يشهد موسم العيد في المملكة، نشاطاً استهلاكياً غير مسبوق، حيث ينقض العديد من المواطنين والمقيمين على الأسواق والمحال التجارية لتلبية احتياجاتهم، متبعين تقاليد اجتماعية عميقة، ولكن ما يثير التساؤل هذا النهم الاستهلاكي الذي يزداد بشكل ملحوظ مع شهر رمضان والعيد، فما بين الأطعمة الفاخرة والحلويات المتنوعة، يظهر هدر غذائي يعكس فجوة بين الاستهلاك والاحتياج الحقيقي.

الظاهرة الاجتماعية لتراكم الأطعمة واستمرار العادات المفرطة، قد أسهمت في الخروج بأوزان زائدة، ومن ثم أصبحت هذه الظاهرة محط تساؤلات كبيرة تتعلق بترتيب أولوياتنا الاستهلاكية.

كان يجب أن يكون شهر رمضان والعيد فرصة لراغبي الإقلاع عن التدخين، ولمن يرغبون في انقاص أوزانهم بشكل نموذجي، بعيدًا عن الإسراف، فهو أيضًا فرصة للادخار وتحقيق توازن مالي بدلاً من الإفراط في النفقات، فالتحدي الكبير هو أن نصل الى المرحلة الروحانية الحقيقية للشهر التي تتمثل فيه القيم الدينية العميقة، مثل التواصل والعطاء والكرم، مع المحافظة على راحة ماكينات جهازنا الهضمي ورفاهيتنا البدنية.

في وقتٍ تسعى فيه المملكة الى تعزيز الوعي الاستهلاكي وترشيد النفقات، يبقى السؤال، هل نحتاج الى إعادة تقييم العلاقة بين العيد والعادات الاستهلاكية في مجتمعنا؟ وكيف يمكن لمجتمعنا أن يتعامل مع هذه المعضلة بين التقليد والاحتياج الفعلي؟

تزايد الاستهلاك بشكل غير مبرر

يلاحظ في كل عام، في شهر رمضان والعيد، تزايد غير مبرر في معدلات الاستهلاك بين الأفراد، ويشمل هذا النهم الاستهلاكي جميع جوانب الحياة، من شراء الأطعمة والمشروبات التي ربما لا تحتاج اليها الأسر او الأفراد، الى الإنفاق الزائد على الملابس والأدوات المنزلية وغيرها، رغم ان شهر العيد هو شهر العبادة والتقوى، الا ان الأسواق تزدحم بمختلف السلع بشكل غير طبيعي.

بين العادات الاجتماعية وروحانية الشهر

يعود الأمر الى تأثيرات العادات الاجتماعية في المملكة، حيث يجد الأفراد أنفسهم مدفوعين الى زيادة الإنفاق بسبب تقاليد شهر العيد التي تحتم التفاخر بإعداد موائد كبيرة، وهناك تأثير وسائل الإعلام والإعلانات التجارية التي تروج لمنتجات العيد الخاصة التي ترتبط بشكل وثيق بموائد كبيرة.

عند التدقيق في الأنماط الاستهلاكية، نجد ان العديد من الأسر تتخذ من العيد فرصة لشراء سلع قد لا تكون بحاجة لها عادة، بسبب العروض والتخفيضات التي تروج لها المحلات التجارية، وتظهر بعض الدراسات الاقتصادية الارتفاع في الطلب على المنتجات الاستهلاكية مع بداية شهر رمضان ليصل الى ذروته في أيام العيد.

من المهم ان نأخذ بعين الاعتبار ان هذه الظاهرة تتناقض مع رسائل شهر رمضان الحقيقية التي تدعو للتقشف والتفكير في ذوي الحاجة، فالنهم الاستهلاكي ليس فقط غير مبرر من الناحية المنطقية، بل قد يسهم في اضعاف رسائل التضامن والمساعدة المجتمعية، في الوقت الذي نحث فيه على الإنفاق في سبيل الله، نجد ان الكثيرين من الأسر ينفقون اموالاً طائلة على كماليات وموائد لا تسهم بشكل حقيقي في تعزيز الروح الاجتماعية لشهر رمضان والعيد.

قد يتجاوز النهم الاستهلاكي في العيد كونه مجرد سلوك اقتصادي ليكون سلوكاً نفسياً مرتبطاً بالشعور بالاحتياج الى «مظاهر» و»تفاصيل» الزخرفة المفرطة للمنازل وشراء الكثير من الأطعمة ليس فقط استجابة لحاجة مادية، بل قد يكون رغبة في التأكيد على الانتماء الى قيم اجتماعية او محاكاة لما يُشاهد في الإعلام؛ لتصبح هذه العادات جزءًا من الروتين الاجتماعي، حتى لو كان لا يرتبط بمفهوم القيم الدينية.

هدر الطعام.. والأرز بطل

يشكل هدر الطعام في المملكة قضية بيئية واقتصادية ملحة، ولا سيما خلال موسم العيد، وتشير الإحصاءات الى ان الأرز يتصدر قائمة الأطعمة الاكثر هدرًا بنسبة (34 %)، يليه الدقيق والخبز بنسبة (30 %)، والأمر الاكثر ازعاجًا هو ان كل فرد يُسهم سنويًا في هدر حوالي 15 كيلوجرامًا من الخبز، وهو رقم يعكس تبذيرًا غير مبرر للأغذية الأساسية.

يعد الأرز العنصر الأساسي في معظم الموائد السعودية، خاصة خلال شهر رمضان والعيد، اذ يتزايد الطلب عليه بشكل ملحوظ. لكن للأسف، تشهد الموائد المبالغة في تحضير كميات من الأرز تفوق احتياجات الأفراد والعائلات، مما يؤدي الى هدره بعد الوجبات.

وفيما يتعلق بالخبز، الذي يعد من العناصر الرئيسة على المائدة السعودية لكنه يُهدر بشكل كبير، وقد يعود السبب الى وجود فائض غير ضروري في عدد الأرغفة التي يتم تحضيرها بشكل غير متناسب مع عدد أفراد الأسرة، وصولاً إلى مرحلة إتلاف كميات كبيرة منه، سواء بسبب جفافه او بسبب استهلاك كميات مفرطة من الطعام بشكل عام، وبالنسبة للدقيق، فان الاستهلاك المفرط للأطعمة المعتمدة عليه مثل المعجنات قد يسهم في زيادة هدره.

يعكس هذا الهدر نقصًا في الوعي بالاحتياجات الحقيقية للأسرة وتقدير نعمة الطعام، ففي الوقت الذي يُهدر فيه كميات ضخمة من الأرز والخبز، يعاني آخرون من شح في الموارد الغذائية، وبالتالي يكون من الأهمية بمكان زيادة الوعي في المجتمع حول سُبل تقليل الفاقد، مثل تعديل سلوكيات الشراء والتحضير، والانتقال الى مفهوم «الاقتصاد الغذائي الرشيد».

الرجل أم المراة؟

في الغالب يكون الرجل في المجتمع السعودي هو المسؤول عن شراء مستلزمات المنزل في بداية الشهر الكريم، وهذه المسؤولية تجعل سلوكه الاستهلاكي يميل الى شراء كميات كبيرة من المواد الغذائية على امل تلبية احتياجات الأسرة، وقد يكون هذا الهدر ناتجًا عن الرغبة في اظهار الكرم الاجتماعي، خصوصًا في الولائم والعزائم في العيد التي يتم تحضيرها للأهل والأصدقاء كما ان بعض الرجال قد يبالغون في شراء الأغذية، ليس بناءً على احتياجات الأسرة، بل على العادات المجتمعية التي تشجع على تقديم طعام اكثر من المطلوب.

من جهة اخرى، النساء عادةً ما يكون لديهن اهتمام اكبر بالتنوع والتفاصيل في الأطباق، الأمر الذي قد يؤدي الى تحضير وجبات كثيرة ومعقدة، مما يفضي الى هدر كميات كبيرة من الطعام، هذا الهدر قد يكون ايضًا ناتجًا عن المحاولة لإرضاء أفراد الأسرة من خلال تقديم مأكولات متنوعة.

إن الإسراف لا يرتبط بالجنس، بقدر ما يرتبط بالعادات الثقافية والمجتمعية السائدة، وفي المجتمع السعودي، يتم النظر الى اظهار الكرم في العيد على انه جزء من الأنا الاجتماعية، سواء كان هذا الكرم من الرجل او المراة، هذا الاتجاه الاجتماعي يشجع كلاً من الرجل والمراة على تحضير كميات طعام كبيرة، قد تفوق حاجة الأسرة الفعلية، وبالتالي يزيد الفاقد والهدر.

إحصاءات صادمة

تشير الإحصائيات الى ان نسبة الإنفاق الزائد في شهر رمضان والعيد تصل الى 46 % مقارنة بالأشهر الأخرى، وهو ما يعكس النمط الاستهلاكي المرتفع الذي يترافق مع زيادة الاستعدادات للعيد، سواء من حيث الطعام او الهدايا او الملابس، وتوجد دراسات تؤكد أن نسبة الإنفاق في شهر رمضان والعيد يماثل شهرين من أشهر السنة، هذا الإنفاق المفرط يُضاف الى الأعباء المادية التي يواجهها الكثيرون، مما يجعل من الضروري التفكير في طرق ترشيد هذا الاستهلاك خلال الشهر المبارك، ربما يعود ذلك الى رغبة الأسر في توفير كميات غذائية كافية، لكن دون مراعاة ان الفائض من هذه المواد الغذائية غالبًا ما ينتهي به الأمر الى الهدر.

وما يفاقم هذه الزيادة في الإنفاق، الاستعداد لعيد الفطر المبارك ويشمل ذلك شراء الملابس الجديدة، والهدايا، والمستلزمات الأخرى التي ترافق هذه المناسبة، وهذا ما يُفسر الزيادة بنسبة 57 % في الإنفاق خلال هذه الفترة.

الهدر الغذائي في العيد

يشهد موسم العيد ظاهرة مؤسفة تتمثل في الهدر الغذائي الكبير، وهو ما يعد تحديًا بيئياً واقتصاديًا وأخلاقياً، حيث تُلقى كميات ضخمة من الطعام في النفايات على الرغم من ان هناك العديد من الأسر التي تواجه صعوبات اقتصادية.

إن الهدر الغذائي في العيد لا يقتصر على الطعام الذي يُطهى ويُقدم في الوجبات الرئيسة فقط، بل يشمل ايضًا تلك الكميات التي يتم تحضيرها بتفاؤل مبالغ فيه، حيث يُفرط في شراء المواد الغذائية بشكل يفوق الحاجة الفعلية، وتشير الدراسات الى ان كميات كبيرة من الطعام تُهدر يوميًا في المنازل، خاصة في الولائم والعزائم الجماعية، اذ يتم تحضير كميات ضخمة من الطعام قد تفوق قدرة الأفراد على استهلاكها.

من الناحية الاقتصادية، يُعد الهدر الغذائي عبئاً كبيرًا على الاقتصاد المحلي، حيث يتم اهدار مليارات الريالات التي كانت يمكن ان تُوجه نحو تعزيز الاستهلاك الرشيد ودعم الأسر المحتاجة او تحسين أنماط الحياة للأفراد الاكثر فقراً.

لماذا تزيد أوزان المسلمين بعد العيد؟

رغم ان رمضان يعد شهرًا مباركًا للتقوى والتعبد، ويعتبر فرصة لتقليص الأعباء الغذائية والارتقاء بالروحانية، الا ان الكثير من المسلمين يشهدون زيادة ملحوظة في أوزانهم بعد انتهاء الشهر الفضيل، والسؤال المحير هنا هو، لماذا يحدث هذا رغم ان الشهر يُفترض ان يكون مناسبة للابتعاد عن الإسراف في الطعام وتنظيم العادات الغذائية؟

ويتطلع الكثيرون الى تناول الطعام بشكل مفرط خلال وجبتي الإفطار والسحور، هذا الإفراط في تناول الوجبات الغنية بالدهون والسكريات يمكن ان يؤدي الى زيادة الوزن بشكل كبير، فتناول الطعام بكثرة بعد الصيام الطويل يجعل الجسم يمتص المزيد من السعرات الحرارية بشكل اسرع مما يمكن ان يحرقه، إضافة إلى قلة الحركة والنشاط البدني، خاصة مع تغير مواعيد النوم والعمل، مما يؤدي الى قلة الحرق للطاقة وزيادة تخزين الدهون في الجسم، مما يسهم بشكل كبير في تراكم الدهون وزيادة الوزن.

بعد شهر كامل من الامتناع عن الطعام والشراب، يشعر كثير من الناس بان لديهم الحق في التمتع بما فاتهم خلال فترة الصوم، هذه الرغبة في «التعويض» تساهم في الإفراط في تناول الطعام بعد العيد، اضافة الى ان الاحتفالات والعزائم بعد العيد غالبًا ما تزدحم بالأطعمة ذات السعرات الحرارية العالية، إلى جانب الاختلالات في الهرمونات بعد الصيام، حيث تشير بعض الدراسات الى ان فترة الصيام الطويلة في العيد تؤثر على هرمونات الجسم، خصوصًا تلك المسؤولة عن الجوع والشبع مثل هرموني اللبتين والجريلين، وبعد العيد قد يحدث خللا مؤقتا في توازن هذه الهرمونات، مما يؤدي الى زيادة الشهية، وبالتالي زيادة استهلاك الطعام.

49 مليار ريال قيمة الفاقد والهدر الغذائي في المملكة