ها هي العشر الأواخر من رمضان قد دخلت، وقد ذكر العلماء أن هذه الليالي أفضل ليالي العام، ومن سنّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان، فعَنْ عَائِشةَ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ»

من رحمة الله تعالى بعباده أن نوّع لهم الأعمال التي تقرِّبهم إليه، ووقَّت الطاعاتِ البدنيّةَ والماليّةَ بأوقاتٍ تؤدَّى فيها، فكان منها المتكررُ في اليوم كالصلوات، ومنها الأسبوعيُّ كالجمعة، ومنها ما هو موسمٌ سَنويُّ كرمضانَ والحجِّ، وكلٌّ من هذه العبادات فرصةٌ عظيمةٌ لالتماسِ الزُّلفى لدى الله تعالى، يجب أن ينتهزها المحسنُ التائقُ إلى زيادة حسناته، والمسيء الراغب في التخلص من سيئاتِه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» أخرجه مسلم، وهذا وعدٌ من الله تعالى لمن أدى الفريضة في هذه الثلاث، لكن الفرص غير مقصورة في هذا، ففي اليوم نوافلُ صلاةٍ ترتفع بها الدرجات، وتُحطُّ بها الخطايا، كما أن في الجمعة ساعة الإجابة التي تُستثمر لنيل خيري الدنيا والآخرة، أما رمضان فحدث ولا حرج عن تنوُّع الفرص في موسمه، وهذا مما ينبغي أن يزيد المشمّر تشميراً، وأن يبعث المقصّر من رقدة الكسل، وأن ينتشله من قبضة الخمول، وها نحن مُقبلون على لياليه العشر الأواخر، وهي مجالُ الجدِّ ومضمار المسابقة إلى الخيرات، ولي مع بقاء الفرصة وقفات:

الأولى: شهر رمضان المبارك متجرٌ حاشدٌ للحسنات، تُجنى منه الأجور الوفيرة مقابلَ الأعمال الميسورة، ومن دخل هذا المتجرَ وخرج منه صفرَ اليدين، فقد فرَّط تفريطاً مدوّياً، كما يدل عليه حديثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللهُ تعالى عنه, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم: (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِندَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِندَهُ أَبَوَاهُ الكِبَرَ، فَلَمْ يُدْخِلاَهُ الجَنَّةَ) أخرجه الترمذي وصححه الألبانيُّ، ومع أنَّ صومَ الشهر فريضةٌ لا تتجزأ في حقِّ من لم يُعذر، ولا تبرأ الذمة إلا بإتمامه، إلا أن للموسم وظائفَ كثيرةً، تمتدُّ إلى آخر ليلةٍ من لياليه، ينبغي للمسلم أن يحرص على أن يضرب فيها بسهمٍ، وأن لا يستقلَّ من ذلك شيئاً، وعليه أن ينظرَ في عمله -من غير اغترارٍ ولا امتنانٍ على الله بالعمل- فإن رأى ما يرجو أنه إحسانٌ ازداد إقبالاً، وإن أحسَّ بالفتورِ فليشجّعه أن مأدبة المغفرة الرمضانيّة لا تزال موائدها معروضةً طيلةَ الشهر، ولا تُرفعُ إلا بانصرامه، وهو مدعوٌّ إلى الإقبال فيها، وإن فاتته الليلة الماضية، فعسى أن يُشمَلَ بالعتق من النّار الليلة المقبلة، فَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ في كُلّ لَيْلَةٍ من رمضان كما صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

الثانية: ها هي العشر الأواخر من رمضان قد دخلت، وقد ذكر العلماء أن هذه الليالي أفضل ليالي العام، ومن سنّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان، فعَنْ عَائِشةَ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ»، متفق عليه، ومن بين هذه العشر ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، وذلك يُساوي ثلاثة وثمانين سنة وأربعة أشهر، ومعنى ذلك كما قرره العلماء أن العمل في هذه الليلة أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، فإذا عمل فيها المسلم عملاً صالحاً كان ثوابه أفضل من ثواب نظيره في ألف شهر، وقد أخفى الله تعالى عنا تعيينَ ليلة القدر بالنّصِّ، وصحَّ من حديث سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، ثُمَّ أُنْسِيتُهَا - أَوْ نُسِّيتُهَا - فَالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ فِي الوَتْرِ)، متفق عليه، والحكمة في هذا أن نلتمسها باجتهادٍ، وقد ذكر العلماء أن ليلة سبعٍ وعشرين أرجى الأوتار.

الثالثة: أولى ما يحرص في عمله في ليلة القدر قيامها، فهو سببٌ لمغفرة الذنوب، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، وكذلك تلاوة القرآن الكريم؛ فإن التلاوة من الأعمالِ التي تُضاعفُ أجورها، وقد صح أن للقارئ حسنة بكل حرف، والحسنة بعشر أمثالها، فتخيّل هذه الميزة مع ميزة أن ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر، وكذلك النفقة التي جعل الله تعالى فيها للمنفق سبعمائة ضعف على الواحدة من نفقته، كما يدل عليه قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، هذا في الأوقات العاديّة فما بالكم بصدقةٍ في ليلةٍ هي خيرٌ من ألف شهر؟!