تسير العلاقات الأميركية - الأوروبية بشكل واضح نحو الاستقلال الاستراتيجي حتى قبل وصول ترمب إلى البيت الأبيض، إذ يُلاحظ أن أوروبا سرّعت خطواتها نحو تعزيز الاعتماد الذاتي في مجالي الدفاع والطاقة بشكل واضح. ففي مجال الدفاع، أُنشئت فرق التدخّل السريع المشتركة في الاتحاد الأوروبي، وزيدت ميزانية الدفاع الأوروبية المشتركة بنسبة 8 % عام 2023 لتصل إلى 270 مليار يورو. أما في مجال الطاقة، فقد خفّضت أوروبا اعتمادها على الغاز الروسي من 40 % عام 2021 إلى أقل من 10 % في 2024. وارتفعت حصة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة الأوروبي إلى 22.1 % في عام 2023، مع هدف الوصول إلى 42.5 % بحلول عام 2030.
وما إن وصل الرئيس الأميركي ترمب إلى السلطة حتى أعلن من جهته عن مراجعة شاملة لوضع الناتو ونفقاته، وأبدى نيته تقليل الدعم الأميركي للحلف (تشير التقديرات إلى أن الولايات المتحدة تتحمّل نحو 70 % من إجمالي الإنفاق الدفاعي للحلف). وهذا الوضع سيدفع أوروبا إلى المزيد من تسريع مبادراتها نحو تحقيق تكامل منظوماتها الدفاعية. وسيكون هذا الأمر أشبه بإدارة أزمة وجودية على وقع سياسة ترمب الخارجية "المعتمدة على الصفقات"، وعزمه تحقيق تسوية سريعة في أوكرانيا دون مشورة أوروبا، مما يُخاطر -حسب الأوروبيين- بشرعنة الاحتلال الروسي، وإعطاء بوتين ميزة النصر، وتهديد أمن أوروبا. وإنْ تمّت هذه التسوية، فقد تنقسم مواقف أوروبا بين دول تؤيد استمرار الدعم لأوكرانيا (مثل بولندا ودول البلطيق) وأخرى ستُفضِّل، مضطرّة، خيار الاستقرار الاقتصادي مع تسوية السلام في أوكرانيا (مثل ألمانيا وفرنسا).
ومما يخشاه الأوروبيون في الداخل أيضًا تزايد صعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية، في دول مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وفي البرلمان الأوروبي، متّسقًا مع اليمين الأميركي (بزعامة ترمب)، مما سيُضعف أي فرص لاستمرار حصار روسيا، بل قد يُخرجها من أزمتها قوية متربّصة، مما سيُغير معادلة توازن القوى العالمية، وبشكل خاص سيؤدّي إلى تقليص الدور العالمي الأوروبي.
ومن جهة أخرى، فإن أوروبا تتوجّس من صعود القوى الإقليمية، مثل الهند وتركيا والمملكة العربية السعودية، مما سيُضعف من هيمنة الكيانات الغربية (الأوروبية) على القرار في غياب الدعم الأميركي. ويحذّر الأوروبيون شريكهم الأميركي (وهو يرفع السوط فوق رؤوسهم) من أن مرونة سياسات ومصالح هذه القوى الجديدة قد تصنع نوعًا من التحالف مع الصين، التي يخشون أن تستغل انشغال أوروبا بلملمة آثار الخذلان الأميركي للتآزر مع هذه القوى الصاعدة ومع روسيا (ارتفع التبادل التجاري بين الصين وروسيا إلى 240 مليار دولار عام 2023، بزيادة 40 % عن 2021). وهذا سيؤدّي بالتالي إلى تقليص النفوذ الغربي في الجنوب العالمي عبر مبادرات مثل مجموعة بريكس+ ومشروع الحزام والطريق، الذي بلغت استثماراته تريليون دولار عبر 150 دولة.
وبطبيعة الحال، فإنه إذا حصلت تسوية سريعة في أوكرانيا، فستُضعف بقية الثقة الأوروبية في القيادة الأميركية. وهذه الحال، ستدفع دول أوروبا إما نحو الانكفاء الذاتي أو نحو تسريع خطواتها لبناء تحالفاتها وفق مصالحها، دون اعتبار كبير للتقاليد المرعية في منظومة الناتو، أو لما فرضه الأميركيون من مبادئ في أوروبا منذ الحرب (الغربية) العالمية الثانية.
وإنْ غيب الظُلم عميقَ الماضي.. سيأتي مستقبلٌ فيه جلّادٌ وقاضي..