عرف الناس الوقف منذ بداية الإسلام، وقد أوقف عدد من الصحابة -رضوان الله عليهم- العديد من الأوقاف، كما شجّع الإسلام على الوقف لما له من أهمية كبيرة، حيث يُعتبر نظام الوقف من أقوى آليات التكافل الاِجتماعي في الإسلام، وله أهميّة كبيرة ذات أبعادٍ دينية واِقتصادية واجتماعية وثقافية، فهو تجسيدٌ حيّ لصفات السماحة والتعاون والعطاء، وفي بلادنا حرص الناس على الأوقاف منذ عدة قرون وتعاهدوها بالحفظ والإنماء حتى استمر بعضها إلى يومنا هذا، ونظراً للحالة المادية المتردية التي كانت تعيشها البلاد قبل توحيد المملكة، فقد كانت الأوقاف بسيطة وقليلة الثمن بمقارنتها بيومنا الحالي -ماعدا المدينتين المقدستين-، لكنها كانت في ذلك الوقت تعني الشيء الكثير، وعلى الرغم من أنّها كانت عدة أصواع من البُر أو الشعير، أو عدة وزنات من التمر أو "الودك"، إلاّ أنّها كانت تسد رمق جوع الناس، لكن مع تحسن الحالة الاقتصادية، وانتعاش موارد البلاد التي انعكست بدورها على زيادة دخل الفرد، فقد عرف الناس أوقافاً جديدة صارت تصرف على بناء وعمارة المساجد، وبناء مدارس لتحفيظ القرآن الكريم، والصرف على حلق التحفيظ، ولا زال النصيب الأكبر يصرف على ذلك، وهي من خير ما تصرف فيه تلك الأوقاف.
اهتمام وإشراف
بعد توحيد المملكة على يد المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز -رحمه الله- أولى الأوقاف جل اهتمامه، فكان له العديد من الأوقاف، ومن أشهرها وقف الملك عبدالعزيز للعين العزيزية التي أُنشأت عام 1367هـ، بموجب أمره، وذلك بعد تعطل «الكنداسة»، التي كانت تعمل بالفحم الحجري لتقطير بخار الماء، وكانت المصدر الوحيد للمياه العذبة في محافظة جدة آنذاك، وكُتبت بموجب الأمر الملكي وثيقة تاريخية تضمنت كافة بيانات الوقف وتفاصيله، وفي عصرنا الحاضر تواصل الاهتمام بالأوقاف حيث تأسست عام 1381هـ وزارة الحج والأوقاف، لتتولى مهام الإشراف على شؤون الحج والأوقاف وشؤون الحرمين والمساجد، وفي عام 1414هـ تم فصل قطاع الأوقاف كوزارة مستقلة تحت مسمى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وتواصل الاهتمام بالأوقاف في بلادنا الغالية والتي من أهمها وأكبرها ليس على مستوى بلادنا فقط بل على مستوى العالم الإسلامي «وقف الملك عبدالعزيز»، بمكة والذي يعد من أضخم الأوقاف التي عرفها التاريخ، ويقع بالقرب من المسجد الحرام، باتصاله المباشر بساحات الحرم الخارجية، وتتربع على قمة الوقف أعلى وأكبر ساعة فـي العالم تحتوي على أكبر شعار للمملكة، ويعلوها أكبر لفظ الجلالة مع أكبر هلال إسلامي فـي العالم.
مؤبد منجز
ويُعرّف الوقف أنه مصدر وقّفت الشيء وقفًا، ويطلق على الحبس والمنع، ويقال: «وقَّف فلانًا عن الشيء» أي منعه، ويقال: «وقَّف الدار» إذا حبسها في سبيل الله، ولعل حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- حينما أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمرني به، قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر، وقال ابن حجر: حديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف، إذاً فالوقف ثابت في الكتاب والسنة، ويشترط لصحته أن يكون في عين معلومة يُنتَفع بها مع بقاء عينها، وأن يكون على بِر، وأن يقف على معين من جهة، كمسجد كذا أو شخص كزيد مثلاً، وأن يكون الوقف مؤبداً مُنَجَّزاً غير مؤقت، ولا معلَّق إلاّ إذا علَّقه بموته، وأن يكون الواقف ممن يصح تصرفه، فإذا اجتمعت هذه الأمور صح الوقف وعمل به وإلاّ فلا، ومهمة الوقف في الإسلام هي توطيد العلاقات بين الأفراد والتعاون على البر والتقوى، وتحقيق التكافل الاِجتماعي.
مراحل التطوير
ونظراً لأهمية الأوقاف، وفي إطار المحافظة عليها وتطويرها، فقد مرت مراحل لتطوير النظامي للأوقاف بالمملكة، أولها إنشاء وزارة الحج والأوقاف عام 1381هـ، وفي 1386هـ صدر نظام مجلس الأوقاف الأعلى، وفي عام 1393هـ صدرت لائحة تنظيم الأوقاف الخيرية، فيما صدر الأمر الملكي بإنشاء وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد عام 1414 هـ، فيما تم إنشاء الهيئة العامة للأوقاف وإلغاء وكالة وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد لشؤون الأوقاف عام 1431هـ، وفي عام 1437هـ صدر نظام الهيئة العامة للأوقاف، وهي هيئة اعتبارية مستقلة، تتمتع بالاستقلال المالي والإداري، وترتبط برئيس مجلس الوزراء ومقرها الرئيس الرياض، وتهدف إلى تنظيم الأوقاف، والمحافظة عليها وتطويرها وتنميتها، وتشرف على جميع الأوقاف العامة والخاصة والمشتركة وكذا تشرف على أعمال النظار، ومهام الهيئة، وتشكيل مجلس إدارتها، والمجلس هو السلطة العليا المشرفة على إدارة شؤون الهيئة وتصريف أمورها، وله اتخاذ القرارات اللازمة لتحقيق أغراض الهيئة في حدود أحكام النظام، وهناك محافظ يعين بقرار من المجلس له مسؤوليات، يمنحه إياها الرئيس ويكون للمحافظ نائب أو أكثر، وتشكل بقرار من المجلس لجنة استشارية دائمة من غير أعضاء المجلس ومن غير منسوبي الهيئة تسمى اللجنة الاستشارية، تقدم الاستشارات الشرعية والنظامية والمالية والاقتصادية والاستثمارية والاجتماعية، كما تشكل بقرار من المجلس لجنة دائمة من غير أعضاء المجلس ومن غير منسوبي الهيئة تسمى لجنة الرقابة والمراجعة الداخلية، تهدف الى حماية أموال الهيئة وممتلكاتها وضمان سلامة أنظمة الرقابة الداخلية.
صرح راقٍ
وانطلاقاً من النهج الذي سار عليه المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وأبناؤه البررة من بعده من اهتمام بالحرمين الشريفين وما يعود بالنفع والفائدة على الحجيج والمعتمرين وزوار البيت الحرام، وقف خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله- قلعة أجياد، وما اشتملت عليه من منافع وعموم الأراضي التابعة لها على المسجد الحرام، وأمر بتنفيذ مشروع عملاق بمسمى وقف الملك عبدالعزيز على أرض الوقف، حيث وضع حجر الأساس للمشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- فـي 28 /11 /2002م، وتم الانتهاء من بناء المشروع رسمياً فـي 20 /1 /2007م، حيث صمم المشروع ليصبح صرحاً معمارياً راقياً، يتكون من مركز سكني من سبعة أبراج ومركز تجاري ضخم بالإضافة الى أسواق مركزية، ومنطقة مطاعم، كما يقع الوقف فوق جبل القلعة بإطلالة مباشرة على ساحات الحرم المكي الشريف، حيث تم تكليف أكبر المكاتب الاستشارية العملاقة لإعداد دراسات الجدوى المالية والاقتصادية للمشروع وتحديد حجم السوق المتاحة لإقامة المشروع على أرض الوقف وتحديد المواصفات السوقية له مع تحليل مقومات البيئة الاستثمارية بمكة المكرمة، كما روعي فـي مباني الوقف إبراز النواحي الجمالية والطابع المعماري الإسلامي، والمحافظة على البيئة، فواجهات مباني الوقف ترسم الطابع المعماري الإسلامي العتيق، بشكل يليق بأهمية المشروع وموقعه قرب المسجد الحرام، حيث يعد الوقف مدينة متكاملة الخدمات، وما يميز وقف الملك عبدالعزيز هو القرب من المسجد الحرام، واتصاله المباشر بساحات الحرم الخارجية.
أكبر ساعة
وتتربع على قمة مسمى وقف الملك عبدالعزيز أعلى وأكبر ساعة فـي العالم، تحتوي على أكبر شعار للمملكة، ويعلوها أكبر لفظ «الجلالة» مع أكبر هلال إسلامي فـي العالم، كما يعد الوقف من أكبر المباني السكنية والتجارية فـي العالم من حيث مساحة المبني، حيث تبلغ مسطحات المشروع (1.500.000) مليون متر مربع، وهو مكون من سبعة أبراج متلاصقة، وبارتفاعات مختلفة يصل ارتفاع البرج الرئيسي فـيه إلى (601) متر، ويستوعب عدداً كبيراً من الزوار وضيوف الرحمن يبلغ (65.000) نسمة، كما تبلغ الطاقة الاستيعابية للمسجد الواقع داخل المجمع نحو ثلاثة آلاف وثماني مئة مصل، ويعتبر المشروع الأول من نوعه فـي مكة المكرمة وفق نظام البناء والتشغيل والتسليم حيث بلغت تكلفة المشروع الإجمالية أكثر من ملياري ريال.