نحتاج تعليماً يرسخ القيم والسلوك الحضاري بالتطبيق لا الدروس النظرية التي تُنسى بعد أداء الاختبار مباشرة.. فكل تدريس يبنى على التلقين لن يعطي الطالب الأدوات التي تمكنه من المعرفة، وسيقتل فيه حسّ الفضول والرغبة في البحث والابتكار.. نريد تعليماً يطبق في المدرسة ما يجب أن يطبقه الطفل في بيته وفي الشارع، وفي كل مكان يوجد فيه..

العالم العربي أمام تحدّ حضاري وثقافي كبير، يبني الأبراج الشاهقة، والطرق السريعة، والمجمعات التجارية الكبيرة، والمصانع المنتجة، ويستقبل السائحين من مختلف دول العالم، لكنه يخفق كثيراً في سلوكه الحضاري، وبالأخص سلوكه في الشارع والعمل. يخالف أبسط الأنظمة، ولا يراعي حقوق السائق الآخر عند قيادته مركبته، ولا مانع لديه من تلويث المكان وترك مخلفاته في مكان عام، طالما أنها ليست في بيته. يعبث بالممتلكات العامة، ويلوث البيئة، ويقضي على الحياة الفطرية جهلاً منه وإهمالاً تعود عليه منذ صغره، التربية السليمة ضائعة بين البيت والمدرسة، فلا البيت يربّى ويتابع كما يجب، ولا المدارس تركز على ممارسة العادات الحميدة والسلوك الحضاري داخل فصولها وفي مناهجها، ممارسات خاطئة كثيرة ترتكب من مواطنين ووافدين تشوه كل جميل، وتعبث بكل منجز.. فما الحل؟

عند البحث عن الحلول علينا أن نبحث عن الحلول الناجعة والمجربة حتى وإن كانت النتائج بطيئة، وحين ننظر إلى الدول التي استطاعت أن تتقدم على جميع المستويات نجد أنها جعلت الأولوية للتربية والتعليم، واستثمرت في المعلم بصفة خاصة، وها هي سنغافورة المحدودة بمساحتها، ومصادرها الطبيعية، تصبح واحدة من أفضل دول العالم في دخل الفرد، ونظافة البلد، وانضباط السكان، ويعود السبب للقيادة الحكيمة والحازمة لمؤسسها "لي كوان يو"، الذي بنى كل مؤسساتها على أسس علمية، ومنها اهتمامه الخاص بالتعليم بمختلف مراحله، ومثلها فنلندا وكوريا الجنوبية وتايوان واليابان، شعوب متعلمة ومنضبطة، تنتج وتحترم الأنظمة، وأصبح الانضباط جزءا لا يتجزأ من ثقافتها، ولو حاول شخص أن يتعدى على النظام لنظر إليه الآخرون بازدراء.

كل أسرة تتمنى الخير لأولادها، وتأمل لهم حياة ناجحة وكريمة، ولذا تحرص على إرسالهم إلى المدارس كل صباح على أمل أن يحظوا بتعليم متميز يؤهلهم لمواجهة متطلبات الحياة الخاصة والعامة، يحمل الطفل في كل صباح الأمل، وحقيبة المدرسة، وخلفه تقف الأم والأب بكل إمكاناتهما لإنجاحه وتفوقه، فلماذا تنجح دول في زرع العادات الجميلة، وتخفق دول أخرى؟ أعتقد أن أهم الأسباب هي الآتي:

أولاً: المنزل هو الأساس لتربية ناجحة ومتوازنة، والأم هي أساس الأسرة الناجحة، وهي أساس نجاح الأطفال في دراستهم وتفوقهم، ومعظم المتفوقين في أخلاقهم، وفي العلوم والهندسة والطب كان لديهم أمهات حريصات على تربيتهم وتعليمهم، ومثال ذلك "بن كارسون" ذلك الطبيب المشهور في تخصص جراحة أعصاب الأطفال، وهو ابن خادمة تعمل في بيوت الأغنياء لتأمين العيش الكريم لأسرتها، وقد لاحظت تفوق أولاد الأغنياء في دراستهم، ووجدت أنهم يقضون الساعات كل يوم في القراءة الحرة بعد المدرسة، بينما يتسكع ابنها في الشوارع وبين القنوات التلفزيونية، ويحصل على درجات متدنية في مدرسته، حينها أجبرته على إقفال التلفزيون، وقراءة كتابين كل أسبوع، وطلبت منه كتابة تقرير عن كل كتاب يقرأه، وتحول الابن إلى قارئ نهم، وتفوق في جميع مراحل دراسته، ودخل الجامعة، ثم تخصص بالطب ليصبح واحداً من أمهر الأطباء في تخصصه، ومثل هذه الأم توجد أمهات كثيرات قدمن الكثير من الجهد والمتابعة والتواصل مع المدرسة من أجل تفوق أطفالهن وحسن تربتهم.. وصدق الشاعر حافظ إبراهيم حين قال:

الأم مدرسة إذا أعددتها .. أعددت شعباً طيب الأعراق

الأم روض إن تعهده الحيا .. بالرّي أورق أيما أوراقِ

وهذا لا يعفي الأب من دوره في زرع العادات الجميلة والقيم، فهو القدوة، ولديه القدرة على التربية والتعليم والتدريب وبناء الشخصية المتوازنة.

ثانياً: ليس أمامنا بعد البيت سوى المدرسة، نحتاج تعليما يرسخ القيم والسلوك الحضاري بالتطبيق لا الدروس النظرية التي تُنسى بعد أداء الاختبار مباشرة، فكل تدريس يبنى على التلقين لن يعطي الطالب الأدوات التي تمكنه من المعرفة، وسيقتل فيه حسّ الفضول والرغبة في البحث والابتكار، نريد تعليماً يطبق في المدرسة ما يجب أن يطبقه الطفل في بيته وفي الشارع، وفي كل مكان يوجد فيه.

وفي النهاية لا ننسى أن السلوك الحضاري بحاجة إلى مراقبة وتحرير مخالفات، كما هو في تجاوز السرعة وربط الحزام، فلولا تحرير المخالفات لما التزم البعض مهما سمع من الوعظ والتكرار.