منذ مدة ليست قصيرة وأنا أتتبع سيرة هذه الشخصية الوطنية التي كانت ملء الأسماع والأبصار، شخصية عظيمة بمعنى الكلمة، نادرة، جمعت وحازت العلم والأدب والإدارة ومكارم الأخلاق، كل من اتصل به بسبب من الأسباب تعجب منها، بل تأثر بأخلاقها العالية الراقية، وامتاز -رحمة الله- بصفة من أجل الصفات وأعظم الشمائل وأطيب الخصال ألا وهي صفة الوفاء، فإذا كان الحِلم سيد الأخلاق، فإن الوفاء ملك الأخلاق وعميدها وأساسها، وإذا كانت الأخلاق جسد فإن رأسها هو الوفاء، وفي هذا الجانب الخلقي له مواقف وقصص ووقائع تلهج بها الألسنة، إنه الوزير الأديب رجل الدولة ورجل العلم محمد بن سرور الصبان -رحمه الله-، وماذا بوسعي وأنا أمام قامة من قامات الوطن التي يُفخر بها، سار ذكره وصيته في حياته الرسمية وفي الحياة العامة، ولم تزل ذكراه باقية، بل هي خالدة؛ لأنه من الرجال الذين خلدتهم آثارهم وأعمالهم، فلا يمكن أن تنسى، وكنت أحرص في بعض المجالس الخاصة أروي بعض قصصه الدالة على المروءة والندى والجود والإحسان، ولا زلت أبغي هذه القصص من الذين يعنيهم هذا المعطاء الشهم الجواد، ندى الكف، الذي وهبه الله المال والثروة والنعمة، ووفقه الله لبذله في طرق الخير جابراً أصدقاءه ورفقاء الدرب، هذا فضلاً أنه في كل مكرمة سبّاق إليها ومسارع، لا يتوانى كالبرق في غوث المستغيثين به عندما تحل بهم الكرب، وتقع عليهم المحن وتصطادهم الكوارث سواء من أصدقائه أو من غيرهم، بل كان يبادر بنفسه إذا علم بمآسي البعض، ولا يتوقف حتى يأتي هذا المكلوم يرجو منه نجدته وإسعافه، ومهما عظم الطلب وفي مقدرته إجابته فهو لا يرد السائل، وقد يكون الطلب صعباً للغاية لكنه لا ييأس فيحاول جهده وطاقته في تذليل العقبات لهذا الطلب؛ لأن نفسه التي جبلها الله إياها سمحة كريمة، وكريم النفس ليس في قاموسه لفظة: "لا".
ريادة أدبية
وفي هذه السطور تطفل قلمي نحو محمد الصبان -رحمه الله-، هذا الجهبذ في كل أحواله، أن أكتب عنه، وإن كان الكثير من الباحثين والأدباء قد كتبوا سيرته الرسمية والأدبية والفكرية، والحقيقة أن شخصية الصبان ينبغي التوقف عندها كثيراً وتأخذ منها الدرس الإداري والأخلاقي والثقافي، وكذلك التجاري، ونفيد من خبرته التجارية، فهو من أوائل ممن عملوا في عالم التجارة في بدايات ضم الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله- الحجاز إلى حكمه، ومحمد الصبان قبل أن يكون موظفاً رسمياً بالدولة فهو أديب من جيل الرواد، وقد ألّف كتاب (أدب الحجاز)، ويعد أول إصدار ثقافي له، وهو بهذا يستحق الريادة الأدبية؛ لأنه أول كتاب طبع ونشر بعد ضم الملك المؤسس الحجاز إلى حكمة، ويذكر العلامة علي جواد الطاهر -رحمه الله- هذا الكتاب في موسوعته (معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية)، سارداً فصول هذا الكتاب الرائد الذي كان أول انتاج أدبي لشخصيتنا، طرح فيه أدب الحجاز، بمعنى إنتاج الشعراء والكتّاب، وهو وثيقة تاريخية أدبية وتحفة رائعة وعنوان الكتاب أدب الحجاز، والأسماء التي سردها في كتابه من أدباء الحجاز الشباب آنذاك، ونذكر منهم عبدالوهاب اشي، ومحمد حسن عواد، ومحمد عمر عرب، ومحمد صلاح خليدي، ومحمد سعيد العامودي، وعبدالقادر عثمان، وعبدالوهاب نشار، فهؤلاء شعراء، وأما قسم النثر فسرد منهم حامد كعكي، ومنهم من ورد في قسم الشعر والنثر أمثال محمد سعيد العامودي وعبدالوهاب آشي.
صدق اللهجة
ويذكر علي جواد الطاهر الطابع العام عن كتاب (أدب الحجاز) صدق اللهجة، والحماسة إلى الإصلاح الاجتماعي والفكري، ويذكر علي جواد الطاهر أن هذا الكتاب مرجع على قدم العهد به، وقد طبع عدة طبعات، وآخر طبعة للمجلة العربية بعناية الباحث والصحفي حسين بافقيه، وأما الإنتاج الثاني لمحمد الصبان -رحمه الله- هو كتاب (المعرض)، وهو مجموعة آراء في اللغة العربية لأدباء الحجاز، وهو كتاب كذلك نال الريادة الأدبية، فقد طبع عام 1345هـ، والكتاب أتى على صيغة أسئلة عن اللغة العربية لأبناء الحجاز، وتتضمن الأسئلة عن العامية، وجاءته الأجوبة من العديد منهم بالالتزام بالعربية، وأجاز بعض المتطرقين استعمال العامية في القصة، والجدير بالذكر أن علي جواد الطاهر زار شخصيتنا في منزله بغرض الاستقصاء والسؤال كما هي عادته في البحث حيث يقول: وقد كان لهذا الكتاب صدى واسع بين أدباء الحجاز، والواقع أن المقصود من هذا السؤال هو خلفيته وليس ظاهره كما أجابني الصبان، فقد قال لي في احدى زياراتي له في منزله -ما مضمونه-: ولقد أردت أن استنفد طاقات الشباب الحجازي الفكرية ومهارتهم الفنية في تمجيد اللغة العربية، خوفاً من عواقب أقلامهم، لكني صغت هذا السؤال بطريقة المقالة، فكان ما لم أتوقعه أنا ولا غيري من انفجار وخلاف بين أدباء الحجاز، فبعضهم دعا إلى الالتزام بالعربية ومنهم الغزواي والراضي، وبعضهم الآخر أجاز عدم التمسك وثار على البلاغة العربية والأساليب القديمة ودعا إلى التجديد في الأدب، بل وتزعم هذا الاتجاه محمد حسن عواد الذي لم يقتصر على هذا الجواب بل ألّف كتابه (خواطر مصرحة) وطبعه 1927م وكله ثورة على العربية وأدابها.
منهل ومصدر
وكتاب (أدب الحجاز) وكتاب (المعرض) أسهم فيها محمد الصبان -رحمه الله- في النهضة الأدبية بالمملكة، حيث أسس لها، ومهد للبدايات، وحرك المياه الراكدة، وأشعل النور في هذا الجو المعتم، واستنهض الأقلام الشابه الطموحة، وأظهرها على الملأ بعدما كانت مكنونة ومخبأة، فهذه الأقلام أنتجت إبداعاً أمثال من كانت لهم مشاركات في هذين الكتابين الرائدين، وأصبحوا من أعمدة الأدب السعودي الحديث، وأسّس الصبان المكتبة الحجازية، وهي من عوامل النهضة في الأدب السعودي، وقد كانت مكتبة تجارية أهلية من أوائل المكتبات في مكة والمنطقة، كانت تعرض الكتب الحديثة لأدباء مصر أمثال العقاد وطه حسين والمازني والزيات وجرجي زيدان، وكانت تشترك في المجلات المصرية والصحف، فكانت منهلاً ومصدراً لكل كاتب وأديب وشاعر، بل كل طالب علم يدرس، ففيها من كتب التراث الكثير، وقد نشر تبرعاً منه كتب تراثية منها (العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين) للفاسي، وكتاب (الصحاح) للجوهري تحقيق عبدالسلام هارون وأحمد عبدالغفور عطار، والأخير له صداقة وعلاقة مع شخصيتنا، ووقف معه مواقف تدل على الشهامة والمروءة والوفاء، وكتاب (الطرق الحكمية) لابن القيم، وكتاب (الانصاف) موسوعة فقهية في المذهب الحنبلي ألفها العلامة المردواي، وهو إحدى عشر مجلد، ونشر ديوان فؤاد الخطيب، وهذا كذلك يعد من إسهاماته في النهضة العلمية والأدبية، وكل هذه الكتب كانت توزع مجاناً لطلبة العلم والمثقفين والقراء، ومن إيجابيات الصبان -رحمه الله- وتعلقه بالحرف والكلمة أسّس شركة من أوائل الشركات في الوطن، وهي الشركة العربية للطباعة والنشر، وكان يرأسها، واشترت مطبعة صوت الحجاز من صاحبها محمد صالح نصيف.
كريم وسخي
وأثنى المؤرخ يعقوب الرشيد -رحمه الله- على محمد الصبان كثيراً، وأنه من سادة الرجال كرماً وسخاءً وأريحية، ويعقوب لديه فراسة في الرجال والأشخاص، وهو شاهد عن قُرب حينما كان موظفاً بالديوان الملكي مترجما للملك سعود -رحمه الله-.
ورثاه العالم المحقق حمد الجاسر بمقالة قيمة في مجلته العرب أبان بلوغه خبر وفاته قائلاً: عندما قال لي أحد الأخوان في صبيحة الأربعاء بأسٍ وحزن مات محمد سرور الصبان، ذُهلت وبقيت واجماً برهة، لقد كان يعول عالماً عظيماً من الناس من مختلف طبقاتهم، فيهم العلماء والأدباء والشعراء وأصبح بعصاميته من أبرز رجال البلاد.
وتحدث الرائد الصحفي العلامة عبدالقدوس الانصاري عن الصبان قائلاً: يعتبر محمد سرور الصبان بكتابيه (أدب الحجاز) و(المعرض) مشجعاً للأدباء، وبمكتبته التي تحوى أكبر مجموعة من الكتب، وفيها من المخطوطات النادرة ما لا يوجد في غيرها، فقد حرص على أن يجمع ما يتعلق بتاريخ مكة المكرمة وأن يقوم بنشره.. الخ.
خطوة متقدمة
وقال المؤرخ محمد علي مغربي في كتابه (أعلام الحجاز): يُعد محمد الصبان حسن الخلق، وأكرم من عرفت من الرجال، أفاد في حياته الإدارية، وأنجز في الأدب والثقافة.
وأفرد د. عبدالرحمن الشبيلي في كتابه (أعلام بلا إعلان) للصبان سيرة عن حياته الإعلامية والصحفية، وقال: من مآثره الذي تذكر له، والحديث عن الطباعة والنشر، سعيه إلى تأسيس شركة طباعية رائدة مماثلة لشركة الطباعة والنشر، وهي شركة مصحف مكة 1369هـ، مع محمد علي مغربي والخطاط محمد طاهر كردي وإبراهيم النوري وغيرهم، والشركة التي جلبت لها مطبعة أمريكية جديدة لطباعة المصحف الشريف لأول مرة في تاريخ مكة المكرمة في خطوة متقدمة، ويواصل الشبيلي في مقالته: إن للصبان دور في تأسيس أول إذاعة بالمملكة، وبوضعه مستشاراً بوزارة المالية كان السند المالي الأكبر للإذاعة في بدايتها، وكان همزة الوصل بين إدارة الإذاعة وديوان وزارة المالية، والقريب إلى أسرة الإذاعة بثقافته ومرونته وتقديره للظروف ومعايشته للعموم، وكان الضمير المستتر وراء نموها.
معرفة وقدرات
وترجم لمحمد الصبان -رحمه الله- العلامة الموسوعي خير الدين الزركلي في كتابه الضخم (الاعلام)، ومن المؤكد أنه قابله والتقى به وجالسه في ديوان الملك عبدالعزيز والملك سعود -رحمهما الله-، ولأن كلاهما يجمعه الشغف بالأدب والتاريخ، ذكره الزركلي في كتابه (شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز) بعنوان «من ذكريات الصبان»، وهي عن الملك المؤسس، وكان قد نشر هذه الذكريات في مجلة المنهل، وذكره أيضاً في نهضة الحجاز الأدبية.
ومن الذين كتبوا عن الصبان المؤرخ عبدالرحمن بن رويشد في كتابه (صفحات مشرقة) قائلاً: محمد سرور الصبان من مواليد جدة تعلم في مكة المكرمة، وعندما دخل الملك عبدالعزيز إلى الحجاز عين موظفاً بأمانة العاصمة، وكانت له مكتبة يبيع فيها الكتب هو وأخوه الشيخ عبدالله سرور، اشتغل في عدة أماكن حرة تجلت فيها مواهبه، فاختاره عبدالله السليمان آنذاك ليتولى إدارة التحريرات في وزارة المالية، ثم ما لبث ابن سليمان أن أسند إليه منصب مدير عام وزارة المالية التي تقوم آنذاك بأعباء كثيرة، فأظهر من المعرفة والقدرات ما جعل الكثيرين ينظرون إليه وإلى أعماله بالإعجاب والنظرة المتفائلة، وكان من تأثيره أن تحسنت الإدارة ولغة الكتابة في دواوين الوزارة، لاسيما بعد أن كلفه الشيخ عبدالله السليمان أن يختار لوظائف وزارة المالية آنذاك مجموعة من المثقفين المشاهير، فكان أن نفذ هذه الرغبة، واختار العديد منهم، أمثال عبدالوهاب آشي، ومحمد حسن فقي، ومحمد حسن كتبي، وأحمد قنديل، وغيرهم، وكلهم كتاب وشعراء سعوديون بارزون، ومعظمهم كان يعمل في التدريس في مدارس الفلاح في مكة المكرمة وجدة والمدارس الحكومية، ولمحمد الصبان مآثر أدبية كثيرة، وقد عمل في وزارة المالية مديراً عاماً ومستشاراً ووكيلاً، ثم اختير وزيراً بعد استقالة الشيخ عبدالله السليمان في عهد الملك سعود -رحمه الله-.
نفس سمحة
ومحمد الصبان -رحمه الله- إداري تولى عدة مناصب في بدايات حياته في مكة، وهو من مواليد القنفذة، وعاش في جدة وتعلم بها، وفعلاً وواقعاً كان عصامياً، بدأ من لا شيء، صنع له مجداً لا يزال مذكوراً في الناس، واقصد بذلك المكانة الاجتماعية والأدبية والرسمية، وتولى عدة وظائف لكن أهمها وأشهرها أنه كان وزيراً المالية شطراً من عهد الملك سعود -رحمه الله- بعد استقالة الوزير عبدالله بن سليمان بن حمدان، ثم بعد ذلك عين رئيساً لرابطة العالم الإسلامي، واستمر بها حتى توفي 1391هـ، واذكر كلمة قالها الأديب سعد بن رويشد -رحمه الله- عن الصبان، وكان صديقاً له عدة عقود من الزمن، ووكيلاً لأعماله الخاصة في الرياض، يقول: لم ينجب الحجاز مثل محمد سرور الصبان، كان يبذل ماله وجاهه للناس بكل سرور، ولا يشتكي من ملاحقة الناس له وشدة إلالحاح في الطلب، فكان رحيماً بهم، عطوفاً ذا نفس رفيقة سمحة وعالية، وله همة في علو النفس والترفع عن الدنايا وسفاسف الأمور، ومن الذين أثنوا على شخصيتنا المؤرخ الأديب فهد المارك في كتابة (من شيم الملك عبدالعزيز)، حيث نوّه بذكره وأنه من رجال الوطن المشهورين.