تتناقل وسائل التواصل بين حين وآخر لقطات مصورة لفنانين تشكيليين يعيدون الحياة للبيوت القديمة المهجورة برؤاهم وتخيلاتهم، فتبدو لنا حياة شهية تتكئ على زوايا الصورة وتاريخ المكان، إذ تحمل جدارياتهم لنا صورة أخرى تنزع من تلك البيوت وحشتها وتمنحها حياة جديدة وعالماً آخر من الجمال والحضور، تلك البيوت التي باتت بجدران متساقطة نسيت أو تكاد ملامح حياتها الأولى، خاوية إلا من تذكر بعض أهلها حينما يرتادونها فقط لمراجعة أيامهم فيها بعد أن غادروها منذ عقود طويلة.

تلك اللقطات المتناقلة أخذت أستحضرها، وأرسمها في مخيلتي، ثم أفترض مثلها، بينما كنت أتجوّل في بعض قرى ينبع النخل التي استعادت جريان عيونها واستردت خضرتها وعصافيرها، وبقيت بيوتها الطينية خالية إلا من الوحشة وتقلّب الفصول على جدرانها المتسلّخة، وهي التي عايشت بعض تاريخها وصافحت في شوارعها المسالمة ظلال العابرين ووجوه الراحلين عنها.. اليوم جل تلك القرى ببيوتها الطينية تتوسط مجرى العيون التي باتت أحد معالم المنطقة السياحية، يرتادها السيّاح فيتهجّون فيها خارطة التاريخ القديم ثم لا يرون فيها إلا بيوتًا خاوية وهجرة مفزعة وحياة تكاد تنسى أيامها، وعلى الرغم من قيام أمانة المحافظة بالتعاون مع وزارة السياحة بترميم بعض معالمها كالمساجد التي تتوسط المزارع فيها إلا أنني تمنيت لو أن تلك اللقطات المشار إليها في وسائل التواصل كانت هناك تحتمل وتتحمّل التاريخ، فتمنح تلك «الأطلال» حياة أخرى من خلال الجداريات التي تفترض ما تريد تاريخًا ورؤية وحكاية، وفي ذلك إثراء للسياحة التي باتت تنشط فيها، تفتّش في ماضيها عن إنسانها القديم الذي غادرها بعد أن جفّت عيونها وهاجرت عصافيرها، وحين عادت تلك العيون وانتهت عصافير القرى من هجرتها القسرية وآبت إليها لم تجد ذلك الإنسان، الذي كان فيها.

إن مثل هذه الأعمال الإبداعية المتمثلة في الجداريات بحاجة إلى بيئة مناسبة ودعم مثمر، ولا شك أن مثل تلك القرى في كل مناطق المملكة على اختلاف ثقافاتها وحكايات أهلها تظل أرضًا خصبة للتجريب وخلق عوالم من الجمال تضيف لطبيعة تلك المناطق سحرًا آخر يستهدفه القادمون إليها بنية التذكر فقط، ففي ذلك إعمار رؤيوي لتلك البيوت البائسة، إذ ترى الحياة تستعيد ذاتها بالقرب منها بينما هي تتساقط كل يوم وتبقى عرضة للتذكر والحنين فقط.