تظل الانتخابات الأميركية دوماً عصيةً على التجاهل، لما لها من تداعيات وانعكاسات تلقي بظلالها على كل شيء في هذا العالم خاصةً منطقة الشرق الأوسط، ولا أدلّ على ذلك من حجم الضربة الإسرائيلية لدولة إيران التي نفذتها إسرائيل قبل أيام، بعد نحو شهر من التهديد والوعيد برد انتقامي مزلزل وتأثير الضغوط الأميركية في تحجيم هذا الرد وتجنب المنشآت النووية والنفطية الإيرانية، والذي باعتقادي يكشف عن قرار أميركي بترحيل التصعيد من عدمه بالمنطقة إلى ما بعد الانتخابات.

شعور بالحيرة

والأمر اللافت هذه المرة في الانتخابات الرئاسية الأميركية وهي تدخل منعطفها الأخير، إذ بعد أيام قلائل سيحسم الجدل حول ساكن البيت الأبيض الجديد، أنها من المرات القلائل التي يشعر فيها المواطن العربي بالحيرة تجاه من يتمناه فائزاً في هذه الانتخابات، فالمرشحان بالنسبة له كما يبدو بالغا السوء، كما أنها الانتخابات الأكثر تقاربًا فيما يخص حظوظ الطرفين المتنافسين في الفوز بالمقعد الرئاسي، فلا أحد من المرشحين سواء الجمهوري دونالد ترمب أو الديمقراطية كامالا هاريس يعد واثقاً أو يمكن الجزم بانتصاره، وأكثر استطلاعات الرأي الموثوقة لا تشير إلى تقدم حاسم لأحد الطرفين بل إن التفاوت بينهما بالعديد من استطلاعات الرأي قد لا يتجاوز 1 بالمئة بالتناوب بينهما.

ولعل هذا يعود بالأساس إلى الوضع الداخلي للولايات المتحدة، إذ يعيش المواطن الأميركي لحظة تاريخية متوترة، في ظل انقسام حاد يسود المجتمع الأميركي، برزت ملامحه في الانتخابات الأميركية التي جرت في 2016، ثم ازدادت حدّة الاستقطاب عاماً بعد آخر حتى وصلت للوضع الحالي بين أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب والمناصرين للرئيس الحالي جو بايدن ولنائبته كامالا هاريس بالتبعية، ولعلنا لا ننسى أن صعود بايدن إلى البيت الأبيض بالأساس جاء مدفوعًا بالاستياء من إدارة جائحة كورونا، وهو الأمر الذي أثر بشكل عميق على تصورات الأميركيين حول القدرة على إدارة الأزمات المحلية منها والعالمية، سواء بالنسبة لبايدن أو لترمب.

وهنا تلعب وسائل الإعلام الأميركية التقليدية دوراً رئيسا في تسليط الضوء غالبًا على القضايا المحلية الاجتماعية المثيرة للجدل، مثل الإجهاض والهجرة والتضخم، فيما تبقى قضايا هامة مثل الدين الفيدرالي المتزايد والفقر والجريمة والفجوة الاجتماعية المتزايدة في طي النسيان رغم تأثيرها العميق على حياة الأميركيين. ولا ننسى كذلك دور السياسة الخارجية وتأثيرها على الناخبين، بما في ذلك الناخبون العرب الأميركيون الذين يسيرون على حبل مشدود بين الهويات والانتماءات.

والآن سيراهن ترمب على ما راهن عليه بايدن في انتخابات 2020 حين استغل بايدن إخفاق الرئيس ترمب في إدارة ملف جائحة كورونا وتدهور الاقتصاد وما نتج عنه من فقدان الآلاف من الشعب الأميركي لوظائفهم وارتفاع نسبة طالبي الإعانات لكسب الانتخابات وهو ما حدث بالفعل حينها، ولعل الفرصة مواتية الآن لترمب لرد الصفعة، مستغلاً فشل الإدارة الخارجية لإدارة بايدن في العديد من الملفات وتأثير ذلك على الداخل الأميركي، لذا فإن كان ترمب يمثل تهديداً حقيقياً على الديمقراطية الأميركية بنظر عدد من النخبة الأميركية فإن كامالا هاريس تحصد نتائج فشل السياسات الأميركية الخارجية تحت إدارة بايدن وتأثير ذلك على الاقتصاد والضغط على المواطن الأميركي، ما يهدد بخسارتها للانتخابات في مقابل شعبوية ترمب وخطاباته الرنانة المؤثرة في المواطن الأميركي العادي، فقد أقحمت السياسة الخارجية الأميركية في السنوات الأربع الماضية نفسها في مواقف معقدة كانت هي عنصراً رئيساً في احتدامها، ما بين صراع ممتد داخل أوكرانيا في مواجهة روسيا، ما دفع بأوروبا كلها إلى حافة الهاوية وتجلت تأثيراته في معاناة حلفاء أميركا في أوروبا من ارتفاع أسعار الطاقة وأزمة اللاجئين، مما زاد الضغط على الحكومات الأوروبية للتواصل بفعالية مع واشنطن، وكذلك تصاعد الأزمة في غزة ثم في جنوب لبنان والآن نحو إيران والدعم الأميركي اللامحدود لإسرائيل بشكل فج أثار حتى مشاعر العامة في الولايات المتحدة وأخيراً ما تنذر به الأحداث الحالية من إمكانية توسع الحرب في منطقة الشرق الأوسط.

لذا تأتي مشاركة كامالا هاريس ممثلة السياسة الخارجية

الحزب الديمقراطي والنائبة الحالية للرئيس الأميركي في الصراع الانتخابي متأخرةً كثيراً وخطوةً أُجبر عليها الحزب نظراً لتراجع الحالة الصحية والذهنية للرئيس بايدن، أضف إلى ذلك عدم تمتعها بالشخصية الكاريزمية القادرة على إلهام من حولها، فضلاً عن الدعم الذي يحظى به ترمب من الرأي العام الإسرائيلي، وافتقادها دعم القيادات اليسارية والشابة بالحزب الذين شاركوا بالاحتجاجات الطلابية، كل ذلك سيجعل سيل الانتقادات لا يتوقف تجاه استمرارية السياسة الخارجية الحالية وتناقضها الصارخ، فهاريس التي أعلنت التزامها بمواصلة السياسة الخارجية لبايدن والتي لم تسفر عن نجاح في أوكرانيا أو غزة مع دعمها الثابت للمساعدات العسكرية لإسرائيل هي نفسها من أعلنت تأكيدها على إنهاء معاناة الفلسطينيين في غزة، ما شكّل تناقضاً حاداً وجعل محاولاتها للتواصل مع المجتمعات العربية الأميركية أقرب للفشل، وبالفعل صبّ ذلك في صالح ترمب الذي حصل خلال تجمع انتخابي أقيم السبت الماضي على تأييد عدد من القادة البارزين في المجتمع المسلم بولاية ميشيغان ذات التجمع العربي والإسلامي الأكبر في أميركا، وكل ذلك يكشف عن أن الموازنة بين الصراعات الداخلية والخارجية وبين المواقف الانتخابية تعد من الصعوبة بمكان في ظل الاستقطابية الحالية.

تداعيات محتملة

لا شك أن الانتخابات المقبلة تحمل تداعيات محتملة على العالم ككل، إذ يبحث كثيرون في كيفية إعادة تشكيل النظام السياسي العالمي، ويركز بعض النقاد على أن الولايات المتحدة لم تتعلّم من دروس الماضي، حيث إن أي خطأ في التقديرات من شأنه أن يؤثر على الاستقرار العالمي، ويجب أن نتذكر أن الرأسمالية المتوحشة في الولايات المتحدة تقوم على ما يؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية حول العالم وبالداخل الأميركي، ولعل الاستجابة السريعة من قبل الشوارع الغاضبة بسبب عدم تكافؤ الفرص بالداخل الأميركي تعد دليلاً على أن الهموم والأزمات المحلية تتوافق مع تقلبات السياسة الخارجية.

وأخيراً فإنه يمكن القول إن الانتخابات التي ستجرى خلال أيام قليلة لن تخص الشعب الأميركي فحسب، بل ستعكس اتجاهات عالمية وستحدد نتائجها ملامح المستقبَل الأميركي وكيفية التفاعل والتقاطع مع قضايا محلية وعالمية، في وقت تتجه فيه الأنظار إلى عواقب تلك الانتخابات على المشهد السياسي الدولي، ويبقى أن نرى كيف ستسهم الانتخابات المقبلة في صياغة المستقبل، وأياً كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية في 5 نوفمبر، فإن الآثار المترتبة على قارة كأوروبا ستكون كبيرة ما يحتم على أوروبا أن تضع استراتيجية جديدة في إدارة علاقاتها مع الولايات المتحدة، تكون قادرة على التعبير عن مصالحها الجماعية.

أيهما أفضل

أما بالنسبة للمنطقة العربية فيظل السؤال الأهم والأكثر تداولاً: أيُّ المرشحين أفضل لنا وأجدى؟ والحقيقة أنه سؤال يحتاج إلى تفصيلات لا يتسع لها هذا المقال، كونه يتصل بطريقة تعامل كل مرشح مع كل قضية من قضايا المنطقة على حدة، خاصةً وقد جربنا كلا الحزبين، وإن كان العرب والمسلمون يأخذون على إدارة بايدن لدعمه السافر لإسرائيل ومنحها الغطاء السياسي والعسكري للقيام بأكبر مذابح إبادة في العصر الحديث على مرأى ومسمع من العالم فإنه لم يخدم رئيس أميركي إسرائيل مثل ترمب الذي لم يأخذ يوماً أي اعتبار لا للفلسطينيين ولا لسيادتهم على الإطلاق حتى وهو يصوغ صفقة القرن أو يوقع قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس أو يعلن أن المستوطنات الاسرائيلية وتهجير الفلسطينيين غير مخالف للقانون الدولي، لذا فلا تعويل باعتقادي على أيٍّ من الطرفين ما لم تتغير المعطيات الحالية، بل يظل التعاون بين الدول العربية وعدم الانحياز إلى فريق ضد الآخر في نظري والتكامل فيما بيننا أمر ضروري، وذلك لإعطاء الأولوية للتنمية المستدامة وتجنب الصراعات التي قد تسفر عن أضرار أكثر من فوائدها ولا طائل من ورائها.

تحليل - د. تركي الفيصل الرشيد*