من أهم النعم التي منّ الله بها على عباده بعد الإيمان به عز وجل هي نعمة الأمن، ونعم الله على عباده كثيرة لا تعد ولا تحصى، لكن يأتي الأمن في مقدمة تلك النعم، فالأمن عكس الخوف، وهو طمأنينة القلب وسكينته وراحته، والحياة لا تزدهر وتتطور من دون الأمن، فكيف يحلو العيش إذا انعدم الأمن، ومن أجل ذلك كان همّ المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز –رحمه الله– هو بسط الأمن منذ أن خطى خطوات التأسيس، فقبل دخول المؤسس إلى الحجاز وقبل توحيد الجزيرة العربية على يديه تحت راية التوحيد كان لجهاز الشرطة وجود في مكة المكرمة وجدة والمدينة المنورة فقط، وكان هذا الجهاز أداة لتنفيذ أوامر الحكام في هذه المدن، ولم يكن له نظام ارتباط بينها وبين غيرها من إدارات الشرطة في المدن الأخرى، وكان اختصاص كل شرطة لا يتجاوز أطراف مدينتها، أما القرى والبوادي فلا تتدخل فيها إلاّ إذا قام الحكام بجلب المتنازعين إلى المدينة وإحالتهم إلى الشرطة للتحقيق وسجن من يستوجب الأمر سجنه.

مديرية عامة

وبعد دخول الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الحجاز عام 1343هـ بادر إلى تأسيس مديرية عامة للشرطة في مكة المكرمة تُربط بنائبه في الحجاز تهتم بتوطيد الأمن في ربوع البلاد المقدسة وتأمين أمن الحجاج، كما أنشأ إدارات للشرطة في مكة وجدة والمدينة كلفت بأعمال الأمن بما في ذلك أعمال الجوازات ومراقبة الأجانب، وفي عام 1346هـ صدر الأمر الملكي بتوحيد جميع إدارات الشرطة في المملكة تحت رئاسة واحدة في مكة المكرمة واستناداً إلى هذا الأمر الملكي أصدر نائب الملك في الحجاز قراراً بوضع مشروع نظام لإدارات الشرطة وتحديد واجباتها ومسؤولياتها، وتطورت المديرية العامة للشرطة وتعددت فروعها وامتدت مسؤولياتها إلى أنحاء المملكة كافة، فأنشئت إدارات للشرطة في الطائف والرياض والأحساء وأبها ونجران وجيزان، وشملت أعمال الشرطة القيام بأعمال المطافئ ورعاية اليتامى وإيواء العجزة وتنظيم المرور، وكذلك أعمال الجوازات وإقامة الوافدين ومراقبة الأجانب.

أمن عام

وفي عام 1350هـ ألغي نظام الوكلاء وأنشأت لأول مرة في البلاد وزارة الداخلية، وتضمن المرسوم الصادر بهذا الشأن إلحاق الأمن العام بوزارة الداخلية، وفي عام 1369هـ صدر الأمر الملكي القاضي بالتصديق على نظام مديرية الأمن العام المشتمل على تشكيل مديرية الأمن العام وأقسامها والواجبات المنوطة بها وقواعد العمل بها وقواعد الإجراءات الجنائية الواجب اتباعها، وكذلك اشتمل على الضمانات التي يجب توفيرها لمن يشمله التحقيق من مبلغين وشهود أو متهمين لتأخذ العدالة مجراها السليم، ويعتبر صدور هذا النظام مرحلة مهمة في تطوير الأمن العام في المملكة ومواده مثالية؛ لأنها مستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، وقد كان ذلك النظام عند صدوره يناسب المرحلة التي وصلت إليها المملكة من حيث استتباب الأمن والاستقرار، واستمرت بلادنا في حفظ الأمن واستتبابه وقطع الطريق على المجرمين والعابثين بالأمن وجرى معاقبة كل من تجاوز القوانين، وانتشرت المحاكم وفروع هيئات التحقيق والادعاء العام للنظر في كل ما يردها من أعمال تخل بالأمن.

نظام متين

وفي عالم اليوم ظهرت جرائم جديدة لم يعتد الناس عليها، وذلك بعد أن انتشرت التقنية والثورة التكنولوجية وانتشار تكنولوجيا المعلومات، حيث ظهر ما يعرف بالجرائم الإلكترونية مما جعل الكثيرين من المتصفحين للإنترنت عرضة للوقوع كضحايا للجرائم الإلكترونية، فانتشار التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة يعد سلاحاً ذا حدين، إذ يمكن استخدامها من أجل تسهيل الاتصالات حول العالم، فهي من أهم وسائل انتقالات الثقافات المختلفة حول العالم من أجل تقريب المسافات بين الدول والحضارات المختلفة، ولكن يمكن أيضاً استخدامها في التسبب بأضرار جسيمة لأشخاص بعينهم أو مؤسسات كاملة من أجل خدمة أهداف سياسية أو مادية شخصية، لذا كان من الضرورة بمكان التصدي لمثل هذه الجرائم المعلوماتية، مع التسارع الكبير في عمليات التحول الرقمي الذي ارتفعت فيه معدلات الهجمات الإلكترونية ومخاطر اختراق البيانات، مما جعل المملكة أكثر حرصًا في توفير بيئة آمنة للبيانات والعمليات الرقمية من خلال نظام أمني متين.

هيئة وطنية

وأقر مجلس الوزراء في عام 1436هـ نظام مكافحة الجرائم الإلكترونية والمعلوماتية، والذي يهدف إلى الحد من انتشار جرائم المعلوماتية عبر الإنترنت، ومعاقبة المجرمين لحماية الأفراد والمؤسسات، وفرض النظام المقر من مجلس الوزراء، عقوبة بالسجن لمدة لا تزيد على سنة، وغرامة مالية لا تزيد على 500 ألف ريال سعودي، وذلك على كل شخص يرتكب أياً من الجرائم المنصوص عليها في النظام، كما صدر أمر ملكي بتأسيس الهيئة الوطنية للأمن السيبراني في عام 2017م التي شرعت في وضع الاستراتيجيات وتنفيذها والإشراف عليها، وهي هيئة حكومية مختصة في الأمن السيبراني، مهتمة في شؤونه، وفي زيادة عدد الكوادر الوطنية المؤهلة لتشغيله، ولها شخصية مستقلة، وترتبط مباشرة بالملك سلمان -حفظه الله -، وقد حققت الهيئة العديد من الإنجازات في هذا المجال.

حماية قصوى

ويعود مصطلح الأمن السيبراني إلى كلمة «سايبر» أو بالإنجليزية «Cyber» وتعني باختصار ما له علاقة بالكمبيوتر وشبكات الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات، فهو مصطلح يشمل الكثير من الأشياء التي من الممكن أن نضعها أسفل منه ومن بينها أنظمة التحكم عن بُعد، وأجهزة الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات وغيرها من الأجهزة الحساسة، وهو العلم أو التخصص الذي يعمل على حماية شبكات الاتصال والإنترنت والشبكات المهمة في الدولة من الاختراق أو التجسس، عن طريق توفير الحماية القصوى للمعلومات والبيانات التي توجد داخل هذه الشبكات الحساسة والمهمة، وكان الظهور الأول للأمن السيبراني «Cybersecurity» عام 1972م، ففي بداية هذا العلم كان مجرد حبر على ورق، وكان مجرد فكرة من ضمن الأفكار النظرية التي ظهرت منذ بداية القرن الواحد والعشرون، ومنذ هذا الوقت انطلق هذا العلم «سيبرانيا» ليصبح محور اهتمام الكثير من الدول حول العالم، فهو علم تكنولوجيا المعلومات وأمان الحاسوب وتطبيقاته وبرامج الهواتف الذكية، وغيرها من الأشياء التي تؤثر بشكل كبير على تطور الدولة وبقائها في المقدمة، وأي ضرر في هذا الأمن السيبراني سيؤثر بالسلب عليها، وهناك تزايد مطَّرد في ربط المجتمعات بالإنترنت، ومع أنَّ الإنترنت تجعل حياتنا أسهل، إلاّ أنها قد تعرضنا لخطر الجريمة السيبرانية، إذ إنَّ مخاطر عالم الفضاء السيبراني الذي لا حدود له يمكن أن تتفاقم بتزايد انخراط أفراد وجماعات إجرامية منظمة يمكن أن تؤذينا، وتتجلَّى هذه المخاطر في أشكال مختلفة، والإجرام المعتمد على الفضاء السيبراني لن يكون ممكناً بدون الإنترنت والتكنولوجيات الرقمية، وهو يتخذ من التكنولوجيا هدفاً فعلى سبيل المثال، باستحداث فيروسات حاسوبية وتعميمها ونشرها، وشَنِّ هجمات على مرافق تكنولوجيا المعلومات الوطنية الحساسة.

أمان التواصل

والجرائم التي يتيحها الفضاء السيبراني يسهِّلها التزايد المطرد في قدراتنا التكنولوجية، مثل: الاحتيال الإلكتروني والتجارة الإلكترونية في سلع غير مشروعة، وكذلك المخدِّرات أو الأسلحة النارية، واستغلال الأطفال والتعدي عليهم جنسيًّا من خلال الإنترنت، وللجريمة السيبرانية أيضاً صلة بخصوصيات الناس، إذ إنَّ طريقة تصرُّف الشخص على الإنترنت يمكن أيضاً أن تكشف عن بيانات خصوصية وأن تسهِّل تعرُّضه لأخطار مختلفة في الفضاء السيبراني، وإلى جانب ذلك تتعلق الخصوصية بأفعال الأفراد، ولا سيما بالكيفية التي يمكن أن يؤذي بها الناس بعضهم بعضاً، فعلى سبيل المثال من خلال تداول صور شخصية دون موافقة الشخص المعني، ومع تغلغل التكنولوجيات الرقمية في كل جانب من جوانب حياتنا، تزداد أيضاً أهمية أمان التواصل عبر الإنترنت وحمايته.

إنجازات متعددة

وتأسست الهيئة الوطنية للأمن السيبراني بأمر ملكي في عام 2017م، والتي شرعت في وضع الاستراتيجيات وتنفيذها والإشراف عليها، وهي هيئة حكومية مختصة في الأمن السيبراني، مهتمة في شؤونه، وفي زيادة عدد الكوادر الوطنية المؤهلة لتشغيله، ولم يمضِ على تأسيسها سوى سنوات قليلة إلاّ أنها حققت العديد من الإنجازات ومنها في يونيو 2021م أعلن عن تحقيقها المرتبة الثانية عالمياً من بين 193 دولة، والمركز الأول على مستوى الوطن العربي والشرق الأوسط وقارة آسيا في المؤشر العالمي للأمن السيبراني، الذي تصدره وكالة الأمم المتحدة المتخصصة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات -الاتحاد الدولي للاتصالات-، محققةً بذلك قفزة بـ11 مرتبة عن العام 2018م، وبأكثر من 40 مرتبة منذ إطلاق رؤية 2030، حيث كان ترتيبها 46 عالميًا في نسخة المؤشر للعام 2017م، كما حققت المرتبة الثانية عالمياً في مؤشر الأمن السيبراني وذلك ضمن تقرير الكتاب السنوي للتنافسية العالمية لعام 2022م الصادر عن مركز التنافسية العالمي التابع للمعهد الدولي للتنمية الإدارية في سويسرا IMD، الذي يُعد واحداً من أكثر التقارير شمولية في العالم، ويهدف إلى تحليل وترتيب قدرة الدول على إيجاد بيئة داعمة ومحفزة للتنافسية والمحافظة عليها وتطويرها، وقد بينت الهيئة الوطنية للأمن السيبراني أن هذا الإنجاز يأتي ثمرة للدعم والتمكين الذي يوليه خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده -حفظهما الله- لقطاع الأمن السيبراني، ما أكسبه دفعة قوية في طريق الريادة العالمية في ظل رؤية المملكة 2030، وتجسيداً لتفوق النموذج السعودي في الأمن السيبراني عالمياً ومواصلته تحقيق القفزات النوعية في المؤشرات الرقمية الدولية، حيث يُعد نموذجاً رائداً ويحتذى به دولياً.

رجال الشرطة قديماً أدوا أدواراً مهمة في حفظ الأمن
لن يُفلت مجرمو الإنترنت من قبضة الأمن
تزايد أعداد عصابات مواقع التواصل فرض الأمن السيبراني
إعداد: حمود الضويحي