حين نركز على البلاطة المفقودة دومًا ونتجاهل جمال ما حولنا ونتكلف؛ يعني أننا سنستمر نلهث خلف الكمال والمثالية النسبية؛ هنا حياتنا لن تستقر، وأنفسنا لن تهدأ، وقلوبنا لن تشعر بالرضا أبدًا، وسنعيش حالة مرضية تهزمنا دومًا في معركة شكر النعمة والإحساس بمنة الله علينا..
ما بين الموجود والمفقود نضع أنفسنا الضعيفة التي تسوقنا إلى تقدير الأمور بطريقة غير متسقة، أو متزنة فنضع شجوننا وعقولنا في حالة من الصراع المتقلب الذي يفقد بصيرته في مشاهد معينة أو تضيق نظرته عن إبصار اتجاه محدد.
ظهرت فكرة توصف أنها متلازمة نفسية تتمثل في مصطلح البلاطة المفقودة، وهو بحسب ما نشر أنه "اتجاه نفسي يكمن في الميل البشري إلى التركيز على ما هو مفقود، أو غير كامل في الحياة بدلا من تقدير ما هو موجود ومكتمل".
لك أن تراجع وعيك وتفكر وتستمتع بمشاهدة وتأمل ذلك الصالون فتنظر إلى تلك الأرضية المرسومة ببلاط رخامي فائق الجمال تتنقل بنظراتك هنا وهناك وقبل أن تضج بإعجابك تقع عينك على بلاطة مفقودة هناك في تلك الزاوية البعيدة ثم تتسمر عاطفتك بصمت آني.. وبدلا من الإشادة والترنم بالجمال فيما حولك ورأيته قبلا من حولك يتجمد انتباهك ويتشبث بمنظر البلاطة المفقودة فتتوقف عن البوح لأنك مشغول بإعادة حسابات وعيك وبرمجة وجدانك وتبديل موقفك لتنتقل من المدح إلى النقد، ومن الإشادة إلى الإعادة، وتقفز بعيدا عن الموجود إلى المفقود.
تبرز حقيقة مؤلمة أن كثيرا من الناس عادة يتركون التركيز على ما بين أيديهم وعندهم من الوفرة في النعم والخيرات والعلاقات والموجودات والانجازات، ويشغلون عقولهم وقلوبهم بالتركيز على ما يفتقرون، أو ليس لديهم وبين أيديهم.. ووفقا لقانون الجذب فإن ذلك يقربهم أكثر من الأشياء والممارسات التي لا يريدونها، ويسبب زيادة في النقمة، وعدم الرضا والتركيز المستمر على ما هو غائب ومفقود هنا قد يقود الأمر إلى أن يكون الشخص المتذمر والناقم إلى تعاسة مزمنة وإحساس بعدم اكتمال ومثالية وانخفاض الامتنان في حياته، والأخطر من ذلك اتجاهه إلى تزعزع الدين وبروز الشك في تدبير وتقدير الله -عز وجل- وما يكتبه من قضاء وقدر في خلقه.
في بيوتنا.. في أعمالنا.. في عموم حياتنا.. بين أسرنا وأبنائنا هل ساد جو الامتنان والرضا فيما بين أيدينا؟ كم من المرات ونحن على طعام كامل صرخ بيننا أحدهم ليت ذاك الطعام المفقود يكون على مائدتنا؟ وذلك الموظف الذي يردد ليتني مكان فلان أو لدي مثل ذاك.. وهذا الثري الذي يملك ما يتمناه الأقل تجده ينافح ويصخب أن ما لديه من أرقام مالية أقل من ثري آخر.. ومن يملك دراجة يريد سيارة، ومن يملكها يريد غيرها أحسن منها، ومن يملك الأحسن يريد طائرة.. وهلم جرا.
صور ومشاهد متعددة في سياقات ما بين الرضا والسخط، والامتنان والجحود، والقبول والرفض، والاعتراف بالنعم والنكران؛ لذا تجد الكثير غير المحتاج والمتفنن في كثافة السخط حبستهم الديون، وأسرتهم القروض، واعتقلتهم العهود، لأن كثيرا منهم تجاوز عيشته المفروضة المستقرة إلى تطلع عيشة الآخر ولن يصل بعدها.. حين نركز على البلاطة المفقودة دوما ونتجاهل جمال ما حولنا ونتكلف؛ يعني أننا سنستمر نلهث خلف الكمال والمثالية النسبية؛ هنا حياتنا لن تستقر، وأنفسنا لن تهدأ، وقلوبنا لن تشعر بالرضا أبدا، وسنعيش حالة مرضية تهزمنا دوما في معركة شكر النعمة والإحساس بمنة الله علينا.
حين نسعى في التغيير إلى الأحسن بطموح ونحن نمتلئ بإحساس الامتنان والحمد والشكر لله فنحاول بذل الأسباب المقدرة لنا دون تجاهل ما بين أيدينا فهذا أمر مندوب وواجب ولا عيب لأننا نسعى إلى الأحسن، ولكن حين تملك الأحسن ولا ترضى فتنقم هنا السقوط.
يبقى القول: علينا أن نحدث توازنا نفسيا معتدلا بين الاستمتاع بما نملك ويحضر وبين ما نطمح إليه في حدود المنطق والقبول والامتنان، حيث إنها إشكالية كبرى حين نرهن أنفسنا بالتفكير في الأشياء التي نفتقدها، ولا ندرك أن هذا العمل في حد ذاته هو الذي يقحمنا في متاهات السخط دوما، ويغرس داخلنا ذاتًا ثائرة على ما لديها من نعم الله -عز وجل- ويزيحنا عن حياتنا الطبيعية.