بفضل فوزه الساحق في الانتخابات الرئاسية الأميركية، أصبح بإمكان دونالد ترمب الآن أن يقول إن لديه تفويضاً شاملاً من قبل غالبية الأميركيين لتنفيذ أجندته على الصعيدين الخارجي والداخلي، والأمر الحاسم هنا بالنسبة لنا كمراقبين هو أن النتيجة التي أظهرتها الانتخابات تؤكد أنه لا ينبغي الرهان ضد المصلحة الذاتية، سواء بالنسبة للسياسيين أو للناخبين المستعدين لتجاهل أكثر الشخصيات عيباً على أمل أن يصلح مشاكلهم.

وعلى ما يبدو، فإن الحواجز التي قيدت ولاية ترمب الأولى، سواء على مستوى مجلس الشيوخ المعادي أو المعارضون له في الحزب الجمهوري، أو الخدمة العامة المكرسة لخدمة الأمة وليس الفرد إما قد أزيلت، أو أنها سترضخ قريباً لإرادته، ولا شك أن التداعيات العالمية لرئاسة ترمب الثانية الواثقة والمتحررة من القيود سوف تعتمد إلى حد كبير على مسار السياسة الخارجية الذي سيتبعه ومن يقرر تعيينه في المناصب الرئيسية، ومن بين هؤلاء، يتعين علينا أن نراقب من سيتم اختياره لتنفيذ أوامره ومن سيحل محله عندما يفقد حتما حظوته.

 تشمل القوائم الأولية للمرشحين المحتملين لإدارة ترمب أسماء نالت ثقة ترمب وتطلعه لأدائها المتوافق مع تطلعاته ومن المتوقع أن يطالب ترمب رجاله المعينين بالولاء الثابت، لأن له كل الفضل في عملهم، ولكن مع تقدمه في السن، فمن المرجح أيضا أن يعتمد عليهم بشكل كبير لتولي زمام المبادرة في توجيه السياسة الاستراتيجية، وهناك ثلاثة مسارات محتملة قد تتخذها إدارة ترمب لتغيير المشهد العالمي:

المسارالأول: أميركا أولاً، مع التسويات، ففي ظل تفاخر ترمب بقدراته كصانع سلام، فمن الممكن أن يعيد الولايات المتحدة إلى موقف الانعزالية والاستثنائية، بحيث لا تكون صديقا لأحد ولا عدوا لأحد، وقد يعني هذا إما الانسحاب الكامل من حلف شمال الأطلسي، أو جعل المساعدات الأمنية الأميركية مشروطة بالولاء عبر الأطلسي إلى الحد الذي يجعل أوروبا أسيرة لواشنطن، وقد يعني أيضًا، خفض الدعم للتحالفات الأميركية في آسيا والمحيط الهادئ، والمطالبة بمستويات أعلى من الإنفاق الدفاعي من شركائنا الأمنيين،وستكون هناك نظرة ناقدة لأي اتفاق قد يتطلب من واشنطن الالتزام بنصيب الأسد من الموارد،أو تقليص قدراتها العسكرية.

على سبيل المثال، بالنسبة لتحالف «أوكوس»، وهي اتفاقية أمنية ثلاثية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، تستهدف تطوير ونشر غواصات تعمل بالطاقة النووية، إضافة إلى تعزيز الوجود العسكري الغربي في منطقة المحيط الهادئ، ففي ظل هذه الاتفاقية الأمنية ستحرص أستراليا على انتزاع ضمانات باستمرار دعم البيت الأبيض، ويتضمن هذا شراء أستراليا للعديد من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية في أوائل ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين،بالإضافة إلى تبادل التكنولوجيا بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ومن المؤكد أن إدارة ترمب ستراقب هذه الصفقة عن كثب، على الرغم من الدعم القوي من الجمهوريين في الكونجرس ومجلس الشيوخ.

ومع ذلك، من المرجح أن يقدم ترمب تنازلات من أجل التوصل إلى موقف أكثر انعزالية، وسوف يكون من الضروري عقد صفقة كبرى مع روسيا، بعدما وعد بإنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة، وبالرغم من أن القوميين في روسيا يهللون لفوز ترمب، فإن إدارة بايدن تسارع حالياً للحصول على 6 مليارات دولار كمساعدات عسكرية لأوكرانيا قبل تسليم السلطة لترمب في يناير المقبل، وبالتالي، لا يستطيع الرئيس الجديد أن يعتمد على الفور على ضعف أوكرانيا كمقدمة لتسوية سلمية. وفي الأمد المتوسط، قد يتطلب الأمر عقد صفقة أخرى، ذلك أن حربا تجارية لا نهاية لها تقوم على فرض رسوم جمركية متبادلة سوف تدفع التضخم إلى الارتفاع في الولايات المتحدة، وتؤثر سلبا على قاعدة ترمب الانتخابية من العمال ذوي الياقات الزرقاء في المناطق الريفية،ومن المرجح أن يتضمن الاتفاق الذي يرعاه ترمب الاعتراف بالمكاسب الإقليمية الروسية في أوكرانيا منذ عام 2014، وتخفيف العقوبات بالكامل، وإعادة التأهيل الدولي الواسع النطاق لموسكو، ومن المؤكد أن هذا من شأنه أن يتضمن تقليص التزام الولايات المتحدة تجاه حلف شمال الأطلسي والتعهد بعدم السعي إلى مزيد من التوسع للحلف. من الممكن جداً أن يلعب ترمب على إعادة بعث الخلاف التاريخي بين روسيا والصين،وللبلدان تاريخ طويل من الصراع على الأراضي على طول حدودهما البرية الطويلة في سيبيريا،وكان هذا جزءاً من الانقسام الصيني السوفييتي في ستينيات القرن العشرين، والذي سبق انفتاح الولايات المتحدة على الصين في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون خلال السبعينيات. وعلى النقيض من نيكسون، يبدو أن ترمب عازم على إعادة ضبط العلاقات الأميركية مع موسكو وليس بكين، ورغم أنه من الصعب أن نتصور انقساماً مماثلاً بين موسكو وبكين اليوم، فإن رغبة ترمب الواضحة في استغلال هذا الخلاف التاريخي لصالح الولايات المتحدة أمر واقعي تماماً، ففي ظاهر الأمر، يبدو أن الرئيسان فلاديمير بوتين وشي جين بينغ، متقاربان إلى حد كبير، ولكن المتعمق أكثر في العلاقات الروسية الصينية يدرك أنها في المقام الأول علاقة بين زعيميهما الحاليين، وتفتقر إلى قدر كبير من العمق المؤسسي الذي تتمتع به التحالفات الأخرى، وهذا مايحاول ترمب الاستفادة منه.

أما المسار الثاني الذي من المرجح أن يعتمده ترمب في إعادة تشكيل التحالفات الدولية فهو: التوجه القوي نحو آسيا، ففي حين تتزايد الدعوات من جانب أنصار الرئيس الجديد لتبني نهج تصادمي مع الصين، إلى جانب إحباطه من حلفاء أميركا الأوروبيين، الذين يعتقد أنهم يستغلون الإنفاق الدفاعي الأميركي مجاناً، وكلا الأمرين يدفعه إلى التحول أكثر صوب آسيا، ولكن هذا الأمر يستلزم عقد صفقة أعمق مع موسكو، ولا ينبغي لهذه الصفقة أن تقتصر على إنهاء الحرب في أوكرانيا، بل يتعين أيضاً إبرام اتفاق أكثر شمولا لتقليص المواجهة بين واشنطن وموسكو، ورغم أنه ليس من المضمون أن يكون بوتين مستعداً لهذا الأمر، فإن ذلك سيحرر الموارد الأميركية لمواجهة الصين عسكريا، فضلا عن الاقتصاد.  من المؤكد أن إدارة ترمب الجديدة ستضم العديد من صقور الصين، الذين ظلوا يرددون لسنوات أن بكين تشكل أخطر تهديد للقوة الأميركية، ولكن هذا المسار سوف يتطلب التزاما قوياً من جانب ترمب، وسوف يتطلب ضمانات أمنية أكثر واقعية من جانب الولايات المتحدة لحلفائها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في مقابل التزامهم بالمساعدة في كبح جماح الصين، والاستعداد للمشاركة في أي صراع محتمل، وخاصة فيمايتعلق بتايوان، وإذا تخلى ترمب عن حلفاء أميركا في حلف شمال الأطلسي، فمن غير الواضح بعد كيف سينظر أقرب شركائها الآسيويين إلى التزامه بأمنهم أو قدرته على إدارة الأزمات في المنطقة. أما المسار الثالث، فهو السلام من خلال القوة، ومن خلاله يستلهم ترمب نهج الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان، في محاولة الحفاظ على التفوق العالمي للولايات المتحدة، بحيث تقود أميركا العالم، لكنها ستفعل ذلك بطريقة عملية، ومع حلفاء تتوافق مصالحهم مع مصالحها،ولا شك أن هذا مشروع ضخم ومكلف، إذ يتطلب إنفاقاً عسكرياً فلكياً، بالإضافة إلى الاستثمار في البحث والتطوير، وإعادة ترسيخ الهيمنة الأميركية في التكنولوجيات الحيوية ، وإيجاد حلول بديلة لسلاسل التوريد التي تهيمن عليها الصين حالياً.

وهذا يعني أيضاً مضاعفة المنافسة الاستراتيجية مع بكين، والاستعداد لتسليح الوكلاء، وليس الحلفاء فقط، للضغط على الصين، ولكن حتى هذا سيكون له حدود، وسوف يتم التدقيق أيضًا في كيفية تعامل ترمب مع بعض الدول، ففي الماضي، كان إعجابه الصريح بالزعيم الروسي فلاديمير بوتين، والزعيم الصيني شي جين بينغ، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أو تسبب في تردد شركاء أميركا، كما منع ترمب من تحقيق أهدافه.

الفوضى والتغيير

وسوف يؤدي أي من هذه المسارات إلى عدم الاستقرار وخيارات صعبة بالنسبة لشركاء أميركا، ومن المرجح أن يجعل بوتين ترمب يكسب أي سلام بشأن أوكرانيا من خلال رفض التفاوض حتى يمارس البيت الأبيض ضغوطاً كافية على كييف لحملها على الاستسلام، وسوف يكون السلام على الشروط الروسية هشاً، حيث يستلزم الأمر تنازلات أوكرانية مؤلمة، ويؤدي إلى حملات تمرد مريرة،ويضعف الأمن الأوروبي بشكل خطير. الآن تجد أوروبا نفسها عند مفترق طرق، إذ يتعين عليها أن تتحمل المسؤولية عن أمنها ودفاعها ضد روسيا التي استعادت قوتها، وأن تعمل بسرعة، وتنفق المزيد من الأموال على الدفاع،وتتغلب على جمودها المؤسسي المنهك، ومن شأن هذا أيضًا أن يؤدي إلى تسريع النظام الأمني الأوروبي الجديد الذي بدأ يتشكل بالفعل، حيث تشكل بولندا ودول البلطيق ودول الشمال الأوروبي والمملكة المتحدة الحواجز الرئيسية ضد روسيا.

وفي آسيا والمحيط الهادئ، سوف تؤدي التساؤلات حول التزام أميركا بضمانات الأمن إلى دفع سباقات التسلح المحلية وزيادة احتمالات انتشار الأسلحة النووية، وسوف تحتاج بلدان مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والفلبين إلى تكثيف الجهود للعمل معاً من دون الولايات المتحدة،وسيكون هذا أسهل بالنسبة لبعض الدول مقارنة بغيرها. والخلاصة أن الثقة والقيم المشتركة والالتزام بنظام مستقر قائم على القواعد ستؤدي إلى تعميق الشراكات الأمنية الأميركية، وعلى أقل تقدير، سوف يجعل ترمب الثاني أغلب حلفاء الولايات المتحدة حذرين في المستقبل المنظور، ولكن التحدي الأعظم على الإطلاق يكمن في كيفية امتصاص غضب ترمب وإثنائه عن مواصلة حملته الموعودة للانتقام من أعدائه الداخليين، وترحيل 11 مليون مهاجر، واستخدام تفويضه لترسيخ الشعبوية.

حلف الأطلسي يخشى فقدان الدعم الأميركي
الصين تبرز أمام الولايات المتحدة كمتفوق في سلاسل التوريد