دولتنا -وفقها الله تعالى- لم تقصِّر في حراسة حقائقها، وحماية المجتمع من الأضرار الناتجة عن اتباع الوهم فيها، كما أنَّ هناك من يُسهم في هذه الحراسة بنشر المعلوماتِ الموثوقة، وهم جماعة من الغيورين على الوطنِ من أهل الاختصاصات المتنوّعة، وكلٌّ منهم عمدةٌ في تخصّصه، فلا ينبغي لمن أنعم اللهُ تعالى عليه بهذه الحقائق أن يسعى وراء الوهم..

الدنيا دار اختبار وعمل، ولا بدَّ فيها من مكابَدة المشاقّ، وما دام الإنسان عائشاً فيها فسيواجه تحدّياتٍ متنوِّعةً، من بينها الحاجة الضّروريَّةُ إلى التمييزِ بين الحقيقةِ والوهم، والموازنةِ بين المصلحة والمفسدةِ، والدنيا محفوفة بالمتضادَّات، والسلامة فيها وفي الدار الأخرى مرهونة بأن يبحث الإنسانُ عن الحقيقة، ويلتزم منها بما استطاعَ، وعن الوهم، ويتجنَّبه على حسب طاقته، وإذا توانى عن طلب الصواب، وتخبَّطَ في القناعة بالأوهام، فإن أبواب المتاعبِ مفتوحةٌ أمامه بحسبِ مستوى ما تركه من الحقيقةِ، وما اعْتَنَقَه من الأوهام، وقد أعذرَ اللهُ تعالى إلى الناس، فأرسل إليهم رسُلاً مبشِّرينَ ومنذِرين، يحملون الحق الذي لا تشوبه شائبة، وهو الفرقان الفاصل بين الحقائق الدينيّة وبين الأوهام التي يتمسّك بها من لم يهتدِ إلى تلك الحقيقة، كما أرشدَ اللهُ تعالى ابن آدم إلى ما فيه صلاحُ معيشته، فركَّب فيه عقلاً ومعرفةً يُميِّزُ بهما بين المنافع، والمضارِّ، فنشأت عن ذلك معارفُ علميّةٌ تخدم الإنسانيّة، كالطبِّ والهندسةِ وعلوم السياسة، وغيرها من المعارف الضروريّة لحفظ حياةِ الناسِ وعمارة الأرض، وإرساء الحضارات، وقد تطورت هذه المعارف تطوراً متنامياً بفضلِ الله تعالى، ومع أنَّ أثر هذه العلوم ملموسٌ في الواقع إلا أنها لم تنجُ من مندسِّين يروِّجون فيها أوهاماً زائفة، فلا بدَّ من التفرقة بين حقيقة كل معلومة فيها وبين تلك الأوهام، ولي في ذلك وقفات:

الأولى: الحقائق الدينيةُ راسخةٌ ثابتة، وقد قيَّض اللهُ تعالى لهذه الرسالةِ الخاتمةِ المهيمنةِ على ما قبلها من الشرائع من يحملُها ويحميها من تحريف الزائغين، وذلك منذ العهدِ الأول إلى يومنا هذا، فمهما حاول المتحزّبون وأهل البدعِ أن يُقحموا فيها ما ليس منها، فستبقى الحقيقة متميزةً عن الوهم، نعم للوهم فئاتٌ تتلقفه لأسبابٍ كثيرة، منها أن بعض الأوهام مؤسَّسة على نظريّاتٍ تُلبِّي بعض المطامع لمجموعةٍ من الناسِ، أو تمهّد الفرصةَ لأهل الحقد والحسد؛ ليصلوا إلى ما يتمنّونه من التشفّي من عِلية المجتمع؛ ولمثل هذا السبب يستقطب الخوارج والبغاة أغلب أتباعهم، فمنهم من ينضمُّ إليهم التماساً لمرغوباتٍ يُحسُّ بأنها تنقصه، ومنهم من ينضمُّ إليهم نكايةً بالمجتمع، ومن أسباب رواج الأوهام المنافية للحقيقة الدينيةِ اشتمالُها على نيلِ الثواب الجزيل بأعمال ميسورةٍ جدّاً، فيكون في ذلك تَفادٍ لمشقَّة التّكليف، وكثير من البدع والخرافات التي راجت في العصور المتأخرة من هذا القبيل، وهذا النوع من البدعِ جنايةٌ على الدين؛ لمنافاته صفاءَ التعبُّد، كما أنه يعود على الحياةِ بالضررِ البالغ؛ لأن رؤساء الجماعات الذين يروّجونه على أتباعهم إنما روّجوه؛ ليكون التابعُ رهنَ إشارة ما يسمى بالشيخِ والمرشدِ في كلِّ دقيقة وجليلةٍ، وهذا يصيب حياةَ الإنسانِ بالفشلِ التامِّ، بل هو نوعٌ من الخنوع لا يصلح به دينٌ ولا معاش.

الثانية: حقائق المصالح العامة منها ما يكلَّف كلُّ فرد من الرعيّةِ معرفتُه، ويجب عليه الالتزام به في كل حال وفي أيّ زمان، وهو تقديمُ سلطانٍ له الأمر والنهي، وإليه مقاليد البلاد، ويجب الوفاء بمقتضى بيعته الموجبة لطاعته وعدمِ منازعته هو ومن ينوب عنه فيما وكل إليهم من تسيير أمور الناس والنظر في مصالحهم، وهذا من الواجبات الشرعية الثابتة، وقد قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، وفي حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: (بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ) متفق عليه، ومن قال أو فعل ما يمسُّ بهذه الحقائق فهو واقع في الوهم، وإذا دعا إلى وهمه ذلك أو نشره بأي وسيلة، فقد صار تاجرَ أوهامٍ يجبُ الحذر منه وتركه لتبورَ بضاعته الضارّة، ومن حقائق المصالح العامّة ما معرفته منوطة بذوي الاختصاص والولاية، وذلك كالأنظمة والإجراءات التي تسيِّر أمورَ الدولة، وهذا شأن خاصٌّ بأهله، وكذلك السياسات المتبعة والموازنة بين المصالح والمفاسد، والدولة -أيدها الله تعالى- هي مصدر هذه الحقائق، ومن افتات عليها في شيء من ذلك، فهو واهم.

الثالثة: المصالح المتعلقة بالتخصصات في العلوم التطبيقية ونحوها لها أهل اختصاص هم مراجعها، وذلك كالمعلومات التفصيلية المتعلقة بالصحة وما يضرّها، والمتعلقة بالأموال وأسواقها، ونحو ذلك، فمن الغبن أن يغترَّ الإنسانُ فيها بما يُسوِّقه باعةُ الوهم الذين تعجُّ بهم وسائل التواصل الاجتماعي؛ لأن الدولة -وفقها الله تعالى- لم تقصِّر في حراسة حقائقها، وحماية المجتمع من الأضرار الناتجة عن اتباع الوهم فيها، كما أنَّ هناك من يُسهم في هذه الحراسة بنشر المعلوماتِ الموثوقة، وهم جماعة من الغيورين على الوطنِ من أهل الاختصاصات المتنوّعة، وكلٌّ منهم عمدةٌ في تخصّصه، فلا ينبغي لمن أنعم اللهُ تعالى عليه بهذه الحقائق أن يسعى وراء الوهم.