قد نجد في بعضها ما يشبهنا، لا بأس من التفاعل معه، أما أن نحاول التفاعل مع ما يناقض ملامحنا، ملامح تكويننا، وجيناتنا الحضارية، فإن الاغتراب بمعناه المؤلم نتاجٌ مؤكد، فلنلتفت إلى مرايانا أولاً، ثم فلنلتفت لمرايا الآخرين في الجهات الأربع لنبحث عن التقاطعات الجمالية والإنسانية..
لم يكن حضور مهرجان المسرح العربي في دورته الخامسة عشر سوى دليلاً دامغاً على أن المسرح العربي يوقد شعلته يوماً بعد يوم، وأن هناك رؤوساً حمَّالة فكر وثقافة وشغف ومداومة، فالحضور كان ما يربو على خمسمائة مبدع ومبدعة، قامات كبيرة من جميع نواحي وطننا العربي من المحيط إلى الخليج حضروا ليتعارفوا، وليتحابوا، وليقرؤوا معاً، وليعودوا إلى أوطانهم بهذا الوقد المشتعل في جوانحهم.
وفي جوانب هذا الكهف المسحور بالشغف، نتأمل كلمة الأستاذ إسماعيل –الأمين العام للهيئة العربية للمسرح- التي ألهبت جذوة المسرح في قلوب المبدعين حين قال: "ها هو يصل بين أيديكم محملاً بكل ما منحته تلك الحواضر من صور الإبداع والثقة بأن لدينا في وطننا الكبير كنوزاً ما زالت قيد الاكتشاف وإعادة الإنتاج، كنوزاً تعطينا حصانة التاريخ وجدارة الوجود، وأنتم يا خلاصة العصر من المسرحيين المبدعين أهلٌ لتكونوا سدنة هذا الميراث العظيم، أيها المسرحيون هذا إعلان بجدارتكم للحياة، وإعلان بجدارتكم للرسالة.". ويطرح تساؤلات وجودية المسرح بيننا، وهي تساؤلات جديرة بالاهتمام حين قال: "هل يفتح المسرحي عينه إلا على الحق والجمال؟ هل للمسرحي أن يختار غير مسالك النبلاء. هل يغمض المسرحي عينه إلا على حُلُم؟ فلنتبصر، أي مسرح هذا الذي نرهقه ويرهقنا على الخشبات؟ أي مسرح هذا الذي نريد؟ أي مسرح يجب أن نعطي ونبدع لنكون رسلاً وحملة رسائل؟ لنكون خطاباً جماعياً لجمهرة الناس، ولنكون جديرين بأن يختارنا التاريخ وتختارنا الذاكرة البشرية وتكتب أسماءنا في ألواحها بحروف الاعتزاز، هذا هو المسرحي الذي يمكن له أن يحدث الفارقة، فما المسرح إلا سجل شرف، يحمل في متنه أشرف القيم والسِيَّر".
ولذا فقد يميل مدونوا التاريخ؛ لكن المسرح لا يكذب على الإطلاق، فالمسرح عشق وأمل وطموح ومعاناة، لكنه هو دون غيره حارس هذا التاريخ ومدون الحضارات المتعاقبة. ولذلك يقول وهو محق: "عندما تسقط حزمة ضوء على الخشبة فهذا يعني أن إنساناً مسرحياً فاض بالحلم، وعندما يُسمع وقع الخطى تدب على الخشبة فهذا يعني أن إنساناً مسرحياً قد أقدم على المغامرة وصعد جبل الحكمة، عندما ترتفع ستارة المسرح فهذا يعني أن يد مُلْهَمٍ مُلهِمٍ تجلو بالحقيقة عتمة تحجب الجمال والحقيقة، وعندما يصدح صوت الفنان المسرحي على الخشبة فهذا يعني أن الفن يعلن للكون صرخة قيامة ونهاية طغيان الجهل ونداءً من أجل الحياة، التي يكون فيها الإنسان هو الأغلى، الأعلى، والأحلى".
فمن ذا الذي يعتقد أن المسرح دارا للهو والترفيه واستدرار الضحك والتسلية؟ والغالبية تعتقد ذلك للأسف الشديد، إذ لا بد أن نفهم وظيفته قبل أن نلج بين ردهاته ويدق دقاته الثلاث بأنه "الحياة التي تكون فيها الإنسانية نقية من شرور البشر، حياة هي حق لا منحة من أحد، حياة يكون العدل فيها سيداً لا عبداً أو مظلوماً، رهين جهل وعدوان". ولذلك قال في فهم شديد: " في المسرح وكأننا نقف على قمة شاهقة لننجو نحن والجمهور من الطوفان، طوفان الدم الذي يلطخ روزنامة هذا العصر، ولا يوقفه سوى استعادة الإنسان لإنسانيته، وطوفان الدم هو دم يطلب دماً، وثأرٌ يطلب ثأراً في حلقة لا تنتهي من الموت. في المسرح نبني سفينة الخلاص من خشب صدرونا، ونرفع شراعها من خافق قلوبنا، ونمنحها أكفنا وأعمارنا مجاديف لننجو وتنجو معنا قيم الحق والجمال والخير، قيم المسرح الذي خلقنا وخلقناه، أرادنا وأردناه، أرادنا حملة مشاعله ورسل رسالته وأردناه ملجأنا وخشبة خلاصنا".
ولكن في هذه الآونة الأخيرة قد يخون بعضنا المسرح، حيث نجعله وسيلة لجلب لقمة العيش والاقتتات على رفاته؛ بخلاف جيل عظيم بذل ما تحويه جيوبهم في سبيل النهوض بالمسرح، وهنا نطرح تساؤلاً مهماً: هل يحبنا المسرح أم نحن نحبه؟ وبين هذا وذاك يكمن الجواب بأن المسرح يأبى الاتجار به وعرضه في سوق النخاسة واستدرار شباك التذاكر بأي وسيلة كانت، وفي هذه الحال نصبح نحب أنفسنا فلا يحبنا ويضيع المعنى والوظيفة في المفازة.
وذلك يوصي إسماعيل في كلمته هذه والتي تصبح وثيقة مهمة في تاريخ المسرح: "وهنا أدعوكم وإياي إلى أن نكون بررة بالذي نحن بين يديه وألا نخون السيد النبيل المسرح، أن نخلص له حتى يكون للناس كما كان وكما ينبغي أن يكون، أن يكون للناس جميعاً كسرة معرفة تطفئ جوع العقول، وشربة فرح تروي ظمأ النفوس، ووردة فرح تهذب دور أكفهم وأياديهم، ونغمة تضبط إيقاع حركتهم، نعم، كما كان وكما يجب أن يكون سكينة لأرواحهم، وأماناً لحياتهم ونوراً يعبر الجدران التي باتت تحيط بهذا الإنسان. فما معنى المسرح إن لم يكن كذلك؟، وما معناه إن انسلخ عن جلدته وعن مصير وصيرورة تاريخ البشرية".
إننا إذا ما أحببنا المسرح أحبّه المتلقي لأن الصدق معدٍ لا محالة، وظيفة المسرح هي إحداث تلك العدوى بطاقة المجد والصدق والحب والسلام والوعي، وإلا فلا نلوم أنفسنا إذا ما أحجم الجمهور الحساس عن جنبات المسرح علّه فهم مداهنة سيفها المال والتسلق والتثاقف الممجوج، والبحث عن دور للظهور وكما جاء في كلمة إسماعيل: "الناس تحب أن ترى صورتها في صورتكم، فهل من المجدي أن نبحث عن صورتنا في مرايا الآخرين.. "القمح مر في حقول الآخرين والماء مالح". قد نجد في بعضها ما يشبهنا، لا بأس من التفاعل معه، أما أن نحاول التفاعل مع ما يناقض ملامحنا، ملامح تكويننا، وجيناتنا الحضارية، فإن الاغتراب بمعناه المؤلم نتاجٌ مؤكد، فلنلتفت إلى مرايانا أولاً، ثم فلنلتفت لمرايا الآخرين في الجهات الأربع لنبحث عن التقاطعات الجمالية والإنسانية، لنبحث عن سهوب تجمعنا ولنقرأ خارطة الجزر المنعزلة من باب الهوية. وأنسج على قول الشاعر وأقول: "مسارحنا بلا طعم بلا لون بلا صوتِ، إذا لم تحمل المصباح من بيتِ إلى بيتِ". فتحية لهذا الشاعر والمسرحي الكبير إسماعيل عبدالله، والذي يستحق أن يكون أميناً عاماً على المسرح العربي، والمغرم بفنه، وتحية لهذا الصدق في وقع كلماته، وتحية للهيئة العربية للمسرح بقيادة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي على حمل هذا الهم الكبير.