هناك أفكار تتولد ثم نشرع في كتابتها بعد أيام أو أسابيع، وحين يحل هذا الضيف أو هؤلاء الضيوف جميعًا يكون الكاتب أثناء لحظات الكتابة في عالم أرقى وأنقى من عالمه المحسوس، وقد أطلق عليه بعض المفسرين عالم «اللا وعي»، لكننا نطلق عليه عالم (السوبر وعي)؛ وهي تلك المنطقة التي لا يسمح بدخولها سوى للمبدعين فقط..

إن الاستلهام هو ذلك الضيف العزيز القلق، الذي لا يدع للنوم طريقا إلى الجفون، ولكن هذه الوقفات التي تسمى في علم النفس (ومضات الاستبصار) تحضر وكأنها تأتي من غياهب الغيب، يقول علماء النفس أنها تأتي بعد مرحلة الاختيار أي بعد اختيار الفكره، فالفكرة تأتي ثم تغيب في عالم اللا شعور، أوفي ما أسميه الصندوق الأسود وهو مخزن التراث ويطلق عليه في علم النفس"الإطار المرجعى".

في هذا العالم تقوم الفكرة بالتفاعل مع هذا التراث المخزون وتتحلل الى عواملها الأولية، وقد تأخذ هذه المدة فترات ليست محدودة وكأن الكاتب قد نسيها، فبين (الفكر والفكرة) عالم كبير. فالفكرة ميتة بينما الفكر هو ما يكسبها الحياة حينما تأتي ومضات الاستبصار، فتظل الفكرة كل هذه المدة حائرة قلقة حتى تفاجئنا كل أطر المسرحية في وقت واحد، فتصبح تلك الشخوص تبحث عن الوجود قلقة لا تدعك تنام.

فبرغم محاولات عديدة في كتابة الفكرة بلا جدوى نجد الشخوص والأمكنة والأزمنة هم من يصنعون أنفسهم فما عليك سوى الإمساك بالقلم وتمريره على الورق! حينما سُئل الكاتب الكبير نجيب محفوظ قال: "إن بين فكرة ميرمار وكتابتها ما يقرب من خمسين عاما".

إلا أن هناك أفكارا تتولد ثم نشرع في كتابتها بعد أيام أو أسابيع، وحين يحل هذا الضيف أو هؤلاء الضيوف جميعا يكون الكاتب أثناء لحظات الكتابة في عالم أرقى وأنقى من عالمه المحسوس، وقد أطلق عليه بعض المفسرين عالم "اللا وعي" لكننا نطلق عليه عالم (السوبر وعي) وهي تلك المنطقة التي لا يسمح بدخولها سوى للمبدعين فقط.

إن عالم السوبر وعي أشبه بلحظة الوصل لدى الصوفية مع اختلاف المفهوم بين عالم المبدع وعالم الصوفى، إن العلماء يطلقون عليها "الكوزووك مايند" أو العقل الكونى، وهناك لكل مبدع طريقته للوصول إلى هذا العالم.

عندما سألت الفنان التشكيلي صلاح طاهر -رحمه الله- أخبرني أنه يدخل في غرفة مظلمة ثم يقوم ببعض التمرينات الروحية التي تقترب من طقوس اليوغا الهندية، التأمل والاسترخاء ثم التفكير في اللا شيء حتى يشعر أنه ريشة طائرة في الكون ثم يقول: إذا استطعت السيطرة على هذه الحالة لمدة خمس دقائق كان ذلك رائعا وبعدها يدخل مرسمه.

وحين سألت الكاتب المسرحي الكبير الأزهر الحميد قال: إنني انظر إلى صورة ما ثم استمر في التركيز حتى تختفي هذه الصورة من أمام عيني، وهذا التمرين يطلق عليه اليابانيون رياضة "الزن" أو التأمل.

فالكاتب المسرحي أو الكاتب بوجه عام يجب أن يمسك القلم ويجلس يكتب كلاما قد لا يروق له، ولكن هذه الطريقة تعمل على تفتح الذهن وشحذ الموهبة واستدعاء عوالمه البعيدة، فهناك كتاب من أدعياء الكتابة يعولون انقطاعهم عن الكتابة على عدم توفر المزاج، لكن روجر سفيلد يقول في هذا الأمر: "إني فنان ولا بد للفنان من الشعور بعملية الخلق وهذه كلها حجج سخيفة وباطلة، فالشخص إذا كان كاتبا "حقا" لكتب وكتب كثيرا، وأمثال هذه الحجج التي ذكرناها هنا قد تكون حججا لها ما يسوغها بيد أنها في معظم الأحوال لا تزيد عن كونها محاولات لتسويغ عجز أصحابها عن الإنتاج المستمر الغزير".

وقد يعتري أحدنا هذا المزاج ولكنه يجب علينا البحث عن حل لها وإلا لما استطعنا إنتاج عمل واحد، ولذلك يقول سالف الذكر: "إن واجب أي الكاتب أن يعمل على تلافي الأسباب التي تعوقه عن مهمته الكتابية، وليس عليه أن يتلكأ ويماطل ويسوّف".

وتبقى هناك مشكلة تجييش الإلهام، قد نقوم بقراءة أي عمل، لا يكون متشابها على الإطلاق، لكنها عملية الاتصال وتجييش عوالم الشخصيات كما أنه يعمل على الاسترخاء وإزالة التوتر؛ ذلك الرقيب اللعين على ملكة الإبداع، فليس السبب في قراءة هذا العمل هو التأثر به أو البحث في عوالمه بقدر ما هو فتح متاريس أو السوبر وعي عالم الإبداع الحقيقى، وهناك من يصغي إلى إيقاع قطرات الماء المنتظمة عبر زمن ليس بالقليل. ثم إن الصلاة ركعتين وقراءة القرآن في خشوع تام تعملان على صفاء الذهن وتوقد القريحة، كما أن بعض الكتاب يمارسون رياضة المشي أو الرياضة البدنية لتفريغ تلك الطاقة الجسمانية، ومن هنا تنطلق الطاقة الروحية، فالكتابة هي من وجهة نظرنا طاقة روحية خلاقة، وفي هذا المجال يقول "نو بلوك"عن الطريقة التي استخدمها في كتابة مسرحية "قسمت" قال في كتابه "حول الغرفة" إنني أستيقظ كل يوم عند مطلع الفجر فأرتدي عباءتي العربية التي اشتريتها من تونس؛ ثم أؤدي ركعات خاشعة مما شرعه "محمد صلى الله عليه وسلم" وذلك قبل أن أشرع في عملي الكتابة، وقد يبدو هذا عملا من أعمال الحفلة فى نظر البعض بل هو كان يبدو لي كذلك.. ولا يزال حتى الآن.. بيد أني كنت أقوم بهذه العبادة الخاشعة بجد وإخلاص.. وكان مما لا بد منه أن تظفر تلك المسرحية بالنجاح وإلا لم يكن لي محيص من الإقلاع عن التفكير؛ أي تفكير في أن أصبح يوما ما كاتبا مسرحيا مرموقا معترفا به، لقد كنت ألتقي بنفس الجو أو المزاج النفسي الملائم؛ وكانت هذه الصلوات تعدني لعملي الكتابي اليومي، لقد كانت شعيرة لا بد منها لروحي لكي أباشر عملي من غير خوف ولا وجل، هذه تجربة لكاتب مسرحي شهير وغير المسلم، لكنه وجد في الصلوات رياضة روحية مستفيضة لتخليصه من قيود الطاقة المحسوسة، وليس من حقنا أن نصف للمبدع طقوسا أو إشارات يمارسها قبل عمله، ولكننا نشير هنا إلى استقصاء الدخول في عالم الإبداع واستثارة العواطف والمشاعر ودخول عالم الإلهام وهذا (أون ديفيز) في استعراضه للحياة الكتابية فيقول: "فإذا دق التليفون فلا ترد عليه؛ وإذا تمردت زوجتك وصخبت فطلقها".

وفي هذه المقولة نجد أن توفير جو من الهدوء والسكينة أهم لدى الكاتب من ذلك الرباط المقدس بين الزوج والزوجة. ذلك لأهمية تلك العواطف الجياشة إذا ما تدفقت فلا يعترضها أي عارض، حينها تكون الكتابة تفرض نفسها في القطار أو على مائدة الغذاء أو بين ثنيات المخدات الناعمة إنه ضيف عزيز ومقلق كما أسلفنا يجب الاحتفاء به.