منذ فوز الرئيس الأميركي السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترمب بانتخابات الرئاسة الأميركية التي أجريت يوم 5 نوفمبر الحالي، تتوالى التحليلات والتعليقات التي تحذر من تداعيات السياسات التي يتبناها ترمب على العالم في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية. وفي تحليل نشره موقع المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) البريطاني قال ديفيد لوبين الباحث البارز الزميل في برنامج الاقتصاد والتمويل العالمي بالمعهد إن الرئيس الأميركي المنتخب لديه مشكلة مع الدولار. ففي الشهور الأخيرة أوضح ترمب تفضيله الواضح لخفض قيمة العملة الأميركية لدعم تنافسية الصادرات الأميركية والمساهمة في خفض العجز التجاري الأميركي.
ورغم ذلك فإن الأسواق العالمية ترى أن سياسات ترمب ستؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع قيمة العملة الخضراء وليس خفضها. والخطر هو أن يؤدي استمرار تنامي قوة الدولار الذي ارتفع إلى مستويات مرتفعة للغاية أمام العملات الرئيسة في العالم إلى زيادة مخاطر حدوث اضطرابات مالية عالمية. والحقيقة أن الدولار سجل سلسلة تقلبات واضحة خلال العقود القليلة الماضية. وخلال الفترة من 2002 إلى 2011 على سبيل المثال تراجع سعر الدولار بنسبة 30% تقريبا مع حساب معدل التضخم وحجم التعاملات بحسب بيانات بنك التسويات الدولي. ولكن منذ 2011 وحتى الآن ارتفع الدولار إلى أعلى مستوياته منذ 1985. وخلال تلك العقود كان الدولار يعكس ميزان الحيوية الاقتصادية، فعندما يكون الاقتصاد الأميركي قويا نسبيا مقارنة بباقي اقتصادات العالم ترتفع قيمة الدولار، والعكس صحيح أيضا. وبعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في 2001، تحول ميزان الحيوية الاقتصادية بشكل حاسم بعيدًا عن الولايات المتحدة، لصالح الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة. كان العقد الأول من الألفية الثالثة، عقد طفرة السلع الأساسية حيث شهد أكبر وأطول فترة متصلة لزيادة أسعار السلع الأساسية في زمن الحرب منذ ما يقرب من 200 عام، حيث دعم الارتفاع المستمر في الاقتصاد الصيني نمو الناتج المحلي الإجمالي في جميع أنحاء العالم النامي. ونتيجة لذلك، تراجع الدولار.
ولكن بعد 2011 عاد ميزان الحيوية الاقتصادية لصالح الولايات المتحدة نتيجة عدة عوامل منها أزمة منطقة اليورو والفترة التالية لها وتباطؤ الاقتصاد الصيني. وكانت النتيجة ارتفاع قيمة الدولار. ومن المتوقع استمرار ميزان الحيوية الاقتصادية لصالح الولايات المتحدة في ظل استمرار الحالة الهشة للاقتصادين الأوروبي والصيني. وهناك عنصران آخران يشيران إلى استمرار ارتفاع سعر الدولار في فترة حكم ترمب الثانية.
العنصر الأول هو تأثيرات الرسوم الجمركية التي يعتزم ترمب فرضها على الواردات الأميركية على سعر الصرف. فعندما تفرض الولايات المتحدة رسوما على منتجات دولة أخرى، تتجه أسواق الصرف إلى بيع عملة تلك الدولة، وهو ما يدفعها للتراجع، حتى يتم تعويض الزيادة سعر منتجات تلك الدولة في السوق الأميركية نتيجة الرسوم الإضافية. ولعل هذا ما يفسر تراجع سعر اليوان الصيني بنسبة 10% في عام 2018 عندما فرض ترمب قيودا تجارية على الصين في يناير من ذلك العام.
العنصر الثاني هو إطار عمل الاقتصاد الكلي المنتظر أن يكشف عنه ترمب. فهو يريد تمديد تخفيضاته الضريبية التي أقرها في 2017 إلى ما بعد 2025، مع تبني سياسات مالية شديدة المرونة. لآن ازدهار الاقتصاد الأميركي سيؤدي إلى ضغوط تضخمية، تتوقع أسواق المال زيادة أسعار الفائدة الأميركية مجددا، وبالتالي سترتفع قيمة الدولار أمام العملات الأخرى.
ويقول ديفيد لوبين في تحليله إنه عندما يصبح سعر الدولار مرتفعا بصورة قابلة للاستمرار، ستظهر مشكلة جديدة وهي كيفية التعامل مع العملة الأعلى من قيمتها دون إثارة اضطرابات مالية كثيرة. وقد حدثت هذه المشكلة في أوائل 1985، عندما كان سعر الدولار مرتفعا بدرجة خطيرة. في ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة قادرة على دعوة شركائها التجاريين الذين اعتمدوا على المظلة الأمنية الأميركية وهي بريطانيا وألمانيا وفرنسا واليابان للتفاوض حول ما عرف باسم «اتفاق بلازا»، الذي نسق سلسلة تدخلات في سوق الصرف الأجنبي، مما سمح للدولار بالانخفاض بشكل مدروس.
لكن الأوضاع الدولية الآن تختلف تماما عما كان عليه الحال في عام 1985. كما أن رؤية ترمب المعلنة للعلاقات الخارجية، تقول إنه سيكون من الصعب على الولايات المتحدة ضمان خفض مدروس للدولار كما حدث قبل نحو 4 عقود. في الوقت نفسه فإنه بدون التخفيض التدريجي والمتفق عليه للدولار، يمكن أن يشهد العالم بدائل أكثر فوضوية. أحد هذه البدائل أن تقرر سوق الصرف بشكل مفاجئ أنها لم تعد لديها شهية امتلاك الأصول الدولارية باهظة الثمن، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تغييرات فوضوية وعنيفة في سوق الصرف الأجنبي. أما البديل الآخر فيتمثل في سعي ترمب نفسه لخفض قيمة الدولار. لكن أي من الطرق التي قد يستخدمها لتحقيق هذه الغاية مثل فرض قيود على مشتريات الأجانب من الأصول الأميركية أو الحد من استقلال مجلس الاحتياط الاتحادي (البنك المركزي) الأميركي ستقوض بشكل خطير المصداقية المالية الأميركية، وهو ما قد يؤدي مرة أخرى إلى نتائج فوضوية بالنسبة للاقتصاد العالمي ككل.
أخيرا، يمكن القول إن ترمب قد لا يكترث كثيرا بتحول الدولار إلى مصدر للاضطراب العالمي. ففي العام الماضي قال جيه.دي فانس نائب الرئيس الأميركي المنتخب إن دور الدولار كعملة احتياط عالمية يدعم استهلاك الأميركيين المفرط للسلع المستوردة غير المفيدة. ومن هذا المنظور قد ترى إدارة ترمب بعض الفوائد في انهيار الدولار. لكن من وجهة نظر بقية العالم، قد يكون مصير الدولار في ظل رئاسة ترمب الثانية خسارة للجميع، بحيث لا يصبح استمرار الدولار القوي ولا انخفاضه بصورة عشوائية مفيدا للاقتصاد العالمي.