د. العثيمين: قد تؤدي إلى فقدان البصر.. واستقبلنا حالات خطيرة ومعقدة
على الرغم من الإجراءات الرقابية الصارمة والعقوبات التي فرضتها الجهات المختصة في المملكة للحد من تداول الألعاب النارية، إلاّ أنه لا تزال هذه المواد الخطرة تُباع بطرق غير قانونية، متسللةً إلى الأسواق الشعبية ومواقع التواصل الاجتماعي، مما يجعلها مصدر تهديد يتسبب سنويًا في وقوع إصابات خطيرة، غالبًا ما يكون الأطفال أكثر المتضررين منها، وعلى الرغم من أن الأنظمة في المملكة تحظر بيع الألعاب النارية للأفراد، إلاّ أن السوق السوداء تنشط بشكل ملحوظ خلال مواسم الأعياد والمناسبات، ما يطرح تساؤلات حول كيفية وصول هذه المنتجات المحظورة إلى أيدي المستهلكين، ومن يقف وراء هذه التجارة غير المشروعة؟
وتضع الجهات المختصة قيودًا صارمة على استيراد الألعاب النارية واستخدامها، حيث تقتصر التصاريح الرسمية على الجهات المنظمة للفعاليات الكبرى، مثل الاحتفالات الوطنية والمهرجانات السياحية، وتخضع هذه العمليات لرقابة دقيقة لضمان سلامة الاستخدام. وبموجب اللوائح، فإن أي بيع غير مرخص يُعتبر مخالفة صريحة، قد تترتب عليها غرامات مالية تصل إلى 40 ألف ريال، بينما يواجه المهربون عقوبات أشد تصل إلى السجن لمدة ستة أشهر، مع غرامات قد تصل إلى 100 ألف ريال، لكن الواقع يكشف عن صورة مختلفة تمامًا، حيث تنتشر الألعاب النارية في الأسواق الشعبية وعلى منصات البيع الإلكتروني، بأسعار متفاوتة حسب نوعها وحجم الطلب عليها، وتشير تحقيقات ميدانية إلى أن بعض المستوردين الحاصلين على تصاريح رسمية لاستيراد هذه المواد بغرض استخدامها في الفعاليات الكبرى، يقومون بتسريب الفائض منها إلى تجار صغار، ليتم توزيعها سرًا في الأسواق، ما يُسهم في استمرار انتشارها رغم القوانين المشددة.
حلقة صغيرة
وفي أحد الأسواق الشعبية حيث تصطف البسطات العشوائية وسط زحام المتسوقين، كان هناك طفل صغير يقف عند زاوية ضيقة، يُراقب المارة بعينين حذرتين، ويعرض أمامه كومة صغيرة من الألعاب النارية البسيطة، مثل "الطرطيعة " والشرار الخفيف، اقتربت منه وسألته عن الأسعار، فرد بسرعة: "هذي بأربعة ريال، وإذا تبغين كمية أعطيك بسعر أقل" بدأ الطفل الذي عرّف نفسه باسم "صقر" حذرًا، لكنه لم يتردد في عرض بضاعته، وعندما سألته عن ألعاب نارية أقوى قال بصوت منخفض: "ما عندنا إلاّ هذي، الناس تخاف من الطراطيع الكبيرة"، لكن نظرته الجانبية وتحركاته السريعة كشفت لي أنه يخفي شيئًا آخر، وبعد أن طمأنته بأني جادة في الشراء، تغيرت نبرة حديثه وأصبح أكثر وضوحًا قائلاً: "إذا كنتِ تبغين طراطيع أقوى، لازم تروحين مكان ثاني قريب، مو بعيد"، قالها وهو ينظر حوله بحذر، وكأنه يخشى أن يسمعه أحد، وعندما استفسرت عن مصدر الألعاب التي يبيعها، أجاب ببساطة وبنبرة الواثق: "حنا ناخذها من واحد، وهذا الواحد ياخذها من واحد ثاني، وهكذا، أنا ما أعرف من وين تجي بالضبط"، كان واضحًا أنه ليس سوى حلقة صغيرة في سلسلة طويلة من الوسطاء الذين يتاجرون بهذه المواد المحظورة، مستخدمين الأطفال كواجهات لإبعاد الشبهات.
ثغرة خطيرة
وفي محاولة لفهم أعمق لكيفية وصول هذه الألعاب إلى الأسواق، تواصلت مع أحد الموزعين النشطين في بيع الألعاب النارية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لم يكن الوصول إليه صعبًا، فإعلاناته واضحة وعروضه مغرية، حيث تتفاوت الأسعار حسب النوع والكمية، مع ضمانات يقدمها الموزعون للمشترين لإبعاد أي شكوك حول نشاطهم، عند التواصل معه هاتفيًا، ادعيت أنني زبونة مهتمة بشراء كمية من الألعاب النارية، فجاء رده سريعًا ومطمئنًا: "متوفر عندي كل شيء، وإذا أخذتِ كمية كبيرة أعمل لكِ تخفيض ممتاز"، وعندما طلبت منه أن يعدد أسماء الألعاب النارية المتوفرة لديه، بدأ يسردها بثقة وكأنه يروج لمجموعة من ألعاب الأطفال: "عندي الصواريخ، والشرار، وتسمى أيضا الشرشرة، تصدر شرارات مضيئة لكنها لا تنفجر بقوة، وغالبًا ما يستخدمها الأطفال لصغر حجمها، كذلك القنبلة الدخانية، والطقطاقة، والصواريخ الطائرة، والقذيفة النارية والزنانة، وكبسولات الانفجار"، لكن عند سؤاله عن مصدر هذه الألعاب، أجاب: "عادي، صاحب التصريح للفعاليات عندما تنتهي فعاليته يبيع الفائض، ونحن نشتريه بسعر مناسب"، هذه الإجابة تكشف عن ثغرة خطيرة في آلية الرقابة على التصاريح الرسمية، إذ يُفترض أن يتم التخلص من الكميات غير المستخدمة بطريقة آمنة أو إعادتها للجهات المختصة.
تهديد وإصابات
ومع كل موسم عيد، يتجدد مشهد الألعاب النارية التي تضيء السماء احتفالًا، لكنها في الوقت ذاته تتسبب في إصابات خطيرة، غالبًا ما يكون ضحاياها من الأطفال الذين لا يدركون مدى خطورتها، وعلى الرغم من التحذيرات المتكررة، لا تزال هذه الألعاب تشكل تهديدًا حقيقيًا على الصحة والسلامة العامة، خاصةً مع انتشارها العشوائي وعدم وجود رقابة صارمة على بيعها، وبحسب تقرير صادر عن مستشفى الملك خالد التخصصي للعيون، فإن 61 % من الإصابات المسجلة خلال عيد الفطر 2019م كانت لمن أشعلوا الألعاب النارية بأنفسهم، بينما بلغت نسبة الإصابات بين المشاهدين 39 %، مما يعني أن الخطر لا يقتصر على المستخدمين فقط، بل يطال أيضًا المحيطين بهم، وتتنوع هذه الإصابات بين الحروق العميقة، والتشوهات، وفقدان البصر، وحتى بتر الأطراف في بعض الحالات الخطيرة، وكشفت الإحصاءات أن الفئة العمرية الأكثر تأثرًا بهذه الحوادث تتراوح بين خمسة إلى عشرة أعوام، حيث تم تسجيل 127 حالة إصابة بين الذكور مقابل 23 حالة فقط بين الإناث، مما يشير إلى ارتفاع معدلات تعرض الأطفال الذكور لهذه الحوادث بسبب إقبالهم الكبير على هذه المواد الخطرة دون رقابة كافية.
فقدان البصر
وحذّر د. صالح العثيمين -رئيس قسم الطوارئ بمستشفى الملك خالد للعيون- من العواقب الوخيمة التي قد تسببها الألعاب النارية على صحة العين، مؤكدًا على أنها قد تؤدي إلى فقدان البصر الجزئي أو الكلي، خاصةً بين الأطفال والمراهقين الذين يستخدمونها دون إدراك لمخاطرها، مضيفاً أن هذه الألعاب قد تتسبب في حروق بالقرنية، وتمزق بالجفون، وإصابات مباشرة في الشبكية قد تؤدي إلى انفصالها أو نزيف داخلي حاد، وهو ما قد يسبب فقدانًا دائمًا للبصر حتى مع التدخل الطبي السريع، مشيراً إلى أن المستشفى استقبل خلال السنوات الأخيرة حالات خطيرة استدعت تدخلات جراحية معقدة، وبعضها كان غير قابل للعلاج بسبب شدة الضرر، ذاكراً أن خطورة الألعاب النارية تكمن في عدم القدرة على التنبؤ بانفجارها، حيث قد تطلق شرارات أو شظايا طائرة تتسبب في إصابات مباشرة للعين، مما يزيد من احتمالية تعرض المستخدمين والمحيطين بهم للخطر، ناصحاً بأن يكون الاحتفال ضمن إطار آمن، مع ضرورة اتخاذ الاحتياطات اللازمة، والتي تشمل ارتداء نظارات واقية عند التعامل مع الألعاب النارية لتقليل خطر الإصابة المباشرة في العين، والابتعاد عن مناطق التفجير، وعدم السماح للأطفال بالاقتراب منها، إضافةً إلى ضرورة وجود إشراف من شخص بالغ لضمان الاستخدام الصحيح وتقليل احتمالية وقوع الحوادث، داعياً الجهات الإعلامية إلى تكثيف حملات التوعية حول مخاطر الألعاب النارية، وتوضيح العواقب الوخيمة التي قد تنتج عن استخدامها العشوائي، حاثاًّ المجتمع على تبني بدائل أكثر أمانًا للاحتفال، مثل العروض الضوئية المنظمة، والتي يمكن أن توفر أجواء احتفالية دون أن تعرض حياة الأطفال للخطر.
ذكرى مؤلمة
وفي كل عيد، تضيء السماء بألوان الألعاب النارية، ويعلو صوت الفرح في كل مكان، لكن بالنسبة لذكرى الجامع البالغة من العمر 16 عامًا، لم تعد هذه المشاهد تبعث البهجة كما كانت من قبل، بل تعيد إليها ذكرى ليلة عيد لا تُنسى، ليلة فقدت فيها جزءًا من نفسها، في ذلك المساء، كانت ذكرى تلعب مع إخوتها وأصدقائها في فناء المنزل، وسط ضحكات الأطفال وصوت المفرقعات التي تتطاير في الأجواء، لم تكن تدرك أن لحظة واحدة ستغير حياتها للأبد، اقتربت من أحد الأطفال الذي كان يشعل لعبة نارية، لكن فجأة، انفجرت بالقرب من وجهها، لتتحول الفرحة إلى صراخ وألم، شعرت بحرارة شديدة تلسع وجهها، وبألم لا يُحتمل في عينها اليمنى، وضعت يدها على وجهها لتجدها مبللة بالدماء، ثم بدأت الرؤية تضعف حتى غرق كل شيء في الظلام، لم تكن تعلم أن تلك اللحظة كانت بداية فصل جديد من حياتها، فصل لم تكن مستعدة له أبدًا، في المستشفى، كانت ذكرى تتشبث بالأمل، تنتظر أن يخبرها أهلها والأطباء أن إصابتها طفيفة، وأن كل شيء سيكون على ما يرام، لكن كلمات الطبيب جاءت كالصاعقة: "عينها اليمنى تعرضت لأضرار بالغة، ولا يمكن إنقاذها"، لم تصدق ما سمعت، رفضت الحقيقة، حاولت أن تستوعب كيف يمكن لحظة واحدة أن تغير حياتها بالكامل، عاشت أيامًا صعبة بعد الحادث، لم تكن قادرة على النظر إلى المرآة، كانت تخشى مواجهة العالم بوجه لم تعد تعرفه، انسحبت من كل شيء، تجنبت لقاء الأصدقاء، وفضلت البقاء في غرفتها بعيدًا عن أعين الناس، لكن وسط هذه العزلة، كان هناك بصيص من النور، يتمثل في دعم عائلتها، وخاصة والدتها، التي لم تتوقف عن تذكيرها بأن الجمال الحقيقي ليس في الملامح، بل في الروح والقوة الداخلية. وبمرور الأيام، بدأت ذكرى تستعيد ثقتها بنفسها، وتتعلم كيف تتقبل التغيير الذي فرضته عليها الحياة، لم يكن الأمر سهلًا، لكن شيئًا فشيئًا، أدركت أنها أقوى مما ظنت، اليوم تحاول مشاركة قصتها مع الآخرين، تحذر الأطفال من خطورة الألعاب النارية، حتى لا يعيش أحد ما عاشته.
لحظة تهور
وقبل ست سنوات، في ليلة عيد كانت تعج بالألعاب النارية وصوت الفرح، لم يكن راشد الهديان، الذي كان يبلغ آنذاك 12 عامًا، يعلم أن لحظة واحدة ستترك أثرًا دائمًا في حياته، كان يقف بين أصدقائه في ساحة الحي، متحمسًا لمشاركة الفرحة معهم، يحمل في يده مفرقعة، ظنّ أنها مجرد لعبة بريئة مثل غيرها، بثقة طفل لا يدرك الخطر، أشعل الفتيل، لكنه لم يمهله طويلاً، بدلاً من أن تنطلق إلى السماء كما توقع، انفجرت بين يديه بقوة لم يتخيلها، تراجعت المجموعة مذعورة إلى الخلف، بينما راشد وقع على الأرض يصرخ من الألم، اللهب أحرق جزءًا من ذراعه، ويده اليمنى غُطيت بالدماء، هرع أحد الجيران إليه، وحمله بسرعة إلى المستشفى، حيث كانت الساعات التالية حاسمة، داخل غرفة الطوارئ، كان الأطباء يقيمون مدى الضرر، ووالداه يترقبان بقلق، الحروق كانت عميقة، والأعصاب في بعض أصابعه تضررت بشدة، وعلى الرغم من العمليات الجراحية والعلاج المكثف، فقد راشد جزءًا من حركة يده، ولم يعد قادرًا على استخدامها بنفس الطريقة التي كان عليها قبل اليوم، بعد ست سنوات ما زالت آثار تلك الليلة واضحة على يده، لكن الأثر الأكبر كان في نفسه، لم يعد العيد بالنسبة له مجرد لحظات مرح، بل تذكير دائم بتلك الليلة التي سرقت جزءًا من طفولته، في كل مرة يرى الأطفال يشعلون المفرقعات، يشعر بوخزة ألم، لكنه أيضًا يشعر بمسؤولية، أصبح يحذرهم من تجربة ما مرّ به، وينقل قصته ليؤكد أن لحظة تهور قد تغير حياة إنسان إلى الأبد.
خوف وعزلة
ولم تكن تعلم أم أسامة أن زيارة عائلية إلى منزل شقيقتها ستتحول إلى واحدة من أسوأ ليالي حياتها، كان الجميع يحتفل في فناء المنزل، والأطفال يركضون بفرح، بينما تضيء الألعاب النارية السماء، لكن في لحظة خاطفة، انقلب المشهد إلى كارثة، عندما أصيب ابنها أسامة -10 أعوام- إصابة خطيرة كادت أن تسرق بصره إلى الأبد، تحكي أم أسامة وتستعيد تفاصيل الحادث: "كنا نجتمع في بيت شقيقتي بمناسبة خاصة، وكان الأطفال يلهون في الخارج، فجأة، سمعت صرخة مدوية قطعت أصوات الضحك، خرجت مسرعة لأرى أسامة ساقطًا على الأرض، يصرخ من شدة الألم، ووجهه غارق في الدماء، لم استوعب ما حدث في البداية، لكن عندما رأيت بقايا الألعاب النارية بالقرب منه، شعرت أنني فقدت ابني في تلك اللحظة"، مضيفةً: "كان أحد الأطفال الأكبر سنًا يشعل لعبة نارية من النوع القاذف، لكنها انحرفت فجأة وانفجرت مباشرة في وجه أسامة، مشهد مروع، إحدى عينيه كانت منتفخة ومغلقة بالكامل، وجهه محترق، كان الجميع في حالة هلع، حملناه بسرعة إلى المستشفى، وأنا أشعر أن قلبي يكاد يتوقف"، وتابعت: "في قسم الطوارئ، جاء التشخيص صادمًا؛ حروق عميقة في الوجه، وتمزق في الجفن، وإصابة مباشرة في القرنية، مما يهدد بفقدانه البصر في إحدى عينيه، احتاج أسامة إلى تدخل طبي عاجل، وبدأ سلسلة من العمليات الجراحية الدقيقة في محاولة لإنقاذ عينه المصابة، لم أستطع التوقف عن البكاء، كنت أدعو الله أن أسمع من الطبيب أنه سيكون بخير، لكنه أخبرني أن الأمر يحتاج وقتًا، والعلاج قد لا يعيد له الرؤية بالكامل"، مشيرةً إلى أنه بعد الحادث، أصبح أسامة أكثر خوفًا وعزلة، يتجنب الضوضاء ويبتعد عن أي احتفالات.