كتبت مقالي في هذا الوقت من عام 2016، عندما تم انتخاب ترمب للمرة الأولى، حيث أشرت حينها إلى أن انتخاب هذه الشخصية غير العادية يعني أن هناك بوادر لتحول جوهري في أميركا. فالولايات المتحدة بدءًا من عام 2008، أي بعد أزمة الرهن العقاري الذي تطور إلى أزمة مالية - اقتصادية فيما بعد، بدأت تفقد السباق، وخاصة في عام 2009، عندما أصبح الاقتصاد الصيني ليس فقط ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وإنما أيضًا العربة التي تجر وراءها بقية عربات ذلك الاقتصاد. فمعدلات نمو الاقتصاد الصيني المرتفعة رغم تباطؤها في السنوات الأخيرة، تبقى ضمن أعلى معدلات النمو في العالم. وهذا حرك التكهنات حول مستقبل الاقتصاد العالمي، وإمكانية حلوله الاقتصاد الصيني، محل الاقتصاد الأميركي كأكبر اقتصاد في العالم. بل إن بعضها صار يحدد النصف الثاني من ثلاثينات العقد المقبل كتاريخ لهذا التحول، وهذا أمر لم تعتاد عليه الولايات المتحدة، التي كانت منذ الحرب العالمية الثانية هي أضخم اقتصاد على هذه المعمورة. 

وهكذا أسقط في يد الولايات المتحدة، التي أصبحت ابتداءً من 2008 في أمس الحاجة لاستجماع القوى، من أجل إعادة بناء اقتصادها وبنيتها التحتية المتآكلة من جديد. وأهم شيء تقليص نسبة الدين في الناتج المحلي الإجمالي، التي وصلت إلى أكثر من 122 %. فساعة الدين الفيدرالي الأميركي تشير إلى أن حجم هذا الدين قد وصل إلى مستوى تاريخي فلكي جديد 36 تريليون دولار، الأمر الذي يشكل عبئًا ضخمًا على الميزانية الأميركية، بحيث أصبحت خدمته تستحوذ على أكثر من 15% من نفقات الميزانية الأميركية.

ولذلك، فإن الولايات المتحدة، في حاجة لإعادة بناء اقتصادها، والتخلي ولو مؤقتاً عن لعب دور الشرطي العالمي والأمر والناهي لكافة بلدان العالم. فهذا الدور رغم العائد الذي يدره على واشنطن، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وخاصة غير المباشرة، الذي هو من الضخامة بحيث أصبح مغري جداً، إلا أن تكاليفه رغم ذلك باهظة لبلد يعاني الاقتصاد الكلي فيه من اختلالات كبيرة، بعد أن أصبح العجز فيه مكعب: عجز في الميزانية والحساب الجاري والميزان التجاري.

وعلى هذا الأساس، فإن أميركا اليوم، قد تكون منقسمة على نفسها، بين مواصلة دور الأمبراطورية التي لعبته منذ الحرب العالمية الثانية، وبين الانكفاء، والعودة إلى النفس، ولو مؤقتاً، ومحاولة إعادة بناء الاقتصاد من جديد، حتى لا تخسر السباق نحو الأولوية- حيث إن معظم التحليلات لا تزال تشير إلى أنها سوف تصبح اقتصادًا من الدرجة الثانية، وترجح حلول الصين مكانها خلال العقد القادم.

هذا هو التحدي الذي يواجه الرئيس الأميركي الجديد القديم، والذي ربما يحتاج إلى فترة ثالثة من أجل إعادة بناء بلده واقتصادها على أسس سليمة.