تُعدُّ ترجمة الـ «فولغاتا» للقدّيس جيروم في القرن الرابع الميلادي من أوائل الترجمات التي اعتمدت على المعنى في التاريخ البشري. إذ تعتبر فولغاتا أول ترجمة للكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، تَستندُ على المعنى لا على المفردات، وتعتمدُ على النص الأصل «العبري» لا النص الوسيط «اليوناني»، في زمنٍ استمرت فيه ترجمة الكتاب المُقدّس إلى اللاتينية عبر لغات وسيطة لأكثر من 400 عام، حتى جاء القديس جيروم بفتحه «الترجميّ» الذي استمر تأثيره وأثره حتى يومنا المعاصر.
وبقصد أو دون قصد، أثّر عمل القدّيس جيروم إيجاباً على عملية الترجمة من جانبين: الأول، عبر الترجمة مباشرة بين لغتين بلا لغة وسيطة باللّجوء إلى النص الأصل لتفادي الركاكة الُلغوية الحَرفية والمعنوية التي شهدتها الترجمة لما يقارب 6 قرون. والثاني، عبر الترجمة بالاستناد على المعنى الذي تغلّفه الكلمات في السياقات المختلفة، وعدم إخراجه من سياقه بترجمة المصطلحات كلمة بكلمة.
وبعيداً عن قصة الفولغاتا الموثّقة الحقيقية التي تشبه بعض الأساطير الفكرية مثل الترجمة السبيعنية للكتاب المقدس، فإن اهتمام القديس جيروم بالمعنى وإقراره التاريخي بأن ترجمته للكتاب المُقدس اعتمدت على «المعنى» لا الكلمات، فتح باب مدرسة الترجمة بالمعنى على مصراعيه. ومن هناك، مرّت الترجمة بصفتها عملية عقلية، ومنتجًا فكرياً بمسار لم يخلُ أبداً من التحولات، والعقبات، والتحديات التي ما زالت تواجهها حتى يومنا هذا.
ولأن المعنى في الترجمة بات جوهر المصطلح، ولُبّ العبارة، ومحور السياق، وركيزة الأسلوب، حُكِمَ على المترجم أن يعاني، وأن يخوض صراعاته الخاصّة مع المفردات، والمصطلحات، والثقافة، والتاريخ، والعلوم، والفنون، ليتمكن أخيراً من صياغة منتجه الفكري النهائي بعد اتخاذه العديد من القرارات المعقدة والصعبة أحياناً. إذ يختبر المترجم، في رحلته التي يفكُّ فيها شفرات رموز نص أصل وسياقاتها لاستخراج المعنى قبل إعادة تشفيره من جديد إلى لغة هدف، ما أُسمّيه بـ «باريدوليا الترجمة»، ظاهرة تحدث عند المترجم أحياناً فيها يتوهّم المعاني ويتصوّرُها بناءً على قُربها من ثقافته، وأديولوجياته، وتصورّاته الخاصة التي اكتسبها من البيئة المحيطة به خلال حياته. إن الباريدوليا في أصلها، ظاهرة نفسية تُعرف أيضاً باسم «ظاهرة التوهّم المرئي»، وتحدث عندما نفسّر أو نفهّم بعض الأشياء بناءً على تصوراتنا المسبقة لها أو استناداً على معتقداتنا الدينية والروحية، أو ما شبه ذلك، هي تماماً تلك الظاهرة التي يرى فيها الشخص المُسلم لفظ الجلالة «الله» على الفاكهة أو في الصّور المُلتقطة، أو عندما يرى الشخص المسيحي مريم العذراء والمسيح -عليهما السلام- في الديانة المسيحية، ويُمُكن التمثيل عليها في رؤية الوجوه في الأشياء، وتخيلها وتفسيريها بطريقة منطقية، بينما لم يُقصد بها ذلك.
إنّ لدى كل إنسان فردانية في تصورّاته الخاصة للأشياء، تماماً كما تفرّد كلّ الإنسان ببصمات أطرافه، وعينيه، وصوته، وتركيبة أسنانه، وعظام وجهه. ولذا، كان لزاماً أن يكون للفرد تصوّرات وتخيّلات فريدة للأشياء يكتسبها من البيئة التي ترعرع فيها ونما منها، إذ عندما نطلب من شخص بدويّ، يعيش في صحراء نجد حياته كلها، أن يتخيّل «شجرة»، فإنه سيتخيلها وسط الصحراء ومن الأنواع الصحراوية التي تتحمل الجفاف، في الوقت الذي سيتصوّر فيه ابن قرية جنوبية سعودية تلك الـ «شجرة» محاطة بأشجار أخرى في منطقة جبلية، وربما يتكئ على جذعها قرد بابون. إذاً تتعلّق المسألة بالانعكاسات الطبيعية لبيئة الفرد، وكذا هو حال المترجم.
حيث يسعى هذا الأخير لترجمة النصوص مُحتزمًا بقدراته اللغوية «لغتين على الأقل» ومُتذخراً بكفاءته وكفاية مهاراته الترجمية التي منها الحياد الكُلّي، وإقصاء التصورات المسبقة، وصدّ الظواهر النفسية مثل الباريدوليا، التي أزعم ارتباطها ارتباطاً وثيقا بأيدولوجية المترجم.
لا يقتصر دور المترجم في نقل المعنى والنص من لغة إلى لغة، بل عليه أن يكون وسيطاً ثقافياً، وأن يعتمد تصوّرات الجماعات شريحة القرّاء لا تصوّراته الخاصة عند النقل، كما أن عليه أن يلفُظ كل إيديولوجية وأن يرفُض كل انعكاسات وجهه في المرآة. على المترجم أن يتقمّص دور الكاتب الأصلي للنص، وأن يبحث في نيات الكاتب، وقصديّاته، وحتى أيديولوجياته وباريدولياته! فالمترجم ليس سوى كاتب ثانٍ للنص، وانعكاس للكاتب الأصلي.