في قلب الزمان، حيث تمتدُ خيوط اللحظات متشابكة تختبئ الهمسات القديمة التي تناجي الأرواح، ترانيم القدر المحتوم تغني في صمت الرواحل عبر مسارات الأقدار. لقد كان الإيمان بالقدر، هذا اللغز الذي يغوص في تفاصيل الوجود، موضوع جلل يستحوذ على تأملات الفلاسفة والعارفين، يستلهمون منه أناشيد الحتمية والاختيار.

على صفحات الحياة، يُكتب لكل نفس سطورها الخاصة، كلمات مرصعة بأحرف مصيرها، فمنذ الأزل والأسئلة تدور حول ماهية القدر: هل هو مسيرة مرسومة بخطوط غيبية أم أنه رحلة ننسجها بإرادتنا وأعمالنا؟ لماذا نتأمل في القدر، وكيف نستطيع أن نستلهم من ترانيمه دلالات على فهم أعماق الحياة؟

لعلنا نبدأ رحلتنا مع ترانيم القدر المحتوم بمعزوفة البداية، تلك اللحظة التي تنفث فيها الأرواح لأول مرة، محملةً بكنوز الأقدار. تؤمن الحكم القديمة أن لكل روح مسار محدد يجب أن تجري عليه لتكتمل معزوفتها، ومع ذلك نجد حكايات تتغنى بحرية الاختيار وكيفية تشكيل الوجود بأيدينا.

القدر المحتوم فيه من الأسرار ما يحفز الروح على البحث، ولكل بحث طريقة المنير. ربما تعود بنا الذاكرة إلى زمان إبراهيم الخليل عليه السلام، حين أُلقي في النار وكتب الرحمن له الخروج سالمًا، تتعالى السردية وتشير إلى أن القدر المحتوم لا يقف عند حدود البشرية، بل يمتد ليشمل إرادة الخالق وأحكامه الحكيمة. هكذا، قد يظن الشخص أن لا مفر من القضاء حتى يأتي الفرج من حيث لا يتوقع.

تردد العزف على أوتار القدر في شعر العرب، حيث تتغنى القصائد بحكمة الأقدار وجبروتها، ويكتب المتنبي موشحاته العذبة عن كتاب الزمان الذي يفتح صفحاته لقراءة الأيام، المكتوبة -بالفعل- وسطور القدر. يشدو فكر الإنسان، أنه مهما امتلك من قوة وجلد، لا يمكنه فرض إرادته على المكتوب، ويظل القدر سرًا حُجبت عنه الإدراكات.

نسير على هدي الأنقياء ونسترشد تراتيل المفكرين ووميض العقول التي تبحر في محيط القدر، نستلهم من أمواجها العاتية دروسًا في الثبات والتوكل.

على شاطئ الوجود، وقف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- متأملاً في دوران الأيام، موقنًا بأن لكل ما قدر الله له حكمة، حتى وإن بدت الرسائل خافيةً على العقول.

يلهج السالكون بتسبيحات القدر، يرون في الإنسان مرائيَ لذلك السر المحتوم، يعتبرون بأن الحل يكمن في معانقة الأقدار مع الروح والقلب، تسليمًا ورضًى. يرون أن كل ما يحدث، حدث لسبب وبسبب، فالألم والفرح جناحان لطائر الحياة المحلق في سماء الوجود.

الحديث عن القدر المحتوم يطلق أنغامًا فلسفيةً تناقش مفهوم الإنسان كفاعل أساسي في مسرح الوجود، وهل هو بذلك مخير أو مسير، يتحمل المسؤولية عن اختياراته مع العلم أن هناك قوة عظمى توجّه سفينته.

ولا تفتأ الحياة تعزف ترانيمها لتظهر لنا نماذج من الشخصيات التي رافقت أدوارًا تبدو للعيان محتومةً، بينما يراها البصير عبرات لقدرة الإنسان على صنع الفارق، بإصراره وتحديه وقوة إرادته. فالقدر على إدراكه مسار، وعلى تقبّله تحديًا واحتفاءً بملحمة الوجود النابضة بعجائبها ودروسها.

لكل منا قصة، وفي كل قصة ترنيمة من ترانيم القدر المحتوم، يتراقص الكون على إيقاعها، فرغم غموض المستقبل وتعقيداته، نجد في أعماقنا بذرة الأمل، القدرة على النمو والتجاوز، وفي هذا البحر المتلاطم من الأسرار والمعاني، نتعلم كيف نجد في كل نشاز نغمةً تحملنا إلى شاطئ الغد الأرحب.

فصول تتعاقب والتاريخ يشهد، وتبقى ترانيم القدر المحتوم محفزةً للروح والفكر، تنسج من حبالها جسورًا بين الماضي والحاضر والمستقبل، تعلمنا أن نواجه مصائرنا بمزيج من الحكمة والشغف والاستكشاف، باحثين دومًا عن سر الحياة في طيات الغيب المحتوم.