لعل من أوائل الكُتب التي وقعت بيدي وكان ذلك إبان دخولي إلى عالم الكُتب والقراءة، السلسلة الشعبية الرائعة، والتحفة الطريفة والممتعة والمسلية (أساطير شعبية) التي صدر منها خمسة أجزاء، ومؤلفها الأديب والرواية والرائد الصحفي والتعليمي عبدالكريم الجهيمان -رحمه الله-، كانت أول موسوعة تراثية تضم فئات القصص الشعبية النابعة من قلب جزيرة العرب نجد، وقد حققت شهرة لمؤلفها الجهيمان؛ لأنه جمعها ودوّنها مما حكته الألسن وروته المجالس.
كانت لعبدالكريم الجهيمان محطات ليست قصيرة، وكتب سيرته بعنوان (مذكرات وذكريات من حياتي)، وهو من مواليد 1330هـ بقرية "غسلة" بالوشم، وذكر مرحلة طفولته، ودخل الكتّاب وتعلم أبجديات القراءة والكتابة كما هو الشأن في جيله آنذاك، يقول في مذكراته: "واستمرت دراستي في الكتّاب ما يقارب عاما، وذلك بجهود أمي -رحمها الله-"، ثم قال: "وانتهيت من دراسة الكتّاب بعد أن أجدت القراءة والكتابة"، كانت ذكريات القرية راسخة في ذهن الجهيمان، وكان قلمه مداداً في تصوير مشاهد تلك القرية منذ أن وعى ما حوله، ثم بدأ يقرأ الحرف الذي لازمه مدى حياته، بل الذي صيّره كاتباً وصحفياً ومعلماً وأديباً ومؤلف.
صوّر عبدالكريم الجهيمان احتفال أهل قريته بمن تخرج، أقصد بذلك تخرجه من كتّاب القرية بعدما أتم قراءة القرآن، ويا لها من سعادة وفرح وسرور بهذا الطفل، حيث الأهازيج احتفاءً بهذا الطفل، يوصلونه إلى باب منزله، وهنا تُعد وليمة كبيرة في منزل والده، فيأكل زملاؤه من هذه المأدبة.
وبما أن شخصيتنا أحد علماء التراث الشعبي، وعايشه، فقد وقف عند بعض المظاهر الشعبية والعادات والتقاليد، وعرّف بها، مفسراً بعضاً من الأهازيج والأناشيد والعبارات، ولا يمكن أن يدعها معلقة، وحتى أنه عرج على الألعاب الشعبية وعقد لها فصلاً، وأنواعها التي يستمتع بها هو وأطفال قريته.
وكانت القصص التي يرويها الناس، وحتى الأطفال في الأيام الخالية، وكذلك الحكايات التي ترويها جدّة الجهيمان هي دائماً في ذاكرته، وسوف تفرغ هذه الذاكرة فيما بعد في كتاب، فالبيئة الشعبية لم تفارق شخصيتنا، حتى ولو تطورت الأحوال وتغيرت الأجيال والوسائل.
أدب الطفل
روى عبدالكريم الجهيمان -رحمه الله- سيرة طفولته، وقد كتب في أدب الطفل، وسجّل قصصاً وحكايات تروى للأطفال آنذاك، لهذا كان من أوائل من دوّن في أدب الطفل، فلا نستغرب أن عقد أكثر من عنوان في طفولته والقصص التي وقعت له، ومجتمع الطفل النجدي في ذلك الزمن، فهو رائد أدب الطفل السعودي، ويعود شخصيتنا إلى القصة الشعبية فيروي أن والده كان يقص عليه حينما كان يرافقه في جلب الحطب، كانت أول رحلة للجهيمان مع والده خارج قريته، من أجل طلب الرزق، وكان مشياً على الأقدام، ثم ركبا بعد هذه الرحلة حماراً ثم جملاً، وصوّر شخصيتنا ما رآه في العاصمة الرياض وأماكن الضيافة التي أُعدت لمن يقدم من خارجها، كانت مشاهد وصور لا يمكن نسيانها بالنسبة له.
طلب العلم
ورغب عبدالكريم الجهيمان -رحمه الله- في طلب العلم الشرعي، وكانت العاصمة الرياض هي الحافلة بالعلماء آنذاك، فرحل مع والده، وبدأ مرحلة طلب العلم على المشايخ ودرس الفقه والنحو والفرائض، وعاش بالرياض، وتحسنت ظروفه المعيشية، حيث أصبح مُعلماً لابنة أحد الأسر، ولأول مرة يكون معلماً مع أنه جاء إلى الرياض ليتعلم، وهكذا قدر الله له ذلك، ومن الملاحظ عليه في مذكراته أنه لا يعتني بذكر التواريخ، إنما يذكر أحداثاً ووقائع ومواقف فقط، وحتى المشايخ الذين أخذ عنهم لم يورد أسماءهم، لكنه ذكر أسماء المعلمين الذين درسوه في المعهد العلمي السعودي بمكة وزملائه الذين درسوا معه، فيا ليته ذكر اسم معلمه الأول، سافر إلى مكة لطب العلم بالمسجد الحرام وتعيّن في الهجانة، وأصبح يطلب العلم بالمسجد الحرام، وهنا لم يذكر لنا العلماء الذين درسوه ولا تاريخ مجيئه إلى مكة، لكن الملاحظ أن الجهيمان بدأ يدوّن التواريخ عندما بدأ يمارس التدريس.
نقلة نوعية
وكانت أول دراسة نظامية لعبدالكريم الجهيمان -رحمه الله- في المعهد العلمي السعودي، ومكث فيه ثلاث سنوات، وكانت هذه الدراسة نقلة نوعية وكبرى في حياته وفي مكة كذلك التي تزخر بأنواع الناس من مختلف الأقطار لأجل الحج والعمرة، وبعد تخرجه كما ذكر هو أصبح كاتباً وتلميذاً لدى القاضي محمد بن عثمان الشاوي في بلدة تربة، ثم تعيّن بالتدريس بمكة عام 1353هـ، ثم عُيّن مديراً لمدرسة أنجال ولي العهد، وقد رتب هذه المدرسة وقام بها خير قيام على ما توفر من الإمكانات آنذاك، ثم بعدها بمدة استقال من هذه المدرسة، وبعد ذلك تولى تدريس بعض الخاصة من ذوي المكانة الاجتماعية، ثم بعد ذلك عندما اشتهر اسمه أصبح مديراً ومدرساً لأنجال الأمير عبدالله بن عبدالرحمن، ومكث مدة في هذه المدرسة.
تفكير اجتماعي
وسافر عبدالكريم الجهيمان -رحمه الله- بمعية الأمير يزيد بن عبدالله بن عبدالرحمن إلى مصر مرافقاً، وكانت لأجل العلاج والاستشفاء، وكانت سفرته لأول مرة إلى مصر انفتاحاً إلى العالم الخارجي لأكبر دولة عربية، وانظر إلى شعوره وهو يقول في مذكراته: «أحدث هذا السفر إلى مصر بالنسبة لي خاصة تحولات في تفكيري الاجتماعي، وعرفت كثيراً من الشخصيات البارزة في الدولة التي كنت معجباً بسلوكها وطريقة تعاملها مع الآخرين، وبما أن هذه السفرة هي أول سفرة في حياتي خارج بلادي فقد رأيت فيها الكثير من الأمور التي منها ما أحببته ومنها ما كرهته، فقد خرجت من مجتمع محدود يعيش عيشة محدودة عيشة الكفاف والعفاف، وإذا بي في أيام قلائل أرى نفسي في مجتمع يموج بمختلف التيارات والرغبات والصراعات في سبل العيش بين الكبار والصغار والفقراء والأغنياء، رأيت الفرق الكبير بين مجتمعي المحدود وما فيه من تعاطف وتراحم ومواساة، وبين المجتمع الذي يعج بالصراع والتنافس، ولا أقول كل الأحيان؛ لأن كل مجتمع فيه الصالح والطالح، وكلما اتسع المجتمع كثرت فيه التيارات والصراعات التي منها ما ينسجم مع الأخلاق الكريمة ومنها ما يشذ عنها قليلاً أو كثيراً، وقد كنت آخذ العبرة والموعظة من بعض ما يجري في ذلك المجتمع الصاخب، واختزن هذه الموعظة في ذاكرتي لأستفيد منها في مستقبل حياتي، وأستفيد من المسالك الحميدة والمبادئ الريفية، فأحاول أن أطبقها في حياتي العملية سواء كانت هذه المسالك تخص شخصي أو تتعلق بعلاقاتي مع الآخرين».
بلا حدود
وأكمل عبدالكريم الجهيمان -رحمه الله- عن رحلة مصر قائلاً: «عرفت بعض الشخصيات في هذا المجتمع المفتوح، وكيف ينطلقون بلا حدود ولا قيود في أمور كنا لا نتصور أنها تصدر من أمثالهم وشخصيات أخرى تسير في هذا المجتمع بتعقل واتزان، فأحب مثل هذه الشخصيات وأستفيد من طريقة سلوكهم، كما أنني أستفيد من طريقة أولئك الذين يتخبطون في حياتهم الخاصة، وفي علاقاتهم بالآخرين، فأحاول أن لا أكون مثلهم، وأن لا يتحدث عني أحد أو يسمع باسمي إلاّ مقروناً بما يشرفني ويجعلني موضع احترام وإكرام» -انتهى كلامه-.
وبعد استقالته من مدرسة أنجال الأمير عبدالله بن عبدالرحمن ارتبط بالأمير يزيد بن عبدالله، وسافر معه إلى أوروبا، وزار باريس وكتب عنها كتاب، ثم إلى بلجيكا ثم هولندا وسويسرا، وكذلك إيطاليا.
أخبار الظهران
وبعد الريادة التعليمية انتقل عبدالكريم الجهيمان -رحمه الله- إلى المنطقة الشرقية وكان عبدالله الملحوق قد أسس مطبعة أطلق عليها شركة الخط للطبع والنشر، وكان الجهيمان تولى هذه الشركة بتكليف من الملحوق، وطرأت عليه تأسيس صحيفة في هذه المنطقة بعد الموافقة من ولي العهد آنذاك الأمير سعود -الملك فيما بعد-، وبهذا نال شخصيتنا الريادة الصحفية في المنطقة الشرقية؛ لأنه أول من أصدر صحيفة فيها أخبار الظهران يتكلم هذا لحدث في ذكرياته: «وصدر بعض أعداد هذه الجريدة من بيروت؛ لأن مطابع الخط لم يكن لديها الاستعداد آنذاك لإصدارها -أي طبعها- فكنا نرسل المواد كاملة إلى بيروت، مقالاتها وأخبارها وإعلاناتها، وبعد فترة قصيرة، تولينا إصدارها من الدمام نصف شهرية مؤقتاً، وكانت في بدايتها ضعيفة كأي بذرة توضع في التربة، وكأي عمل ينشأ من جديد، ثم أنها كانت أول صحيفة تصدر في هذه المنطقة التي انتقلت أكثر مدنها من طور القرى إلى طور المدن، ثم أن أكثر القاطنين فيها هم عمال في شركة أرامكو، وشركة الزيت الحديثة النشأة أيضاً، فكان المثقفون والمهتمون بالقراءة وتتبع الأخبار في هذه المنطقة قلة ولا يكونون إلاّ نسبة ضئيلة من السكان، ولكن أخبار الظهران بدأت تنمو وتكبر ويتسع توزيعها ويكثر قراؤها شيئاً فشيئا، لما يلمس القارئ فيها من صراحة في القول وإخلاص في علاج الكثير من المشكلات الاجتماعية والثقافية والسياسية، لهذا فقد كانت موضع الثقة من الحكومة ومن المواطنين على حد سواء، وظهر من بين هؤلاء العمال كتاب ومفكرون صاروا يغذون هذه الصحيفة بألوان من البحوث والمقالات المليئة بالوطنية والاخلاص والجرأة في بعض الأحيان».
مكسب معنوي
وتابع عبدالكريم الجهيمان -رحمه الله- قائلاً: «اكتسبت من رئاسة تحرير هذه الصحيفة مكسباً معنوياً كبيراً، وكانت نقلة جديدة في حياتي الوطنية والفكرية، حيث كان يرد إلى هذه الصحيفة مختلف الآراء والاتجاهات التي منها ما يكون متزناً، ومنها ما يكون مندفعاً أو متهوراً، ومنها ما يكون مدسوساً فيه بعض الأفكار التي لا تتناسب مع محيطنا ومجتمعنا المحافظ الذي تسوده قيم وأخلاق توارثها الخلف عن السلف، فإذا تجاوزها إنسان اعتبر شاذاً، ودرجات الشذوذ تختلف باختلاف الاتجاهات، فإذا كان دينيا فإن الكل يقف ضده، وإذا كان في شأن من الشؤون الاجتماعية أو الفكرية فإنه يكون موضوع بحث ومناقشة وأخذ ورد حتى تتضح الحقيقة ويظهر الزيف، فالحقيقة بنت البحث كما يقول المجربون في حكمهم، سارت الصحيفة على هذا المنوال حتى أصبحت موضع ثقة واحترام الجميع».
مالية واقتصاد
وتعين عبدالكريم الجهيمان -رحمه الله- بعد أخبار الظهران في وزارة المعارف مديراً للتفتيش، وبعد وزارة المعارف نقل إلى وزارة المالية، وقد أصدر مجلة باسم المالية والاقتصاد ثم أُحيل إلى التقاعد، وذكر حوادث كثيرة وقعت له في هذه المذكرات، والجهيمان أديب وصحفي ولغته راقية وسلسة ورقيقة جداً، بل إن كتاباته الشعبية جذابة جداً لا تستطيع إلاّ أن تكمل ما بدأت من قصة أو مثل شعبي، وكان كاتباً اجتماعياً وذا وطنية جلية في قلمه ومقالاته مثل (دخان ولهب)، و(أين الطريق؟)، كلها مقالات نقدية اجتماعياً، أو لبعض ما يراه خلل في الأداء لبعض المؤسسات، فهو ناقد جريء أبان صحافة الأفراد، وهو من رؤساء هذه الصحافة، ثم كتب في صحيفتي اليمامة والقصيم وجمع تلك المقالات بعدما اختار منها ما يناسب.
قبول كبير
ونالت المؤلفات الأدبية الشعبية لعبدالكريم الجهيمان -رحمه الله- قبولا كبيراً في الوسط الثقافي والشعبي، وعند عامة القراءة، وحظيت بشهرة قياسية وقوية، وهما كتاباه (أساطير شعبية) و(الأمثال الشعبية)، وذكر كيف بدأ تأليف هذين الكتابين قائلاً: «بعد أن ضمنت لنفسي دخلاً ثابتاً انصرفت إلى الكتابة والتأليف، وكنت قد طبعت من كتاب الأمثال الشعبية ثلاثة أجزاء، كل جزء يشتمل على ألف مثل، وأشعت بين المواطنين أن من يأتيني بثلاثين مثلاً ليست في الكتاب أعطيه هذه الأجزاء الثلاثة مكافأة، ومن يعطيني عشرة أعطية عشرة ريالات، فانهالت علي الأمثال من كل جانب، وكنت اختار منها ما أراه ينطوي على حكمة، أو تجربة في الحياة، سواء كانت تجربة ضارة أو نافعة، وبهذا اجتمع لدي هذا الكم الهائل من الأمثال التي تحوي تجارب الآباء والأجداد، والتي سوف تكون مصدرا نادرا لمعرفة تاريخ حياتهم من الناحية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأكثر ما دفعني إلى هذا الصنيع أن حياتنا بدأت تتغير، وأن مجتمعنا بدأ في تطور جديد، وأن هذه الأجيال بدأت تجهل عن ماضينا الشيء الكثير، فرأيت أن من الخير لبلادي أن أسجل هذا التراث الذي إن أُهمل في الوقت الحاضر فسوف يذهب في طوايا النسيان، وبعد أن فرغت من كتابة الأمثال شرعت في كتابة الأساطير، وهي لا تقل أهمية عن كتاب الأمثال، فهي تحوي صوراً من الحياة الماضية، وتعبّر عن أحلامهم وآمالهم وتعبّر عن مخاوفهم وآلامهم، علاوةً على ما فيها من تسلية ومتعة وخيال، يخرج بك من عالم الواقع إلى عوالم قد يكون فيها ما ترجوه وتتمناه، وقد جمعت من هذه الأساطير خمسة أجزاء كل جزء تبلغ صفحاته الأربع مئة صفحة، وهذين الكتابين، الأمثال والأساطير، أعتبرهما من أعز مؤلفاتي التي بذلت فيها جهداً متواصلاً ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً» -انتهى كلامه-.
دخان ولهب
ومن مؤلفات عبدالكريم الجهيمان -رحمه الله- كتاب (دخان ولهب)، وهو مجموعة من المقالات التي كتبها، وتبحث في الشؤون العامة، وكتاب (أين الطريق؟)، وهو مجموعة من المقالات التي كتبها في الصحف، وكتاب (دورة مع الشمس)، وهو رحلة حول العالم بدأ من الغرب وانتهت إلى الشرق، وكتاب (رسالة صغيرة) باسم «محاورة بين ذي لحية ومحلوقها» ويقع في 24 صفحة، وسبق لي أن شاهدت الجهيمان في منزل صديقه الحميم الأديب حمد الحقيل في صالونه يوم الخميس، وأخيراً؛ توفي الجهيمان 1433هـ، وقد جاوز المئة عام، رحمه الله وغفر له.