تتطلع الشركات الآسيوية إلى سياسة ترمب الجديدة التي تقلل من القيود الأمنية على استثماراتها داخل الولايات المتحدة، مما يمهد الطريق أمام زيادة تدفقات رأس المال الأجنبي، وعلى الرغم من أن الرئيس الجديد لم يهدر أي وقت في الإشارة إلى أجندته الانعزالية «أميركا أولا»، ملمحاً إلى خطط لفرض رسوم جمركية تجارية على دول مثل: الصين وكندا والمكسيك، والتي يعتقد ترمب أنها تحمي أكبر اقتصاد في العالم، إلا أن الأمر الذي يشوبه الغموض هو كيف سيتعامل ترمب مع الاستثمار الأجنبي المباشر الذي وجه 5.4 تريليونات دولار إلى الولايات المتحدة في عام 2024، وهو ما يمثل قفزة بنسبة 50 % مقارنة بعام 2016، العام الذي سبق تنصيب ترمب لأول مرة رئيساً للولايات المتحدة، وللمقارنة، فإن شركات منطقة آسيا والمحيط الهادئ تستثمر قرابة 368 مليار دولار في الولايات المتحدة، بينما توجد لدى الشركات الأميركية حصة أكبر بكثير في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ما يزيد الطين بلة، هو ذلك القرار الذي اتخذه سلفه جو بايدن بمنع صفقة استحواذ بقيمة 15 مليار دولار بين شركتي نيبون ستيل، ويو إس ستيل، قبل أسابيع قليلة من انتهاء ولايته، مستشهداً بمخاوف أمنية غير محددة، وتشير هذه الخطوة إلى مدى تسييس الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، حتى مع تعزيز هذه الاستثمارات لآفاق الوظائف الجديدة والإنفاق الاستهلاكي والنمو الاقتصادي، والآن، يواجه بايدن دعوى قضائية من الشركتين في إطار جهودهما لإحياء عملية الاستحواذ.

في الوقت نفسه، لم يذكر ترمب بشكل مباشر الكيفية التي يعتزم بها التعامل مع صفقة نيبون ستيل والاستثمار الأجنبي المباشر بشكل عام في عدد لا يحصى من التصريحات التي أدلى بها خلال اليوم الأول من رئاسته، بما في ذلك إصدار أوامر لوزارة الخزانة الأميركية بوضع تدابير وقائية غير محددة ضد الدول التي تؤثر قواعدها الضريبية على الشركات الأميركية.

تدقيق الملكية الأجنبية

قبل توليه منصبه، عارض ترمب عملية الاستحواذ بشدة، لكنه استضاف شخصيًا ماسايوشي سون، رئيس شركة الاستثمار التكنولوجي العالمية سوفت بنك، للإعلان المشترك عن استثمار بقيمة 100 مليار دولار في صناعة الذكاء الاصطناعي الأميركية، والواقع، أن هناك تدقيقاً متزايداً على الملكية الأجنبية في القطاعات الاستراتيجية، على الرغم من أن هناك قطاعات معينة تحتاج الولايات المتحدة إلى زيادة الإنتاج المحلي فيها، إما لاعتبارات الأمن القومي، أو لأن زيادة الإنتاج المحلي تشكل أهمية مركزية للقدرة التنافسية للولايات المتحدة.، وقبل انتهاء ولاية الرئيس السابق، أعرب مسؤولون تنفيذيون ومستثمرون آسيويون عن عدم تصديقهم لقرار بايدن، مما دفع الشركتين إلى رفع دعويين قضائيتين زعمتا فيهما أن هذه الخطوة غير دستورية والسعي إلى تأخير عملية الاستحواذ حتى يونيو، وبينما يغضب شركاء الصلب المفترضون، تراقب الشركات في آسيا وأماكن أخرى عن كثب الخطوات التالية التي قد يتخذها ترمب بينما تدرس كيفية ضخ المزيد من الأموال في الاقتصاد الأميركي، ووفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن مكتب التحليل الاقتصادي الأميركي، فقد ارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر من آسيا إلى الولايات المتحدة بنسبة 60 %، أي تريليون دولار في عام 2024، مقارنة بعام 2016، متجاوزاً النمو البالغ 50 % في الاستثمار الأجنبي المباشر من جميع أنحاء العالم، مع جذب العديد من الشركات الأجنبية بسبب التوسع السكاني في أميركا والاستهلاك الكبير والاقتصاد القوي.

وتظل اليابان وحدها دولة استثمارية رائدة، حيث بلغت استثماراتها 688 مليار دولار في عام 2024، بزيادة تزيد على 60 % عن عام 2016، وفي الوقت نفسه، تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في الولايات المتحدة بنسبة 12 % خلال الفترة نفسها إلى 28 مليار دولار، وبعيداً عن المصير الذي ينتظر شركتي نيبون ستيل، وسوفت بنك، فقد استثمرت شركة صناعة السيارات اليابانية تويوتا 8 مليارات دولار إضافية في مصنع بطاريات في الولايات المتحدة، بينما تنفق شركة نيسين فودز هولدينجز أكثر من 200 مليون دولار لبناء أول مصنع جديد لها في أميركا منذ 50 عاماً، في حين أعلنت شركة ياكولت لصناعة المشروبات عن خطط لبناء مصنع باستثمارات تبلغ 400 مليون دولار.

مطلع هذا الأسبوع، أعلنت شركتا سوفت بنك، وأوبن إيه آي، عن خطط لإطلاق مشروع جديد للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة يسمى ستارجيت، منفصلاً عن الصفقة التي أعلن عنها سون، مؤسس سوفت بنك، مع ترمب، وتتطلع ستارجيت إلى إنفاق 100 مليار دولار في البنية التحتية التكنولوجية، وسوف تزيد إلى 500 مليار دولار على خلال السنوات الأربع المقبلة، مع مساهمات تمويلية من صندوق أبو ظبي الحكومي، و»إم جي إكس» وهي شركة إماراتية متخصصة في مجال التكنولوجيا، بالإضافة إلى شركة أوراكل الأميركية، التي تعد واحدة من أضخم شركات تقنية المعلومات بشكل عام وقواعد البيانات بشكل خاص.

في المجمل، اعتبر ممثلو الشركات الآسيوية أن حكم «نيبون ستيل» صفعة على الوجه، معللين ذلك بأن الأمر الرئاسي الذي أصدره بايدن عن وجود «دليل موثوق» على أن «نيبون ستيل» تشكل تهديداً للأمن القومي، لم يوضح ماهية هذا الدليل، والحقيقة، أن خطوة بايدن جاءت بعد عدة مراجعات للأمن القومي من قبل لجنة الاستثمار الأجنبي القوية في الولايات المتحدة (CFIUS)، والتي فشلت في التوصل إلى اتفاق بالإجماع لتمرير أو إحباط الصفقة، وهي لحظة نادرة الحدوث، وقد حققت لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة في 128 معاملة أجنبية في عام 2024، وسحبت حوالي 57 شركة معاملاتها المقترحة، تسع منها لأسباب تتعلق بالأمن القومي.

الحماية الأمنية الوطنية

عقب مشاركته في حفل تنصيب الرئيس ترمب، تحدث وزير الخارجية الياباني تاكيشي إيوايا، إلى الصحفيين، قائلاً: إنه أخبر نظيره الأميركي ماركو روبيو أن اليابان تنوي الاستمرار في ضخ الأموال في الاقتصاد الأميركي، ولكن، في ظل الغيوم التي تخيم على صفقة نيبون ستيل، فقد طلب من روبيو ضمانة بأن تبذل الإدارة الأميركية الجديدة جهودًا لتبديد المخاوف بشأن الاستثمار في الولايات المتحدة، ولا شك أن هذين المسارين من الحماية الاقتصادية مقابل الحماية الأمنية الوطنية سوف يصبحان أكثر تعقيداً وقد يصيران شيئاً واحداً.

وخلال السنوات الماضية، أنفقت لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، موارد متزايدة على مراجعة المعاملات المتعلقة بالصين، فيما أبدى ترمب مؤخراً تقبله لفكرة السماح لشركات صناعة السيارات الصينية بفتح مصانع في الولايات المتحدة، بدلاً من السماح للمصانع الصينية في المكسيك المجاورة بشحن السيارات إلى أميركا، وخلال رئاسة ترمب الأولى، تم توسيع نطاق سلطة لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة لتشمل معاملات العقارات وبعض الاستثمارات غير المسيطر عليها مثل البنية التحتية الحيوية أو البيانات الحساسة، خلال ولايته الأولى، مُنعت شركة أشباه المواصلات الصينيةLattice Semiconductor من شراء شركة تصنيع رقائق أميركية، كما أُمرت شركة التكنولوجيا الصينيةBeijing Shiji Information Technology بالتخلص من برنامج StayN Touch الأميركي المستند إلى السحابة.

ولكن، الحقيقة، هي أن النهج الأميركي المتمثل في منع صفقات معينة بسبب تهديده للأمن القومي يمتد إلى ما هو أبعد من الصين، وعلى سبيل المثال، مُنعت شركة برودكوم السنغافورية أيضاً من شراء شركة كوالكوم الأميركية المتخصصة في الرقائق الإلكترونية في عام 2018، والآن، علينا أن نراقب إلى أي مدى ستذهب الإدارة الأميركية في مجال الحماية التجارية، والبعض يراهن على حدوث انقسام ما داخل إدارة ترمب، حيث يشتبك أنصار حركة «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، وهي القاعدة الأساسية لدعم ترمب، والتي تريد موقفا أكثر صرامة تجاه جميع أشكال الهجرة، مع عمالقة التكنولوجيا بقيادة الرئيس التنفيذي لشركة تسلا إيلون ماسك بشأن تأشيرات العمال المهرة الأجانب.

في الوقت نفسه، ينتمي المرشح لمنصب وزير الخزانة سكوت بيسنت إلى القطاع المالي الخاص، وربما يعمل المستثمر البارز في صناديق التحوط، الذي سيتولى رئاسة لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة على إضفاء قدر أكبر من القدرة على التنبؤ بالطريقة التي يتم بها التعامل مع الاستثمار الأجنبي، وعلينا أن نراقب قرارات وزير الخزانة، حيث سيكون لهذه القرارات تأثير كبير على لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، وحينها سنعرف هل هذه القرارات تتجه نحو الحمائية أو أنها ستلتزم بأعذار الأمن القومي؟.

وفي المجمل، تتضافر كل هذه العوامل مجتمعة، لتضع شركة نيبون ستيل في مرمى النيران فيما يتصل بتعامل ترمب مع تقاطع الاستثمار الأجنبي المباشر مع المخاوف المتعلقة بالأمن القومي، وقد استسلمت الشركة اليابانية لمصيرها عندما منع الرئيس بايدن الصفقة، على الرغم من أنها المرة الأولى التي يصدر فيها رئيس أميركي أمرًا بوقف استحواذ شركة يابانية على شركة أميركية، ولا شك أن الشركات على مستوى العالم، ستراقب الاتجاه الذي سيتخذه ترمب إزاء هذه الصفقة، خاصة وأن الشركات الكبرى في الدول الحليفة لواشنطن تريد الاستثمار في الولايات المتحدة وتوظيف الأميركيين، لكن من حق هذه الشركات أن تتساءل عما إذا كانت ستعامل في عصر ترمب كشركاء أو كأدوات سياسية؟

تقرير: د. خالد رمضان