بعد أسبوعين على بدء الهجوم الأوكراني المفاجئ داخل الأراضي الروسية، نجحت كييف في أخذ زمام المبادرة في الحرب، في مخاطرة خاضها الأوكرانيون بأوراق ضعيفة ونجاح غير مضمون على المدى الطويل، وبعدما كانت تراوح مكانها على الجبهة الجنوبية والجنوبية الشرقية في أراضيها، فاجأت كييف الجميع، بمن فيهم حلفاؤها، وقد أعلنت سيطرتها على 1250 كيلومترا مربعا و92 بلدة في الأراضي الروسية، في حين تؤكد موسكو أنّها "تصدّ هجماتها" بانتظام.
لكن التقدّم اليوم لا يعني الانتصار غدا.
وغداة الهجوم الأوكراني على كورسك، أشار البيت الأبيض إلى أنّه يريد معرفة المزيد عن أهداف كييف، ومنذ ذلك الحين، عملت كييف على شرح الأمر. وقال مستشار الرئاسة الأوكرانية ميخائيلو بودولياك، إنّ "أوكرانيا لا تريد احتلال الأرضي الروسية"، موضحا أنها تريد التفاوض "بشروطنا". وأضاف "إذا كنّا نتحدث عن مفاوضات محتملة، فسيتعيّن علينا جلب الروس إلى الجانب الآخر من الطاولة. بشروطنا". من جهته، وصف المدير الأكاديمي لمؤسسة البحر الأبيض المتوسّط للدراسات الاستراتيجية بيير رازو، الأمر بـ"مقامرة من أجل تبادل محتمل للأراضي التي تسيطر عليها أوكرانيا مقابل المناطق المحتلّة من قبل روسيا". أما الهدف الآخر للهجوم، فيتمثّل في "تدمير أكبر قدر ممكن من إمكانات الحرب الروسية... وإنشاء منطقة عازلة"، وفقا للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
فإذا، يتعلق الامر بأهداف كبيرة ووسائل صغيرة. وأمام كييف الكثير لتفعله على الجبهة الرئيسة، بينما توجّب عليها أيضا أن تبقي انتشارها في أراضيها. وفي هذا السياق، يشير بيير رازو إلى أنّ "أوكرانيا أرسلت إلى روسيا بضعة ألوية متنقّلة من احتياطها الاستراتيجي ووحدات ميكانيكية رئيسة مجهّزة بمعدّات غربية، بما في ذلك العديد من المركبات المدرّعة ذات العجلات". ويقول المؤرّخ العسكري ميشال غويا "يبدو أنّه بالإضافة إلى أسلوب التمويه وتشتيت القوات الكلاسيكي، تمكّن الأوكرانيون من تعمية جميع أجهزة الاستشعار الروسية أو جزء منها عن طريق الطائرات من دون طيار والحرب الإلكترونية وتسلّل الجنود". ويشير إلى أنّه في السادس من أغسطس، "اخترقت كييف الحدود في ستة مواقع من خلال استخدام عدد مماثل من الكتائب"، مضيفاً أنّ التقدّم كان سريعا ثمّ تباطأ. من جهتها، قالت وزارة الدفاع البريطانية "بعد حالة من الخوف وعدم التنظيم الأولية، انتشرت القوات الروسية... في المنطقة وبدأت ببناء مواقع دفاعية إضافية".
وممّا لا شك فيه أن عاملا ثانيا يميّز الحرب يتمثّل في ظهور جبهة جديدة. غير أنّ الجنرال الأسترالي المتقاعد ميك راين يرى أنّه "سيكون على هذا المعسكر أو ذاك أن يتخذ خيارا صعبا بشأن أولوياته"، معتبرا أن أيا من الطرفين لن يتمكّن من الالتزام بالأمرين لفترة طويلة. وفي هذا الإطار، بات من المؤكد أن كييف حقّقت نجاحا عملياتيا لا جدال فيه، ولكن فوائده لا تزال مجهولة في ظل استمرار موسكو في التقدّم ببطء في أوكرانيا. ويعترف فاسيلي كاشيني من المدرسة العليا للاقتصاد في روسيا بأنّ الأوكرانيين "وجّهوا ضربة سياسية قاسية لروسيا، وعزّزوا مكانتهم بالاستيلاء على مناطق مهمّة. لكنّهم لم يسيطروا على مواقع استراتيجية". بدوره، يستحضر بيير رازو الكلمة الأوكرانية الشهيرة "راسبوتيتسا" (Raspoutitsa) أو "زمن الطرق السيئة" الذي سيجعل الأرض غير قابلة للعبور في الخريف. ويوضح لوكالة فرانس برس أنّ المركبات المدرّعة ذات العجلات "فعّالة للغاية في الصيف في التنقّل والتحرّك للأمام. لكن مع المطر والثلج والطين، تصبح كابوسا لأنها تتعثّر". ويضيف أنّ موسكو "قد ترغب في السماح لها بالتقدّم، ثمّ محاولة تطويقها. وسيتمّ بعد ذلك تحييد الاحتياطي الاستراتيجي لأوكرانيا".
وتبقى الدول الغربية حذرة بشكل ملحوظ. وتبدو قلقة بدرجات متفاوتة من استخدام أسلحتها في روسيا، ومن رؤية موسكو تبالغ في ردّ فعلها. واستغرق الأمر الرئيس الأميركي جو بايدن أسبوعا قبل أن يعلّق على التحرّك الأوكراني، مشيدا بالعملية التي "خلقت معضلة حقيقية" أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كذلك، أكّدت وسائل إعلام بريطانيا أن أوكرانيا تستخدم دبابات "شالجنر 2"، بعدما سمحت لها لندن باستخدام أسلحتها لاستهداف الأراضي الروسية، مع استثناء ملحوظ لصواريخ "ستورم شادو" بعيدة المدى.
من جهتها، لم تعلّق باريس على الأمر، إذ كانت منشغلة بالألعاب الأولمبية في موازاة شلل سياسي جراء عدم وجود حكومة منذ أن قام الرئيس إيمانويل ماكرون بحلّ الجمعية الوطنية.
أمّا بالنسبة إلى ألمانيا التي تسعى إلى إقرار تخفيضات اقتصادية في إطار موازنتها، فقد خفّضت مساعداتها العسكرية لكييف إلى النصف خلال السنة المقبلة (من 7,5 مليار يورو إلى أربعة مليارات).
وفي السياق، يقول ميك رايان إنّ "الهدف الأوكراني يتمثّل في إظهار أنّ النصر الروسي ليس حتميا". وبالتالي، فإنّ الخسائر التي لحقت بالقوات الروسية سيكون لها تأثيرها ضمن التقييم الغربي للعملية.
ولكن في ما هو أبعد من ذلك، لا يزال يتعيّن إثبات فائدة هذه المقامرة. ويحذّر راين قائلا "على الرغم من أهمية الهجوم على كورسك ومهارة تنفيذه، إلّا أنّه قد لا يغيّر خطط بوتين".
ومؤخرا أعلنت روسيا أن قواتها سيطرت على ما وصفته بالمركز اللوجستي الاستراتيجي المهم نيويورك في شرق أوكرانيا، في إطار حملة موسكو للسيطرة على منطقة دونيتسك بأكملها. وتسعى القوات الأوكرانية إلى التقدم في منطقة كورسك الروسية بعد هجوم مفاجئ عبر الحدود، لكن مصير نيويورك الذي لم يتم التأكد منه بشكل مستقل، يذكر بأن القوات الروسية ما زالت تمضي قدما في هجومها في شرق أوكرانيا.
وأعلنت روسيا بشكل منفصل عن تشكيل مجموعات عسكرية جديدة في كورسك ومنطقتين حدوديتين أخريين في محاولة لصد التوغل دون تحويل القوات من خطوط المواجهة في عمق أوكرانيا.
وقال وزير الدفاع أندريه بيلوسوف إن هيئة تنسيق جديدة بدأت "بالفعل" العمل على مدار الساعة للتنسيق بين السلطات الإقليمية وقادة القوات ووزارة الدفاع. لكن توقيت إعلانه، بعد أسبوعين كاملين من اقتحام القوات الأوكرانية للحدود الغربية لروسيا، يسلط الضوء على استجابة موسكو المتأخرة في التعامل مع الأمر. ولم يذكر لماذا لم يكن هذا التنسيق السلس ممكنا في السابق.
وقال القائد الأعلى للجيش الأوكراني أولكسندر سيرسكي إن قواته توغلت ما بين 28 و35 كيلومترا داخل الأراضي الروسية واستولت على 1263 كيلومترا مربعا من الأراضي بما يشمل 93 تجمعا سكنيا، وهي أرقام لم يتم التأكد منها من مصادر مستقلة. وتعهدت روسيا بسحق التوغل لكنها لم تظهر أي علامة على أنها تقترب من طرد القوات الأوكرانية.
ورفعت العملية الروح المعنوية لدى أوكرانيا، وتعتقد كييف أن الاستيلاء على أراض ووقوع أسرى روس في أيديها يعزز موقفها في أي مفاوضات محتملة. لكن محللين عسكريين مستقلين يقولون إن كييف خاطرت بسحب بعض وحداتها القتالية الأكثر فعالية بعيدا عن الدفاع عن خطوط المواجهة في شرق أوكرانيا، حيث تواصل روسيا تقدمها.
وفي حال تأكيد أوكرانيا سيطرة روسيا على مركز نيويورك فإنه قد يشكل نجاحا تدريجيا آخر لروسيا، وقد يفتح الباب أمام مكاسب محتملة مهمة استراتيجيا. فقد تعرضت نيويورك للدمار بسبب القصف العنيف الذي شنته القوات الروسية التي استخدمت طائرات مسيرة لطرد القوات الأوكرانية من المواقع المحصنة.
وتقع المدينة على خط السكك الحديدية المؤدي إلى سلوفيانسك، إحدى مدن دونيتسك التي تسعى موسكو منذ فترة طويلة للسيطرة عليها. وكان عدد سكان المدينة قبل الحرب نحو عشرة آلاف نسمة فر الآلاف منهم منذ ذلك الحين بسبب القتال.
ودونيتسك هي واحدة من أربع مناطق أوكرانية تقول روسيا إنها ضمتها رغم أنها لا تسيطر عليها بالكامل، وهو ادعاء بحق سيادة رفضته كييف والغرب باعتباره غير قانوني وتعهدت أوكرانيا بإلغائه بالقوة.
وقالت روسيا إنها استدعت دبلوماسية أمريكية كبيرة في موسكو للاحتجاج على ما وصفته "بتصرفات استفزازية" لصحفيين أميركيين عبروا الحدود من أوكرانيا إلى منطقة كورسك لتغطية الأحداث هناك.
وقالت وزارة الخارجية الروسية إنها احتجت أيضا على ما قالت إنها أدلة جديدة تظهر مشاركة شركات عسكرية أميركية خاصة في غزو أوكرانيا للأراضي الروسية، دون أن تذكر هذه الأدلة.