جبلت النفس الإنسانية على حُب الترويح عن النفس في ظل الإرهاق الذي يصيبها جراء العمل من أجل كسب لقمة العيش والاهتمام بالأسرة والأبناء، وكان إنسان هذه الأرض يعيش في كفاح من أجل تأمين لقمة عيشه ومن يعول منذ ما يزيد على القرن، مما قد يضطره إلى الرحيل إلى البلدان المجاورة من أجل كسب قوت يومه ومن ثم يعود بالمال ويسد به حاجته وفقره بعد سنين يقضيها من عمره من أجل هذه الغاية، وبعد أن توحدت البلاد على يد المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز -رحمه الله- عرف الناس طعم الراحة شيئاً فشيئاً، حيث ازدهرت الزراعة والصناعة بمعناها البسيط، وانتعشت التجارة، وتلا ذلك استحداث الوظائف الحكومية التي ضمنت دخلاً ثابتاً، وإجازة في نهاية الأسبوع، ومنذ ذلك الحين بدأ الناس يعرفون مسمى الإجازة خاصةً بعد استحداث المدارس وانتظام الطلاب بمراحل التعليم العام، فعرف الناس إجازة الطلاب الأسبوعية والتي يشاركهم فيها الموظفون في القطاع العام -الحكومي-، كما بات للطلاب إجازة سنوية يقضونها بصحبة العائلة، وغالباً ما تكون في ربوع الوطن، وكان في العام موسم محبب للنفوس وهو موسم اعتدال الجو وهطول الأمطار في "الوسم"، ومن ثم امتلاء الفياض بماء المطر واخضرار الروضات بالعشب والروض والورود الربيعية، مما جعل أكثر الناس تقضي وقتاً للنزهة خاصةً بعد انتشار السيارات بكثرة.
منظر الربيع
وبات العديد من العوائل تجهز طعام الغداء في المنزل ومن ثم التوجه إلى أقرب روضة أو غدير ماء ومن ثم فرش بساط على الأرض وتناول طعام الغداء والاستمتاع بمنظر الربيع الخلاب والغدران الصافية، ومن ثم العودة إلى المنزل بعد التمتع بجمال الطبيعة، وبعد فترة من الزمن بات الناس يحملون في سيارتهم أدوات الطبخ كالموقد والقدر واللحمة والصحن ومن ثم الطبخ في البر وعمل الشاي، وباتت تلك الطلعات تسمى «كشتة»، ومجموعها «كشتات»، ومع انتشار سيارات «الوانيت» ذات الصندوق وهي السائدة فقد قام هواة طلعات البر بعمل صندوق -شنطة- من حديد صغيرة في مقدمة صندوق السيارة» لوضع «عزبة» البر، مثل القدر والصحن والأباريق والفناجيل والبيالات والبهارات وكل ما يلزم للطبخ، ومن ثم يكون لهذا الصندوق الحديدي غطاء محكم ومزود بقفل حتى لا يفتحه أحد، ويعمد صاحب «الوانيت» أيضاً إلى تفصيل خزائن -توانك- من الصاج للماء تركب في صندوق السيارة على مكان الكفرات الخلفية، ويمد لكل خزان صنبور يخرج من أسفل باب الصندوق الخلفي، وتستخدم تلك الخزانات لحفظ الماء للشرب والطبخ وغسل الأواني بعد الطبخ. ومع مرور الوقت وتطور السيارات وانتشار مركبات «الجيب» أصبح الناس يتفننون في تفصيل أدراج خاصة من الألمنيوم ومن ثم من «الاستانستيل» لأدوات الطبخ ومستلزمات الرحلات، كما انتشرت محلات لوازم الرحلات في كل مكان من المدن والمحافظات والقرى وبات هناك سباق محموم بين تلك المحلات لعرض كل جديد ومبتكر في عالم لوازم الرحلات.
توازن نفسي
ويعتبر الترفيه عن النفس وسيلة لتحقيق التوازن النفسي والعقلي للإنسان، نظراً لضغوط الحياة وكثرة الأشغال وزيادة الإرهاق العصبي، حتى أصبح الناس يعيشون على إيقاع العصر وسرعة متطلباته التي لا تعرف حدوداً ولا تترك للإنسان لحظات ليتنفس بهدوء وصفاء، ومن أقرب وسائل الترفيه إلى الناس هي التوجه إلى الطبيعة للاستمتاع بمناظرها الخلابة، خاصةً عند اعتدال الجو وبدء فصل الربيع، وفي الماضي القريب لم يكن الناس يعرفون معنى «الكشتة» وهي الذهاب إلى أماكن في البر للاستمتاع بجمال الطبيعة وتناول وجبة الغداء وشرب الشاي ومن ثم الرجوع إلى المنزل بحيوية ونشاط، وقبل ورود السيارات لم يكن أحد يخرج للنزهة إلى البر، بل يقضون جل وقتهم في المنزل أو في السوق في وسط البلد لتجاذب أطراف الحديث فهو مكان الترفيه الوحيد لديهم، أما النساء فكانت الزيارات المنزلية في الضحى عند هدوء المنزل من الصغار لذهابهم إلى الكتاتيب أو المدارس النظامية بعد استحداثها، ورب الأسرة إلى عمله، وقبل موعد أذان الظهر بقليل تعود المرأة إلى منزلها لإعداد وجبة الغداء للزوج والأبناء، وقد يكون هناك ليالي سمر عندما يذهب أصحاب المزارع قديماً إلى مزارعهم الصغيرة لحصاد الزرع من القمح وكذلك صرم تمر النخيل حيث يقضون أسابيع وربما أشهر يسكنون في المزارع حتى ينتهي موسم الحصاد، وغالباً ما تكون تلك الفترة في نهاية العام وإجازات المدارس فيما مضى.
خيام وماطور
وعند انتشار السيارات بدأ الناس يعرفون الخروج إلى البر للتنزه وقضاء وقت ممتع، وكانت البدايات الخروج إلى البر بدون إعداد الغداء أو الوجبات، بل يقومون بأخذ طعام الغداء في القدر بعد أن ينضج ويقومون بلفه بقطعة قماش كمنشفة كبيرة كي لا يبرد، حيث أن الناس في ذلك الوقت لم يعرفوا حوافظ الطعام الموجودة الآن، فقد كانت الأواني بسيطة جداً، ويأخذون بساطا ليجلسوا عليه، أمّا السُفرة فقد كانت من الخوص التي يستخدمونها دوماً، فلم يكن هناك أيضاً سُفر بلاستيكية، ويخرج الأهل للتنزه مصطحبين معهم الجد والجدة -إن وُجدا-، أو أحدهما، والأب والأم والأطفال، ولم يكن يتخلف أحد عن تلك الرحلة، فيتناولون طعام الغداء في أحد الأودية القريبة جداً من البلدة ومن ثم يعودون في المساء قبل حلول الظلام والسعادة تغمرهم بهذه النزهة البرية الجميلة، ومن ثم تطور الأمر وبات هناك ما يسمى بالتخييم، حيث يقوم عدد من الأقارب وخلال إجازة الربيع للطلاب بالخروج إلى البر ونصب مجموعة خيام بحيث تخصص أصغرها للطبخ وأخرى لجلوس الرجال وأخرى مثلها لجلوس النساء وربما تم تخصيص خيمة أخرى للمبيت، ويتم تجهيز هذا المخيم بالمياه وأغراض الطبخ من مواقد وبراميل غاز وأنواع من المواد الغذائية للأكل والطبخ، وربما تم جلب «ماطور» كهرباء يعمل بالبنزين لإنارة المخيم ليلاً، وغالباً ما يتخلل تلك المخيمات إقامة منافسات رياضية في كرة القدم أو الطائرة والسباقات على الأرجل والتصويب بالأسلحة وغيرها من الرياضات الشعبية المحببة للجميع في تلك الفترة، وفي الوقت الحاضر باتت الرحلات البرية في كل حين صيفاً وشتاءً بفضل التقنية الحديثة وتوفر لوازم الرحلات وسهولة الحصول عليها بأسعار متوسطة.
أكثر تطوراً
وعندما نعود إلى الماضي كانت «كشتة البر» تُجهّز بـ»العزبة»، حيث كانت الأدوات بسيطة وهي عبارة عن قدر للطبخ وصحن وسكين وملعقة وبساط للجلوس وربما «مراكي» للاتكاء و»مركاب» للقدر، حيث يتم إشعال النار تحته لعمل الكبسة مع اللحم أو الدجاج، كذلك لا تخلو الطلعات من إبريق شاهي وبيالات لشربه ودلة للقهوة وفناجيل، وكانت هذه الأغراض تجمع في «شنطة» السيارة في صندوقها أو في صندوق من الحديد يتم تجميع الأغراض به، بالإضافة إلى «جوالين» من الماء للشرب والغسيل، ومع التطور الذي شمل كافة مناحي الحياة فقد تغيرت «عزب» البر، وباتت أكثر تطوراً وأنواعاً، وانتشرت محلات لوازم الرحلات البرية في كافة المدن والبلدات لتُحقق هوامش الأرباح، حيث يجد من يرغب بطلعة أو التخييم كل ما يريده في هذه المحلات المتخصصة، والتي باتت تتبارى في جذب الزبائن بتلبية احتياجاتهم وعرض كل جديد، فتجد هناك شنطة خاصة بالطبخ تتوفر فيها كل الأواني والمستلزمات، وأخرى لإعداد الشاي والقهوة، بالإضافة إلى أدوات الشوي، والمواقد المتعددة الاستخدامات، وأدوات الغسيل والفرش والمراكي و»التكايات»، وأنواع الإضاءة و»الرواقات» والخيام الصغيرة، والعديد من التفاصيل الدقيقة التي تعين محبي البر والرحلات.
سيارات بكب أب
وانتشرت وبكثرة في عالم اليوم ورش تجهيز السيارات للرحلات البرية سواء سيارات «البكب أب»، أو سيارات الدفع الرباعي والجيوب، حيث تقوم تلك الورش بعمل تعديلات جوهرية على السيارات، وذلك بإعداد مجلس لعدة أشخاص، بالإضافة إلى تركيب خزان ماء ذي سعة كبيرة، وكذلك خزان وقود احتياطي، إلى جانب تجهيز مطبخ متكامل يتم بواسطته تحضير وإعداد الأطعمة والوجبات، وثلاجات وصناديق حافظة للأطعمة ومستلزمات الرحلة، وكذلك أسطوانات للهواء وأغطية للمقاعد الداخلية للسيارات، للمحافظة على نظافتها، وتركيب أجهزة اتصال وهوائيات لتعقب الطيور، وكشافات لإنارة المخيمات، إلى جانب تركيب إضافات للسيارة لتمكينها من مواجهة الوعورة والتضاريس القاسية بعمل صدامات أمامية ومكابح، لتأمين قيادة آمنة، وضمان مرونة السيارة، كما اتجه عدد من محلات مستلزمات الرحلات إلى عرض سيارات للتخييم تحتوي على «منزل متحرك»، وهي مريحه جداً للرحلات البرية، أو على البحر، حيث يجد فيها المشتري وهاوي الرحلات البرية كافة مستلزمات التخييم من مطبخ صغير وحمام وغرفة نوم وغرفة للجلوس بها تلفاز وثلاجة و»مايكروويف» و»شاور» للاستحمام وخزانات وسرير إضافي للأطفال، إضافةً إلى مكيفات داخلية يمكن تشغيلها حتى أثناء وقوف السيارة بدون تشغيل، وكذلك وجود مظلة خارج السيارة يمكن فتحها مثل الخيمة، كما راج مؤخراً تأجير سيارات للرحلات بمقابل مادي يحدده عدد المدعوين وموقع الرحلة، حيث يقوم من يؤجر سيارات الرحلات بتأمين سيارة متنقلة للرحلات البرية تحوي كافة مستلزمات الرحلات من خيمة وفرش وحطب ودلال وأباريق وغيرها، ليتم تأجيرها بمقابل مادي، وما على من يريد الاستئجار سوى إجراء مكالمة مع متعهد تأمين الرحلات المتنقلة ويحدد مكان الرحلة والذي يقوم بدوره بالتحرك للموقع مبكراً مع تجهيز جميع الاستعدادات، وتشهد هذه الرحلات إقبالاً كبيراً خلال فصل الشتاء ومواسم الأمطار والأجواء الربيعية.