مازلت على يقين تام في كل ملتقى شعري أو حتى لقاء عابر بصديق غاوٍ مثلي، أن القصيدة السعودية اليوم تتحرك في فضاءات جديدة تشبهها وحدها، وتخلق مساحاتها وعوالمها الخاصة برغم اكتنازها بإرثها التاريخي العظيم..

ولأن الشعر فعل ماضوي بطبيعته يتحرك في مساحة الماضي ليصلنا مدججًّا بقواعده وأعرافه، وما اتفق عليه فيه أو حتى ما اختُلف حوله، مع حقيقة أننا نحن دون غيرنا نحيا ونقيم في جغرافيته الأولى، حيث نقف مع شاعرنا الأول على أطلال راحليه لنبكي معه إلى آخر الأغنيات، إلا أننا وفي خضم أمسنا ذلك انتبهنا ليومنا كي نصنع منه أمسًا آخرَ مختلفًا يشبهنا وحدنا ثم نتركه لمن بعدنا، ولعل مرد هذه الرؤية كوننا نمتلك اليوم شعراء كثر لكل فضاءاته ولونه وتحليقه تجريبه ومغامراته فيها سواء جاء ذلك من خلال إعادة قراءة تاريخه بصورة عصرية أو حتى سرد اليومي الذي اكتظ بأحداث العابرين وجعل من هامشيتهم رؤى وقصائد شتى وبما يتماهى مع عاداتنا وأخلاقنا وأعرافنا وصيغة حياتنا الفكرية والاجتماعية وحتى الاقتصادية.. ولأن الحديث في هذا سينحاز حتما لنا ولست بأهل لحمل أعباء المحاججة فيه وهناك من هم أقدر مني على ذلك سأعرّج على نموذج نوعي لكل هذه المقدمة ممثلًا بقصيدة المتنبي للشاعر الصديق المدهش محمد خضر تلك التي ألقاها في الملتقى الشعري السادس بجازان الأسبوع الماضي وتحرّك خلالها في مساحة جديدة معنيّة بالتلقّي بعد كل هذه القرون التي عقبت رحيله عنا.. وهي مساحة عصرية يحضر فيها المتنبي بإرثه العظيم لا كشاعر اختلف عليه أو اتّفق، ولا بكونه مالئ الدنيا وشاغل الناس كما استدعوه جل شعراء العربية إن لم يكن كلهم من قبل، بل بكونه يحضر وفق ما نحن عليه على اختلاف وعينا.. بساطتنا ونخبويتنا.. جهلنا وإدراكنا، عمقنا وتفاهاتنا ثم يمضي معنا في طرقات مدينتنا هكذا كما تقول القصيدة:

«لم تكن تعلم أبدًا

أن أبياتك التي قرأتها في البلاط الحمداني

ستكتب بعد قرون

كخلفية لشاحنةٍ مُحمَّلة بالبطاطا

تسير على مهلها في طريق الحجاز السريع

كلماتك التي تضيء أكثر مع ضوء الكابح

«وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ..» .

هكذا يحضر المتنبي في مساحة عصرية جديدة تخرجه من قدسيّة التذكر إلى تذكر تلك القدسية ومكاشفتها بل وتعريتها بنص مفتوح التأويل يجمع بين نوايا السخرية وحقيقة الغواية الخالدة به، ومحمد خضر بذلك يعيد اكتشاف هذه الرمزية « الأيقونة» في الشعر العربي حين يتحرّك بها في مساحته الخاصة.. حيث مشاهداته وتأملاته ويومياته، وكأنه أول الخلق الذي ناموا في شوارد ذلك الجد الكبير حين سهر جرّاها كل الشعراء بعده..!