النظام ضرورة حضاريةٌ، وما زال الناس تتجدد لهم الحاجةُ إلى تطويره، وكلَّما زادت أهمية الدولة وقوتها ازدادت حاجتها إلى تحديث الأنظمة؛ لتكون مواكبة لدورة الحضارة، وملائمة لحياة الناس، وضامنةً للمجتمع العيشَ الكريمَ بإذن الله تعالى..

خلق الله تعالى الناسَ؛ لعبادته وليكونوا خلفاء في الأرض، يعمرونها ويُصلحونها، ولا تتمُّ عبادة الله تعالى ولا عمارة الأرض مع الانفلاتِ والفَوضى، بل كلٌّ منهما بحاجة إلى سيادة الانضباط وانتظام أمور الناس، وأن تكونَ للناس تتولى وزن المصالح والمفاسد بالمعايير المعتبرة؛ ولمركزية النظامِ وضروريته جعل الله العوالمَ المسخّرةَ لمصالحِ الناس منتظمةً بنسَق تقتضيه حكمته، فمن ذلك اختلافُ الليل والنهار بنظام معيّن، واختلاف فصول السنة، وانتظام الشمس والقمر، كما قال تعالى: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)، وانتظام هذه الكائناتِ ينعكس على شؤون الحياة، فللنَّهار ترتيبات ليس للّيلِ، ولكلِّ فصل من فصول السنة ترتيبات ليست لغيره، فبعض أنواع النظام مفروض على الإنسانِ بأمرٍ كونِيٍّ لا مَحيدَ عنه، والعاقل إذا تدبّر هذا أدرك أنَّه لم يُخلقْ هملاً، وأنَّ مصلحته تقتضي أن يمتنع في وقتٍ عما يفعلُه في وقت آخر، والإنسانُ أولَ ما يصل مرحلة التمييز يُدرك أنَّ الحياةَ لا تخضع لرغباته، ثم إذا وصل إلى مرحلة البلوغ والإصغاءِ إلى الأوامر الشرعية تبيَّنت له أهميةُ احترام النظام، ولي مع احترام النظام وقفات:

الأولى: التنظيم فريضة شرعية وحكمة إلهية، لا يصعب الإذعان له على من نظر بعين البصيرة، ومع أن قدرةَ اللهِ تعالى تسعُ أن يُوصلَ أوامرَه ونواهيَه إلى كلِّ إنسانٍ بشكلٍ خاصٍّ، إلا أن حكمته اقتضت أن يُرسِل إلى كل أمة رسولاً منهم يدلُّهم على ما يُرضي ربّهم، والفرائضُ الشرعية محكومةٌ بضوابط شرعيّة تمنع الفوضى فيها، فالصلاة والصوم والزكاة والحجُّ لها أوقات وشروط وواجبات ثابتة، كما أن إقامةَ شعائرها مسؤولية تنظيميَّة منوطةٌ بولاة الأمور ومن ينوب عنهم، فالإمامة والخطابة في الصلاة مسؤولية من وُلّي ذلك، والصّوم يوم يصومُ الناسُ برؤية معتمدة من الحاكم، وجمع الزكاة وتفريقها وظيفة الدولة، وموسم الحج يجري تحت قيادة من ولاه السلطانُ أمره، والحرمان الشريفان لهما حرمتهما، وتتأكد مراعاة الأنظمة الضامنة لسلاسة العبادة فيهما، هذا بالنسبة للعبادة، وأما شؤون الحياة فحاجة الناس فيها إلى النظام بدَهيّة، وهي نابعة من طبيعة البشر في المشاحّة والتدافع على المصالحِ، وما جُبِل عليه بعضهم من الشرّ الذي لا يزعُه إلا السلطانُ، هذا مع كون الأرزاق مقسومة بينهم، فيُعطى ذلك ما حُرِم منه الآخر من مال أو جاه، ويكون عند المحروم الاستعداد للاستيلاء على حقِّ غيره؛ ركوناً إلى ما يظنُّه مكسباً سهلاً، إلى غير ذلك من تعقيدات الحياة البشرية، ولا تستقيم الأمور إلا إذا خضع الجميع فيها للنظام، ومن نعم الله تعالى على عبادِه أن يحول بينهم وبين الفوضى بقيادةٍ ذات كفاءة، وله الحمد والمنة على ما أنعم به على بلادنا من قيادة قوية أمينة.

الثانية: التنظيم ليس تضييقاً، بل مآله التوسعة، والنظر إليه على أنه تضييق إما إن يكون ناشئاً عن قِصَر نظر وجهل بالحقائق أو تجاهُل لها، ولا أجد مثلاً لمن يفسّر النظام على أنه تضييق إلا من يفسِّرُ وخز إبرة الطبيب المعالج على أنها طعنة ظالمةٌ، وهذه النظرة القاصرة هي التي تُفضي ببعض المغرّرين إلى مزالقَ خطيرةٍ، ومن أكثر الأخطاء أن ينطوي الإنسانُ في قرارة نفسه على استثقال النظام وعدِّه تضييقاً، وأسوأ من هذا أن ينطلق لسانُه بذلك، وأن يسعى في أن يوصل هذه الفكرة إلى غيره من الناس، وكأن من يسعى في ذلك لا يهتم بالانشغال بعلاج العاهة الذهنية التي أصابته، وبدلاً من ذلك يحاولُ أن ينقل عدوى عاهتِه إلى الأصحَّاء المُمتّعينَ بالعافية، ولا غرابة في ذلك فالمعروف عن أهل الحقد والغلِّ أن الإضرارَ بالناس أهمُّ عند أحدهم من مصلحته، وبعضهم يفرحُ بزوال نعمةِ فلان أكثر من فرحه لو أعطِي مثل هذه النعمة، فعلى كل منا أن ينتبه لهذا، وأن لا يُصغِي إلى من يحرِّضُ على نظامِ الدولة؛ فما حرَّض عليه إلا سعياً في الشّر.

الثالثة: النظام ضرورة حضاريةٌ، وما زال الناس تتجدد لهم الحاجةُ إلى تطويره، وكلَّما زادت أهمية الدولة وقوتها ازدادت حاجتها إلى تحديث الأنظمة؛ لتكون مواكبة لدورة الحضارة، وملائمة لحياة الناس، وضامنةً للمجتمع العيشَ الكريمَ بإذن الله تعالى، وقيادة دولتنا المباركة المملكة العربية السعودية موفّقةٌ في سَنِّ مثل هذه الأنظمة، ورجالُ الدولة -بمختلف مستوياتهم ومجالات عملهم- لا يدَخرون جهداً في تطبيقها، ولا يمكن التشكيك في جهودهم وبراعتهم، وإذا أخلد الناس إلى الراحة بقيت أعينهم ساهرة، فمنهم من يخطّط، ومنهم من يُشرف، ومنهم من ينفّذُ، وليس عملهم من باب التَّشهَّي والارتجال، حاشا والله، بل هو دقيق يؤتي ثمراته المرجوَّة، وقد شهد بذلك القاصي والداني.