على مدى قرون ظلت دول العالم تتباهى بسفنها الحربية الضخمة التي تمخر عباب البحر حاملة الجنود والسلاح والطائرات أحياناً وتفرض الحصار البحري على الدول المعادية، ولكن يبدو أن هذا العصر قد قارب على النهاية بعد أن أصبحت تلك القطع البحرية الضخمة أهدافاً سهلة لأنظمة منع الوصول «المنطقة الممنوعة» «أيه2/أيه.دي» الصينية التي تستطيع تحييد هذه القطع الضخمة عالية التكلفة باستخدام صواريخ فرط صوتية وصواريخ مضادة للسفن. يقول براندون جيه وايشرت المحلل العسكري الأميركي والمحلل السابق في الكونغرس في تحليل نشرته مجلة «ناشونال إنتريست» الأميركية: إن السيطرة الأميركية البحرية باستخدام القطع الكبيرة مثل حاملات الطائرات أصبحت مهددة من جانب التكنولوجيا الصاروخية الجديدة. كما أظهرت الحرب الروسية الأوكرانية خاصة إغراق السفينة الروسية موسكوفا مدى إمكانية تعرض القطع البحرية الكبيرة للمخاطر الصاروخية الجديدة.  

وأضاف وايشرت أن اعتماد البحرية الأميركية على حاملات الطائرات والسفن الكبيرة أصبح عبئا، مع النمو السريع للقدرات البحرية الصينية، وبالتالي عليها إعطاء الأولوية للغواصات والسفن المسيرة غير المأهولة، محذرا من أن أي تخفيضات للإنفاق الأميركي والمخصصات المسبقة للأنظمة التقليدية تهدد جهود تعزيز أسطول الغواصات الأميركية وتطوير أنظمة مضادة للتهديدات الصينية. ويطرح وايشرت سؤالا عما إذا كان عصر حاملات الطائرات الأميركية انتهى في مواجهة الأنظمة الصينية المضادة؟

ويقول إن حاملات الطائرات تربعت على عرش القوات البحرية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، لكن الأمور تغيرت اليوم، لأن نمو الأنظمة الصاروخية المضادة للسفن، يعني انتهاء الأيام التي كانت تعتبر فيها السفن العنصر الأساسي للقوة البحرية المسيطرة.

فتكلفة بناء حاملة الطائرات من نوعية «الحاملة فورد» الأحدث في الولايات المتحدة تبلغ حوالي 13 مليار دولار إلى جانب مئات الملايين من الدولارات سنويا للصيانة. كما أن الحاملات من فئة نيمتيز الأقدم من فئة فورد مكلفة للغاية أيضا. والمعروف أن حاملة الطائرات عبارة عن قطعة بحرية ضخمة ومعقدة، وتعمل كقاعدة جوية متحركة للعمل بالقرب من أراضي العدو لتهديده بشن ضربات جوية دقيقة ومتزامنة. في المقابل فإن أي صاروخ صيني طراز دونج فينج 26 بي يمكنه إما إغراقها أو على الأقل تدمير منطقة الطائرات المقاتلة عليها وبالتالي تصبح هذه الحاملة غير مفيدة في المعركة.

ورغم ذلك فإن حاملات الطائرات هي الوسيلة الأساسية لاستعراض القوة الأميركية. وغيابها أو الحد من وجودها يخلف فجوة حرجة في القدرات العسكرية للولايات المتحدة، وهي فجوة استراتيجية يمكن لمنافس مثل الصين أن يستغلها بسهولة، بحسب وايشرت مؤلف كتاب «كسب الفضاء: كيف تظل أميركا قوة عظمى» والكتاب تحت الطبع «كارثة من صنعنا- كيف خسر الغرب أوكرانيا».

والحقيقة أن خطر القدرات الصينية المضادة للسفن لا يهدد فقط حاملات الطائرات وإنما القطع البحرية السطحية الأخرى. فالقوات الصينية تطور مجموعة متنامية من الأسلحة الفرط صوتية التي تعتزم إطلاقها على أي سفن أميركية قادمة. وبغض النظر عن الأنظمة الدفاعية التي تمتلكها هذه القطع الحربية ضد الصواريخ التقليدية المضادة للسفن، فإنه لا توجد حتى الآن تدابير مضادة معروفة على السفن الحربية الأميركية للحماية من هذه الصواريخ الفرط صوتية الجديدة.

وشهد العالم بالفعل المخاطر غير المتكافئة التي تتعرض لها السفن الحربية الكبيرة في حرب أوكرانيا. فقد أغرقت طائرة بدون طيار أوكرانية الطراد الحربي الروسي موسكفا من فئة سلافا، الرئيسي في الأسطول الروسي في البحر الأسود، في جنح الليل بينما كان لا يزال راسيا في الميناء. كما استهدفت هجمات مماثلة العديد من السفن الحربية الروسية الأخرى منذ غرق الطراد موسكفا. في المقابل لم تجد روسيا رغم كل ما رصدته من موارد لبناء أسطول أكبر من السفن السطحية ما يمكن أن تفعله في مواجهة التهديدات الجديدة.

لذلك يمكن القول: إن حرب أوكرانيا يجب أن تكون درساً لمخططي البحرية الأميركية خاصة فيما يتعلق بأي صراع محتمل مع الصين. ففي مثل هذا الصراع وبسبب العوامل الجغرافية، ستحتاج البحرية الأميركية إلى الأخذ بزمام القيادة. وستفعل البحرية الأميركية ذلك من خلال نشر حاملات الطائرات الضخمة لديها. في الوقت نفسه فإن القدرات الصينية في مجال الصواريخ المضادة للسفن تفوق تلك التي استخدمتها أوكرانيا ضد البحرية الروسية في البحر الأسود. يعني ذلك أن احتمال نجاح القدرات الصينية في تحييد القطع البحرية الأميركية الضخمة يبدو كبيرا. ولكن البحرية الأميركية ليس لديها حاليا خططا بديلة للتعامل مع الخطر الصيني الجديد.

ورغم أنه يمكن القول إن أسطول الغواصات الأميركي يمكن أن يكون مجديا في مواجهة احتمالات تحييد القطع البحرية الكبيرة، هناك مشكلات معقدة تواجه فاعلية الغواصات. أولى هذه المشكلات هي أن البحرية الأميركية ظلت لسنوات تقلل من أهمية أسطول الغواصات. ففي مشروع ميزانية العام المالي 2025 خفضت المخصصات المقترحة لقطاع الغواصات. أما المشكلة الثانية فتتعلق بعدم قدرة أحواض بناء السفن الأميركية التي عانت من الركود لسنوات، على تلبية الطلبات المتزايدة على الغواصات في الوقت الذي تعزز فيه الصين قواتها البحرية بسرعة.

ويرى وايشرت أن الغواصات تظل أصعب في الاصطياد من القطع البحرية السطحية الكبيرة. ولذلك على البحرية الأميركية التركيز على زيادة حجم أسطول الغواصات. في الوقت نفسه فإنه في عصر القدرات الصاروخية الصينية الجديدة، من الضروري امتلاك القدرة على خوض الحرب من مسافات بعيدة، وهو ما يعني ضرورة تفجير فقاعة أنظمة «أيه2/ أيه.دي» الصينية.

وبالإضافة إلى الغواصات، تحتاج البحرية الأميركية إلى ترسانة قوية من الطائرات بدون طيار والأسلحة الفرط صوتية لتدمير مواقع الأنظمة المضادة الصينية. لكن البحرية الأميركية لم تبدأ حتى الآن الاستثمار في هذه الأنظمة، وبدلا من ذلك تواصل وزارة الدفاع الأميركية شراء القطع البحرية الضخمة وحاملات الطائرات على أمل ألا تكون الأنظمة الصاروخية الصينية المضادة للسفن بنفس الفاعلية التي تدعيها بكين.

ورغم الخلافات، أعلنت بكين أنّ مسؤولين عسكريين كباراً من الصين والولايات المتحدة أجروا الثلاثاء مكالمة عبر الفيديو، في وقت يحاول فيه البلدان منذ العام الماضي الحفاظ على الحوار رغم التباعد بينهما. وقالت وزارة الدفاع الصينية في بيان إنّه «صباح 10 سبتمبر، أجرى وو يانان، رئيس قيادة المسرح الجنوبي لجيش التحرير الشعبي الصيني، مكالمة عبر الفيديو مع صامويل بابارو، رئيس القيادة العسكرية الأميركية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ». وأضافت أنّه خلال هذه المكالمة «تبادل الرجلان «وجهات النظر حول القضايا ذات الاهتمام المشترك». ويأتي هذا الحوار العسكري الرفيع المستوى بين الخصمين الجيوسياسيين في أعقاب زيارة قام بها في أواخر أغسطس مستشار الأمن القومي الأميركي إلى الصين والتي كانت أول زيارة من نوعها منذ 2016. وتعدّ التجارة واحدا من مجالات الخلاف العديدة بين القوتين العالميتين، إلى جانب التنافس في التكنولوجيا والتوترات في بحر الصين الجنوبي وكذلك ملف تايوان. لكنّ بكين وواشنطن تحاولان منذ العام الماضي مواصلة الحوار رغم الخلافات بينهما.

وبخصوص التلوث، ناقش مفاوضون أميركيون وصينيون الأهداف المشتركة المتمثلة في وضع حد لإزالة الغابات والتلوث القوي، الذي يتسبب في الاحتباس الحراري خلال محادثات استمرت ثلاثة أيام في بكين. واستهدفت المناقشات بين أكبر دولتين في العالم من حيث انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري المساعدة في تحقيق تقدم بشأن تغير المناخ قبل قمة الأمم المتحدة للمناخ «كوب 29» في أذربيجان في نوفمبر المقبل وتحفيز الطموح مع وضع دول العالم أهدافا جديدة لـعام 2035 لخفض ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى المسببة للاحتباس الحراري.

التكنولوجيا الجديدة تهدد سيطرة واشنطن البحرية