يمكن وصف الأدب بالجنائي، أو القضائي، أو القانوني، غير أن الأدب الجنائي قد يكون أعم؛ لأن القضاء، أو القانون إنما هما ردّ فعل يأتي بعد الجناية؛ لذلك فالأدب الجنائي ينبع من الجنايات، وما ينبني عليها من المرافعات القضائية، والمسائل القانونية، والتحريات الأمنية، وما فيها من الاستجوابات، والتحقيقات، ونحوها؛ ولهذا أدخل الناقد الفرنسي (تودوروف 2017م) السرد في مخافر الشرطة، وأروقة المحاكم، عندما جعل الحكاية مادة قد تعتمد عليها المرافعات، واللوائح، والقوانين.
إن الأدب الجنائي هو كل نص أدبي ذي صلة بموضوعات الجناية، سواء أكان ذلك النص شعراً (شعر الحروب)، أم نثراً (أيام العرب)، وسواء أكان قديماً (بعض قصص ألف ليلة وليلة)، أم حديثاً (المجموعة القصصية: الجريمة، لنجيب محفوظ)، وسواء أكان مبدعه متخصّصاً في المجال القانوني، (قصص: الكود الوردي، لمحمد البيز)، أم غير متخصص (رواية: اغتيال صحافية، لفاطمة آل عمرو)، فالأدب في أكثر هذه الأعمال جنائيٌّ من حيث موضوعه، وليس من حيث واقعه، بمعنى أنه يصف الجريمة، أو يتحدث عنها، ولكن لا يمارسها، أو يدعو إليها؛ فالأدب فنّ جميل، ذو رسالة نبيلة، يسعى دائماً إلى الخير، وينشد الفضيلة، وينبذ الشر، وينأى عن الرذائل، والجرائم، ومن هنا قد لا يستقيم نعته بالجنائي صراحة، وإنما هو جنائيٌّ موضوعاً فحسب.
وإنما نعتنا الأدب بالجنائي؛ لننأى به عن لفظ الجريمة الصريح، أو (البوليسية) الأجنبي، ولنبيّن أنه يتناول موضوعات جنائية قد يصفها، أو يعالجها، أو يحذّر منها، أو يقدّم حلولاً في التعامل معها، أو يطرح أفكاراً لمواجهتها؛ لذلك رأينا أن هذا اللون من الأدب يسير وفق مسالك ثلاثة:
فأولها أن يكون موضوعه حاضراً في عنوان العمل الأدبي، كما في المجموعة القصصية (حافة الجريمة) لمحمد عبد الحليم عبدالله. وثانيها أن يكون موضوعه داخلاً ضمن نسيج العمل الأدبي، كأن يرد ضمن قصيدة بأكملها، أو مقطوعة شعرية بعينها، أو فصلٍ روائي، أو قصصي محدد، أو مقالة بأكملها، كرواية (براري الحمّى) لإبراهيم نصر الله. وثالثها أن يكون موضوعه عابراً، أو محدوداً، كما لو كان حدثاً سردياً ضمن مجموعة أحداث، أو وقع ضمن حوار يسير بين إحدى الشخصيات، أو جاء ضمن وصف عام شعري أو نثري، كما في رواية (يوميات نائب في الأرياف) لتوفيق الحكيم.
ويمكن أن نضيف مسلكاً رابعاً، وهو أن يكون الخطاب نابعاً من بيئة قضائية، أو قانونية، كأن يكتب قاضٍ، أو محامٍ، أو محققٌ نصّاً أدبياً، ويكون منطلقاً من القضاء، أو القانون، ويمكن أن نعد رسالة الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - في القضاء إلى أبي موسى الأشعري أنموذجاً فريداً لهذا المسلك، ومثلها التأليف في كتب القضاء، والقضاة، كما في كتاب (تاريخ قضاة الأندلس) لأبي الحسن علي بن عبد الله النباهي (792هـ)، وكل ما أبدعه القضاة، أو المحامون، أو القانونيون في مثل هذا النسق.
وفي الأدب العالمي نماذج كثيرة تمثل الأدب الجنائي، منها: رواية (الجريمة والعقاب)، للأديب الروسي (فيودور دوستويفيسكي 1881م)، وقصة (جرائم شارع مورغ) للأديب الأمريكي (إدغار آلان بو 1849م)، وغيرها، على أنه ينبغي التنبه إلى أنه بالإمكان دراسة تلك الأعمال وفق هذا الأدب من منظورات نقدية مختلفة، كالنقد السيميائي، والتداولي، والحجاجي، والثقافي، وهو ما قد يكون جديداً في هذا الباب.