يأتي شهر رمضان محمَّلًا بالنفحات الروحية والأجواء الإيمانية التي تُضفي على الحياة طابعًا مختلفًا، فتتغير فيه العادات والطقوس، وتنعكس أجواؤه على مختلف الفئات، ومنها الشعراء الذين يجدون أنفسهم بين حالةٍ من السكينة والتأمل، وبين صيام آخر عن الإبداع.
ففي كل رمضان أتساءل عن الشعر فيَّ، فيجيبني غيابه، وأتساءل عنه لدى الأصدقاء فتداهمني طقوسهم غير الشعرية، أعود لأتساءل عن الغاوين، وجلّهم يأخذهم القرآن في مجمل الوقت الرمضاني في حين يستأثر التاريخ غالباً في البقية الباقية منه، فيسقط زمن الشعر من يومهم الرمضاني، كما ذكر لي أكثر من غاوٍ يتتبّع ظلي.. صداقةً أو كرامةً شعرية، أو حتى بغرض إتمام بحث دراسي...
يغيب الشعر غالباً عن طقوس رمضان، وكأن هيبة شهر الصوم المقدّسة تنكر على الشعر اتهامه التاريخي بالغواية.. على الرغم من حالة الاستثناء التي جاءت بها الآية الكريمة من أجل تبرئة الشعر من مطلقها، ما نعرفه عن هذه القطيعة التاريخية تعميقها وتكريسها عن طريق ربط الشعر بها مطلقاً كما هو الحال لدى أمير الشعراء في العصر الحديث أحمد شوقي (صاحب الشوقيات في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم)، حينما جعل من رمضان عائقاً نفسياً لحرية اللهو والشعر والسمر لديه بقوله: (رمضان ولّى... ) لكن رمضان يعود في كل عام، والقصيدة تصوم فيه أيضاً..
أعود إلى محاولة فهم طبيعة هذه القطيعة عن طريق تسطيحها اجتماعياً وفقاً للصورة التقليدية المتخيلة لطقوس كتابة القصيدة (كوب قهوة وسيجارة) وأجدها ممكنة مساءً، لا سيما وهي أيضاً وأعني الصورة المتخيلة لطقوس القصيدة ارتبطت بالليل بمعنى أنها لن تتأثّر بالخصوصية الرمضانية المتمثلة في صيام النهار، وبالتالي لا يمكن لمثل هذه الطقوس أن تكون سبباً رئيساً في هذه القطيعة... لكن الطريف في هذا الشأن المتعلّق بغياب الشعر والشاعرية إجمالاً في رمضان ما ذهب إليه أولئك المناوئون للشعراء وقصائدهم (ولا سيما شعراء النصوص الحديثة) الذين يحظون بحظٍ وافرٍ من القطيعة والشماتة من قبل تيّارٍ غير قليل من مجتمعنا المسلم بعد أن قرن بصورة أو بأخرى بين النص الشعري الحديث المتطوّر رؤيوياً والفساد العام في الذوق والأخلاق معاً، فهم لا يرون في أشعارهم إلا الغواية في كل الأوقات، لذلك توصّلوا إلى تفسير نفسي وديني وأحادي لا يخلو من الطرافة، حينما آمنوا بمبدأ (شيطان الشعر) لدى كل الشعراء استناداً على حبسه مع أقرانه من الشياطين في رمضان فيتوقف الشعراء عن كتابة غوايتهم، في ظل غياب شيطان الشعر لدى كلٍّ منهم...!
هذه بعض الجوانب المتفاوتة التي تجتهد في تفسير هذه القطيعة بين الشعر ورمضان، على أني أرى أن الأمر كما يبدو لي أكثر عمقاً وأكثر رؤياً، يتمثل في حالة الكتابة الشعرية المعاصرة ذاتها حينما تنشدُ المطلق في كل شيء، في النوم والسهر والأكل والتدخين ومباشرة الحياة بشكل كامل من أجل خلق فضاءٍ شعريٍّ بلا قيود.. وبإمكان القصيدة حينها أن تتشكّل رؤيا على شكل فقاعة في الفضاء، لا يهمها أين ستنفجر؟ أو متى؟ أو من هم الذين سيتشاركون في استنشاق هوائها الرطب...؟
فالقصيدة المعاصرة كما يخيّل إلي تولد بلا ضوابط تأمّلية، وبلا حسابات زمنية، وبلا مخالجاتٍ روحية.. حالة من السكر الوجداني الخالص المتحرّر من الصحو، في حين أن الروح المسلمة متكيّفة دائماً مع خصوصية رمضان ومروّضةً لنفسها عليه فيما يتعلّق برغباتها ونزعاتها وحتى تأملاتها.. لكن القصيدة الحديثة الجادة لا تكون في أجمل حالاتها إلا حينما تتلبّسها حالة من تمرّد لا تأتي مع الترويض، فضلاً عن قلقها الدائم الذي لا يتّسق مع السكينة الرمضانية حيث لا تشكِّل محضنًا لها، وينطبق هذا على كل حالات القصيدة الزمنية من أول التخلّق حتى آخر التلقّي... ولهذا ربما يغيب الشعر في رمضان، ويحضر بعده حيث تعود الروح المتأمّلة من رحلة استسلامها المقدّسة لمناقشة الوجود وقراءته بحالة من التمرّد المستفز، عله يكشف لها بعض أسراره مجدداً...!