أتصور أنه من المهم بناء "صيغة تعاونية" بين مؤسساتنا الإعلامية والصحافية من جهة، والمؤثرين من جهة أخرى، ولكن ضمن إطار من الضوابط المهنية، واستخدامهم في تقديم الأخبار والمحتوى بأسلوب إبداعي، ولكن تحت إشراف تحرير محترف يضمن دقة المعلومات..

تشهد صناعة الأخبار تغيرًا كبيرًا نتيجة للتطورات في التقنية الرقمية وازدهار وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما تناوله تقرير معهد رويترز لدراسة الصحافة لعام 2025 هذا الموضوع، مستندًا إلى استطلاع شمل آراء 326 من كبار القادة في مؤسسات إعلامية من 51 دولة. يقدم التقرير تحليلًا شاملاً للتحديات والفرص التي تواجه الإعلام التقليدي في ظل زيادة تأثير المؤثرين.

على الرغم من اتساع موضوعات التقرير، إلا أنه سلط الضوء على نقطة مهمة جداً، وهي أن المؤثرين أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من المشهد الإعلامي، خصوصاً بين الجيل الجديد (Z) فهؤلاء المؤثرون أصبحوا مصدراً رئيساً للأخبار من خلال دمج الترفيه والتحليل، والابتعاد عن الأسلوب التقليدي الذي تتبعه وسائل الإعلام. ومع ذلك، يشير التقرير إلى مخاطر هذا التغيير، حيث إن معظم هؤلاء المؤثرين يفتقرون إلى الخبرة الصحفية، ولا يتبعون تدقيق المعلومات قبل نشرها، مما قد يؤدي إلى انتشار الأخبار المضللة.

فيما يخص أولويات الناشرين في هذا العام، يظهر التقرير اتجاهًا متزايدًا نحو تعزيز التعاون مع منصات الذكاء الاصطناعي مثل OpenAI وPerplexity، بهدف تحسين تجربة المستخدم وزيادة التفاعل. كما يتجه الناشرون إلى استخدام قنوات بديلة مثل WhatsApp وLinkedIn، في ظل تراجع دور فيسبوك الذي أصبح أقل فائدة للصحفيين وأقل جذبًا للجمهور.

ومن النقاط التي أثارت اهتمامي بعد الاطلاع على النسخة الأصلية للتقرير هي زيادة استثمار المؤسسات الإعلامية الكبرى مثل BBC وThe Economist فيما يُعرف بـ "الفيديو الاجتماعي"، وهو المحتوى المرئي الذي صُمِّم خصيصًا لتناسب منصات التواصل الاجتماعي، ويتميز هذا النوع بمدة قصيرة، وسهولة في الاستهلاك، بالإضافة إلى ملاءمته لمتطلبات كل منصة من حيث الأبعاد وطريقة العرض. الهدف من هذا المحتوى هو تحقيق تفاعل سريع مع الجمهور، وغالبًا ما يتضمن عناصر بصرية جذابة مثل النصوص المتحركة والتأثيرات البصرية، مما يساعد على جذب الانتباه في بيئة رقمية غنية بمحتوى متنوع.

وكشف التقرير أن الذكاء الاصطناعي التوليدي سيحدث تغييرات جذرية في مجال الصحافة، حيث أشار معظم الناشرين إلى أن هذا التقدم سيساعد على تحسين عمليات التحرير والتدقيق، بالإضافة إلى إمكانية إنتاج محتوى مخصص يتناسب مع اهتمامات الجمهور، فيما يُتوقع أن يسفر ذلك عن أتمتة عملية جمع الأخبار، مثل التحقق من المعلومات والصحافة الاستقصائية التي تعتمد على البيانات. ومع ذلك، تبرز مخاوف من أن الانتشار السريع للمحتوى المدعوم بالذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى تقليل مصداقية الأخبار، خصوصًا مع زيادة المحتوى المستنسخ ذي الجودة المنخفضة.

ومن أبرز الاستنتاجات الواردة في التقرير هو الاتجاه نحو التعاون بين المؤسسات الإعلامية والمؤثرين، فقد بدأ بعض الناشرين بالفعل في الاستعانة بالمؤثرين لإدارة قنواتهم على منصات مثل TikTok وSnapchat، كما فعلت صحيفة "لوموند" الفرنسية، ويأتي هذا التعاون بدافع المصلحة المشتركة، حيث تستفيد المؤسسات من قاعدة المتابعين الكبيرة للمؤثرين، بينما يحصل المؤثرون على مصداقية أكبر من خلال ارتباطهم بالعلامات الإعلامية التقليدية.

استنادًا إلى المعلومات الرئيسة في التقرير، يمكن تقديم بعض التوصيات التي ستساعد المؤسسات الإعلامية السعودية في تحسين استراتيجياتها، ومن الضروري هنا اعتماد نهج متعدد القنوات لتعزيز الوجود الإعلامي على المنصات الرقمية الجديدة، والاستفادة من الأدوات التي توفرها تقنيات الذكاء الاصطناعي، كما يجب زيادة التركيز على دمج الفيديوهات القصيرة والمحتوى البصري في المنصات الإخبارية لتلبية احتياجات الجمهور الشاب الذي يميل بشكل متزايد نحو المحتوى المرئي والمتحرك. بالإضافة إلى ذلك، يعد توسيع خدمات الاشتراكات الرقمية أحد الحلول التي تعزز الاستدامة المالية للمؤسسات الإعلامية، كما يتضح في نموذج "نيويورك تايمز".

أتصور أنه من المهم بناء "صيغة تعاونية" بين مؤسساتنا الإعلامية والصحافية من جهة، والمؤثرين من جهة أخرى، ولكن ضمن إطار من الضوابط المهنية، واستخدامهم في تقديم الأخبار والمحتوى بأسلوب إبداعي، ولكن تحت إشراف تحرير محترف يضمن دقة المعلومات.

ومن التوصيات المهنية أيضًا، ضرورة استثمار مؤسساتنا الإعلامية في حلول الذكاء الاصطناعي لتعزيز عمليات التحرير، وتحليل بيانات الجمهور، وتحسين تجربة المستخدم من خلال المحتوى المخصص، مع وضع معايير وضوابط جديدة لمكافحة الأخبار المضللة وضمان التحقق من المعلومات قبل انتشارها على نطاق واسع، خاصة من قبل المؤثرين الذين ينقلون الأخبار للجمهور دون تدقيق كافٍ.

فعليًا، تعيش صناعة الأخبار تحولًا ديناميكيًا متسارعًا، مما يستدعي من المؤسسات الإعلامية التقليدية أن تتبنى أنماطًا جديدة تتماشى مع هذا التحول الجذري، وفي هذا السياق، يقدم تقرير معهد رويترز لدراسة الصحافة لعام 2025 رؤى استشرافية حول الاتجاهات المستقبلية، والتي تشكل خارطة طريق لصناع القرار الإعلامي في المملكة، لضمان استمرارية تأثيرهم في الساحة الإخبارية والحفاظ على مكانتهم المرموقة في عصر الإعلام الرقمي.. دمتم بخير.