هي أمر محتوم، ربما، بحكم التواجد في نفس المكان، والزمان، والمشاركة في نفس الاهتمامات، يحدث أن تنمو صداقة، عميقة، بعيدة عن التنافس والغيرة، المشاعر الإنسانية التي تقتل الصداقات والتي لا يخلو منها البشر.
الصداقة التي تتكون بين أبناء الفن الواحد، تثري الأصدقاء، لأنها تجعل الحوار الفني الذي بالضرورة يجمعهم طوال الوقت، يؤثر على الفن الذي ينتجانه. تبادل الآراء حول ما يدور في الساحة الفنية التي ينتميان إليها، زيارة المعارض، الاطلاع على تجارب الآخرين، كل ذلك يمنح الفنان زخماً قوياً يدفعه للمشاركة المستمرة أو على الأقل تبقي جذوة الفن مستعرة بشكل ما.
لا تعني الصداقة في الفن التشابه، أو التماهي أو حتى التأثر المباشر، يمكن لفنانين مختلفين في الاتجاه والتعبير أشد الاختلاف أن يكونا صديقين ويثري أحدهما تجربة الآخر بشكل غير مباشر، الحاجة إلى الآخر، إلى صديق يفهم ما تخوضه من حالة إبداعية، يفهم الجو والمعاناة وكل الأمور الأخرى التي تحيط بفنك منذ اللحظة التي تفكر فيها في الاستغراق في عمل فني، حتى يظهر إلى الوجود ويصل إلى الناس، كل هذه الخطوات تجعلك بحاجة إلى شاهد ما، إلى معين إن لم يكن بشكل مادي فعلى الأقل أو الأهم بشكل معنوي.
بالرغم من ذلك، فأنت لا تجد الكثير من هذه الصداقات، ربما لأن الفنان بطبيعته، في الغالب ذو شخصية صعبة، ليس ذلك تبريرًا أو محاولة تنميط، لكنها الحقيقة التي يعرفها حتى الفنان عن نفسه، مهما بدا وديعًا ورقيقًا، هو في النهاية شخص يعبد عزلته، وديكتاتور فيما يختص برؤيته لفنه، ومهما حاول أن يكون صداقات، يعود في أغلب الأحيان وحيدًا، أو موجودًا وسط الناس في علاقات سطحية لا تذهب بعيدًا في العمق.
كان ذلك حال فنسنت فان جوخ، الذي في رسالة إلى أخيه عبر عن هذه الحاجة إلى صديق، إلى شخص يثق به، وكلنا نعرف أنه لم ينجح في ذلك.
في الصداقات الفنية المعروفة في تاريخ الفن الحديث هناك صداقات جمعت بين فنانين مختلفين أشد الاختلاف على مستوى الفن والنظرة إلى الفن، فان جوخ نفسه ربطته صداقة جيدة بالفنان جوجان، لدرجة أنهما عاشا في نفس البيت فترة من الزمن، انتهت بخلاف كبير، لكن استمرّت المراسلات بينهما حتى وفاة فان جوخ.
أمثلة أخرى مشابهة ربما يتاح للقارئ أن يبحث عنها، هناك مثلاً الفنان دوشامب وسلفادور دالي، أو باسكيا واندي ورهول. لقاءات واختلافات. وطبيعة بشرية. وتجارب جميلة، وفي النهاية المنتصر هو الفن.