع الذي أصدر الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- قراراً بإنشائه ليكون مقراً له، ومقراً للديوان الملكي فيما بعد، والذي تقام فيه المناسبات الرسمية وإنشاء العديد من الأنظمة والقوانين، بالإضافة إلى قصر البديعة الذي يعتبر تحفة معمارية فريدة في فن العمارة والزخرفة وقد خصص ليصبح مدرسة نظامية سميت بمدرسة صقر قريش في عام 1366هـ.

قصور المؤسس

ومن المباني التراثية قصر الخرج، الذي يعتبر بوابة لمحافظة الخرج، وهو يتشكل على هيئة مربع، يغلب في تصميمه طراز العمارة العربية المزينة بوحدات زخرفية متنوعة مصنوعة من الجص، ويتكون المبنى من قصرين شرقي لأسرة الملك وغربي للزوار، وكذلك قصر الملك عبدالعزيز في الدوادمي ويقع في الجهة الغربية من محافظة الدوادمي على امتداد الحجاز، ويتكون من عدد من المباني أبرزها الجناح الملكي والمجلس الخاص بالملك، إضافةً إلى قصر الملك عبدالعزيز بالمويه الذي كان في الماضي حامية عسكرية بنيت من الحجارة البركانية السوداء، ويقع على طريق الواصل بين الرياض والطائف، وهناك قصر للملك عبدالعزيز في محافظة مرات، وقد استعرضت دارة الملك عبدالعزيز بعضاً من المعلومات التاريخية عن قصر مرات الملكي الذي بني في عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- 1350هـ، وأوضحت الدارة أن القصر يُعد أحد القصور الملكية الثلاثة الكبيرة التي تقع على الطريق بين الرياض ومكة المكرمة، وأشارت إلى أن القصر استقرت فيه مجموعة من الدوائر الحكومية لتدبير أمور أهالي المنطقة، حيث كان بمنزلة ديوان لتفقد أحوال المنطقة، مبينةً أنه جرى هدمه في التسعينات الهجرية ليتم بناء مركز لشرطة مرات مكانه، ولا يزال أهالي محافظة مرات يحدوهم الأمل الكبير في أن تبادر جهات الاختصاص وبخاصة دارة الملك عبدالعزيز، بإعادة بناء هذا القصر الأثري المهم في موقع مكانه الأول، ليظل شاهدًا حيًّا على إنجازات الملك عبدالعزيز.

بلدة أشيقر

وبدأ الاهتمام بترميم البيوت الطينية والبلدات في بلادنا منذ أكثر من عقدين من الزمن، ولاقى هذا العمل تفاعلاً كبيراً من المواطنين ودعماً من قبل هيئة وزارة السياحة، ولعل أقدم بلدة تراثية كان لها قصب السبق في هذا المجال هي بلدة أشيقر التراثية بمركز أشيقر التابع لمحافظة شقراء والذي يبعد عنها مسافة 13 كم شمالاً، وعن العاصمة الرياض 180 كم تقريباً، فقد كانت البداية عبارة عن فكرة لإنشاء دار للتراث في عام 1419هـ كما ذكر ذلك المؤلف سعود بن عبدالرحمن اليوسف، فبدأت المكاتبات ومخاطبة ملاك المنازل عام 1420هـ وما بعده، وبعد ما تم الانتهاء من تشييد الدار في حدود عام 1425هـ بدأت تستقبل الرواد في الإجازات الصيفية والمناسبات وفي الإجازة الأسبوعية، ومع مرور الوقت زاد تدفق السياح حتى باتت القرية التراثية تستقبل الوفود السياحية يومياً.

قرى تراثية

وتحوي بلادنا حالياً على العديد من القرى التراثية في كافة مناطق ومحافظات المملكة مثل: الدرعية وهي أهمها وأشهرها، وقرية رجال ألمع ، وقرية ذي عين، وحي الدرع بدومة الجندل، والقرية التراثية في محافظة تنومة، وكذلك قرية الخبراء التراثية القرية بالقصيم، والقرية التراثية بعيون الجواء، وقرية المذنب التاريخية، وقرية العقلة بالزلفي، وقرية شقراء التراثية، إضافةً إلى قرية المجمعة التراثية، وقرية القصب، وعودة سدير، وروضة سدير، والتويم، وجلاجل، وقرية الشَّعْراء التراثية، ويتم العمل حالياً على ترميم البلدة التاريخية بمحافظة مرات لتنظم الى ركب القرى التراثية، حيث سيشمل الترميم سوق المجلس التجاري والممر التاريخي الذي يربط غدير كميت بالسوق التجاري وبئر الصحابي خالد بن الوليد -الوليدي- والساحة التراثية ومتحف بيت الضويحي للتراث، بتبرع سخي من رجل الأعمال الشيخ سليمان بن محمد السليم وإشراف جمعية التنمية الاجتماعية بالمحافظة وهيئة التراث.

إعادة بناء

وتشهد القرى التراثية في معظم المناطق مساهمة القطاع الخاص في سبيل إعادة بناء البلدات القديمة التي تحتوي على مجلس القرية ومساجدها التراثية ومنازلها الطينية البديعة، إضافةً إلى الآبار والمزارع، حيث قدّم الكثير من رجال الأعمال مبادرات عديدة من أجل إعمار هذه القرى التراثية سعياً منهم إلى الوصول بها إلى قرى جميلة متكاملة الخدمات، وقامت الجهات المعنية بمبادرة تبني فكرة إعمار تلك القرى، حيث رعى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أمير منطقة الرياض آنذاك- يوم الأحد 24 ربيع الأول 1432هـ إطلاق مبادرة «ثمين» لتنمية وتأهيل مواقع التراث العمراني في منطقة الرياض، واستقبل عدداً من مؤسسي صناديق ثمين في عدد من المحافظات بمنطقة الرياض، ودشن شعار هذه المبادرة.

تنافس وسباق

وبعد نجاح العديد من القرى التراثية في ترميم البيوت الطينية والممرات والأسواق القديمة والمزارع والآبار، فقد بات هناك تنافس وسباق محموم بين الكثير من المحافظات والمراكز في الحفاظ على البيوت الطينية من السقوط والعمل على ترميمها، بل وتعدى الأمر إلى قيام الكثيرين بترميم منازلهم وتحويلها إلى متاحف خاصة تحوي الكثير من القطع الأثرية النادرة وسعوا إلى تسجيلها رسمياً، وباتت تلك البيوت بما تحويه من تحف أثرية معالم في كل بلدة تقع فيها، مقصد الكثيرين من السياح سواءً من الداخل أو الخارج الباحثين عن التراث والآثار، وعادت الحياة إلى بيوت الطين بعد أن كانت مهملة وخارج الحسبان وعادت الكثير من القرى إلى حياتها الطبيعية، كما كانت عليه سابقاً بمساجدها القديمة وأسواقها ومزارعها وطرقاتها الضيقة الجميلة التي شهدت حياة جيل الأمس الجميلة، ووجد فيها الكثير من الناس خاصةً من كبار السن المتعة والسعادة وهم يتجولون فيها مستذكرين حياتهم البسيطة.

بعض بيوت الطين لم تجد الاهتمام فاندثرت مع الوقت
أحد المنازل القديمة الذي تم تحديثه وتطويره
مجالس بيوت الطين أعادت ذكريات أجمل أيام العمر
بلدة أشيقر التراثية نالت قصب السبق في الترميم
اهتمام ومتابعة لأعمال الترميم للبيوت القديمة
إعداد: حمود الضويحي